نقد مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [8]

ادّعىٰ عبدالحسين أن الأحاديث الحاكمة بوجوب التّمسّك بالثّقلين القرآن والعترة متواترةٌ، وهـٰذه دعوىٰ عريضةٌ لا خطام لها، وتحتاج إلىٰ إثبات، ودون ذٰلك خرط القتاد.

ثمّ سرد في الفقرات (3، 7) عدّة أحاديث؛ ومن خلالها حكم بتواتر أحاديث التّمسّك بالعترة، وها هي مناقشةٌ علميةٌ لهـٰذه الأحاديث، وسأذكرها مرتّبةً علىٰ التّرتيب نفسه الذي ذكره.

[1] حديث جابر: «يا أيها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي».

أوّلاً: ذكر الشيعي أن التّرمذي والنّسائي أخرجاه، لكن لم يخرّجه سوىٰ التّرمذي فقط([1]).

ثانياً: الحديث أخرجه الإمام التّرمذي في «جامعه» (3786)، والطبراني في «المعجم الكبير» (2680) كلاهما من طريق نصر بن عبدالرّحمٰن الوشّاء، عن زيد بن الحسن الأنماطي، عن جعفر بن محمد([2])، عن أبيه([3]) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله  في حجّته يوم عرفة وهو علىٰ ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها النّاس! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»([4]).

وقال التّرمذي عقبه: «وفي الباب عن: أبي ذرّ، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد. وهـٰذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هـٰذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روىٰ عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم».

قلت: الحديث مردودٌ إسناداً ومتناً، ولا تقوم به حجّةٌ لعدّة أسباب:

  1. فيه زيد بن الحسن الأنماطي القرشي، أبو الحسين الكوفي، صاحب الأنماط، كما يستفاد من أقوال النّقّاد، وقد ذكره البخاري في «التّاريخ الكبير»؛ ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً([5]).

وقال أبو حاتم الرّازي: «منكر الحديث»([6]). وذكره ابن حبّان في كتابه «الثّقات»([7]). قلت: ولم يحتجّ به في «صحيحه».

وقال الذهبي في «الميزان»: «وقوّاه ابن حبّان»([8]). وقال في «الكاشف»: «ضعّف»([9]). وذكره في كتابيه: «المغني في الضّعفاء»، و«ديوان الضّعفاء»([10])، وذكر فيهما تنكير أبي حاتم لحديثه.

وقال الهيثمي: «رواه الطّبراني، وفيه زيد بن الحسن الأنماطي؛ قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثّقه ابن حبّان»([11]).

وقال الحافظ ابن حجر: «ضعيف»([12])، وهـٰذه الرّتبة جعلها الحافظ ــ كما في مقدمة تقريبه ــ للراوي الذي: «لم يوجد فيه توثيقٌ لمعتبر، ووجد فيه إطلاق الضّعف ولو لم يفسّر»([13]).

قلت: هـٰذا هو حال المترجم؛ إذ لم يوثّقه سوىٰ ابن حبّان، وهو من المتساهلين في التّوثيق.

  1. هـٰذا الحديث منكرٌ([14])، وذلك لمخالفة زيد الأنماطي ــ وهو ضعيف ــ رواية الثّقة، وهو حاتم بن إسماعيل المدني([15])؛ إذ روىٰ حاتمٌ هـٰذا الحديث ــ المسمّىٰ بحديث حجّة النّبي ــ مطوّلاً في «صحيح مسلم» ــ عن جعفر الصّادق، عن أبيه البّاقر، عن جابر، وليس فيه: «وعترتي أهل بيتي»، بل فيه: «تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله»([16]).
  2. لو افترضنا جدلاً أن رواية التّرمذي مقبولةٌ صحيحةٌ، فمقتضىٰ قواعد التّرجيح ــ المقرّرة والمعمول بها عند أهل الحديث ــ تقضي بأن تقدّم رواية «صحيح مسلم» علىٰ رواية «جامع التّرمذي». أو بمعنىٰ آخر أدقّ: إن تصحيح الإمام مسلم مقدّمٌ علىٰ تصحيح الإمام التّرمذي.
  3. ومما يزيد في ترجيح رواية «صحيح مسلم» ويشهد لها: رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه، وقد أخرجها الإمام مسلمٌ أيضاً في «صحيحه» ــ ولفظها: قام رسول الله يوماً فينا خطيباً بماء يدعىٰ خمّاً بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنىٰ عليه ووعظ وذكّر، ثمّ قال: «أمّا بعد؛ ألا أيها النّاس! فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين أوّلهما: كتاب الله فيه الهدىٰ والنّور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به». فحثّ علىٰ كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال ــ: «وأهل بيتي؛ أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي!»([17]).

وليس في هـٰذه الرواية إلّا الحثّ علىٰ التّمسّك بكتاب الله تعالىٰ، والوصاية بأهل البيت.

تنبيه: كل من ضعّف زيداً الأنماطي فهو بالضّرورة قد حكم علىٰ إسناد هـٰذا الحديث بالضّعف والرّدّ، وقد تقدّمت أقوال من ضعّفوه.

ويضمّ إلىٰ من ضعّفوه: الشّيخ الألباني، حيث حكم عليه قديماً ــ قبل عام (1380هـ) في تعليقه علىٰ «مشكاة المصابيح» ــ بقوله: «إسناده ضعيف»([18]) أي لضعف الأنماطي وإن لم ينصّ عليه الشّيخ.

ثمّ بعد مدّة أورد الألباني رحمه الله هـٰذا الحديث في كتاب «سلسلة الأحاديث الصّحيحة»([19]) المطبوع سنة (1404هـ)، وضعّفه لأجل الأنماطي، ولكنّه صحّحه لشواهده كما قال.

ثمّ ساق الشّيخ سبعة شواهد، ذكر أوّلها حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في «صحيح مسلم»([20]).

وسيأتي الكلام علىٰ هـٰذه الشّواهد شاهداً شاهداً.

ولعلّ الشّيخ لم يتنبّه إلىٰ الرواية الصّحيحة لهـٰذا الحديث وهي في «صحيح مسلم» من طريق حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر الصّادق، عن أبيه البّاقر، عن جابر بن عبد الله([21])، وليس فيها: «وعترتي أهل بيتي»، بل فيها: «تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله».

ولا ريب أن هـٰذه الرواية فيصلٌ في النّزاع، ولو قدّر أن يتنبّه لها الشّيخ الألباني؛ لظهر له نكارة رواية التّرمذي، ولما احتاج للاستشهاد للحديث بسبعة شواهد أكثرها ضعيف، والذي صحّ منها هو حديث زيد بن أرقم عند مسلم، وليس فيه لفظ: «وعترتي أهل بيتي». بل فيه ما يدلّ علىٰ ضعفها ونكارتها، وهي قوله : «أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي!».

وها هو بيان حال هذه الشّواهد السّبعة([22]):

الشّاهد الأوّل: حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، أخرجه مسلمٌ في «صحيحه»، وقد تقدّم لفظه، وليس فيه محلّ الاستشهاد: «وعترتي أهل بيتي»، فلا يصلح للاستشهاد، بل هـٰذا الحديث الصّحيح يشهد بنكارة هـٰذا اللفظ.

الشّاهد الثّاني: حديث عطية العوفي عن أبي سعيد، والمفترض أن أبا سعيد هو أبو سعيد الخدري الصّحابي، وقد عزاه الشّيخ إلىٰ جماعة، وغفل عن كونه مروياً في «جامع التّرمذي»([23])، بإسنادين مقرونين في موضع واحد عن: زيد بن أرقم، وأبي سعيد، وفيه محلّ الشّاهد: «وعترتي أهل بيتي». وقال التّرمذي: «حديثٌ حسنٌ غريبٌ». وحكم عليه بقوله: «وهو إسنادٌ حسنٌ في الشّواهد».

قلت: ولكنّ الحديث بطريقيه ــ أو بإسناديه ــ ضعيف؛ فلا يصلح للاستشهاد به للآتي:

أمّا الإسناد الأوّل الخاصّ بحديث أبي سعيد ــ والمفترض أنه الخدري ــ؛ ففيه عطية بن سعد بن جنادة، أبو الحسن العوفي الجدلي الكوفي الشيعي، وهو ضعيف عند جماهير المحدّثين لا يحتجّ بحديثه، وهو مع ضعفه مدلّسٌ؛ قال الحافظ: «صدوقٌ، يخطئ كثيراً، وكان شيعيا مدلّساً»([24]).

وقال أيضاً: «ضعيف الحفظ، مشهورٌ بالتّدليس القبيح»([25]).

أمّا الإسناد الثاني وهو حديث زيد بن أرقم؛ ففيه: حبيب بن أبي ثابت، مدلس وقد عنعن، وهو لم يسمع من زيد بن أرقم رضي الله عنه، فالحديث منقطع.

الشّاهد الثّالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عزاه الألباني إلىٰ «سنن الدّارقطني»([26])، و«المستدرك» للحاكم([27])، و«الفقيه والمتفقّه» للخطيب([28]) ثلاثتهم من طريق صالح بن موسىٰ الطّلحي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وذكر معه شاهدين آخرين عن ابن عبّاس، وعمرو بن عوف رضي الله عنهما، ثمّ ضعّف حديث أبي هريرة بقوله: «وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف؛ فبعضها يقوّي بعضاً، وخيرها حديث ابن عبّاس».

قلت: لكنّ حديث أبي هريرة لا يصلح شاهداً إلّا لقوله: «كتاب الله» فقط، حيث لم يذكر فيه آل البيت، بل في هـٰذه الأحاديث الثلاثة ما يشهد للتّمسّك بالكتاب والسُّنة فقط، وهو اللائق بالرّسول ، وها هي ألفاظ الحديث عند من ذكرهم الشّيخ:

ــ لفظ الدّارقطني: «خلّفت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما: كتاب الله، وسنّتي، ولن يتفرّقا حتّىٰ يردا علي الحوض».

ــ لفظ الحاكم: «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما: كتاب الله، وسنّتي، ولن يتفرّقا حتّىٰ يردا علي الحوض».

ــ لفظ الخطيب: الأول: «إني قد خلّفت ما لن تضلّوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله، وسنّتي، ولن يفترقا حتّىٰ يردا علي الحوض». واللفظ الثّاني مثل لفظ الدّارقطني.

الشّاهد الرّابع: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقد عزاه الألباني لــ«مستدرك الحاكم»([29]). وقد تقدّم قول الألباني عقب ذكره ثلاثة شواهد متتاليةً عن أبي هريرة، وابن عباس، وعمرو بن عوف: «وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف؛ فبعضها يقوّي بعضاً، وخيرها حديث ابن عبّاس» اهـ.

وها هو لفظه: قال الحاكم: ــ بعد سياقه إسناده إلىٰ ابن عبّاس ــ: إن رسول الله  خطب النّاس في حجّة الوداع، فقال: «قد يئس الشّيطان بأن يعبد بأرضكم ولكنّه رضي أن يطاع فيما سوىٰ ذٰلك ممّا تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها النّاس! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً: كتاب الله، وسنّة نبيه».

ثمّ قال الحاكم ــ عقب الحديث بعد كلام له ــ: «وهـٰذا الحديث لخطبة النّبي  متّفقٌ علىٰ إخراجه في الصّحيح: «يا أيها النّاس! إني قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله . وأنتم مسؤلون عنّي فما أنتم قائلون؟».

ثمّ قال الحاكم: «وذكر الاعتصام بالسُّنة في هـٰذه الخطبة غريبٌ، ويحتاج إليها، وقد وجدت له شاهداً من حديث أبي هريرة»([30]).

ثمّ ذكر حديث أبي هريرة وهو نفسه الشّاهد الثّالث المتقدم، وفيه ذكر الكتاب والسُّنة فقط العاصمين من الضّلال.

قلت: ثبت بما تقدّم أن حديث ابن عبّاس لا يصلح شاهداً إلّا لقوله: «كتاب الله» فقط، حيث لم يذكر فيه آل البيت، بل فيه ما يشهد للتّمسّك بالكتاب والسُّنة فقط، وهو اللائق بالرّسول الكريم .

الشّاهد الخامس: حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه، عزاه الشيخ الألباني إلىٰ «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرّ في موضعين([31])من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه [عبد الله]، عن جدّه [عمرو بن عوف رضي الله عنه].

ولفظه في الموضع الأوّل: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله، وسنّة نبيه ». ولفظه في الموضع الثاني: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله عز وجل، وسنّة رسوله ».

وقد تقدّم أن الألباني ضعّف هذا الشّاهد ــ عقب ذكره ثلاثة شواهد متتاليةً عن أبي هريرة، وابن عباس، وعمرو بن عوف ــ بقوله: «وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف؛ فبعضها يقوّي بعضاً، وخيرها حديث ابن عبّاس».

قلت: ظهر بهـٰذا البيان أن حديث عمرو بن عوف لا يصلح شاهداً إلّا لقوله: «كتاب الله» فقط، حيث لم يذكر فيه آل البيت، بل فيه ما يشهد للتّمسّك بالكتاب والسُّنة فقط، وهو اللائق بالرّسول .

الشّاهد السّادس: هو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ الذي وصفه الألباني بأنه شاهدٌ قوي، وعزاه إلىٰ الطّحاوي في «شرح مشكل الآثار»([32]) من طريق كثير بن زيد، عن محمد بن عمر بن علي [بن أبي طالب]، عن أبيه [عمر بن علي بن أبي طالب]، عن علي رضي الله عنه، إن النّبي  قال: «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله سببه بأيديكم، وأهل بيتي».

قال الطّحاوي عقبه: «وكثير بن زيد مديني مولًىٰ لأسلم، قد حدّث عنه حمّاد بن زيد، ووكيعٌ، وأبو أحمد الزّبيري».

قلت: كثيرٌ مختلفٌ فيه، وهو إلىٰ الضّعف أقرب([33]).

الشّاهد السّابع: وهو حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأحد ألفاظه عند أحمد: «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء إلىٰ الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتىٰ يردا علي الحوض».

أخرجه أحمد([34])، وعبد بن حميد([35])، وابن أبي عاصم([36])، والطبراني([37])، كلهم من طريق شريك، عن الرّكين بن الرّبيع، عن القاسم بن حسّان العامري، عن زيد بن ثابت، مرفوعاً، بألفاظ متقاربة.

قلت: هـٰذا إسنادٌ ضعيف، فيه علّتان:

الأولىٰ: فيه شريك بن عبد الله النّخعي، وهو سيء الحفظ، قال الحافظ ابن حجر: «صدوقٌ يخطئ كثيراً؛ تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة»([38]).

الثانية: القاسم بن حسان، وهو مختلفٌ فيه:

جرّحه: البخاري بقوله: «حديثه منكرٌ، ولا يعرف»([39])، وقال ابن القطّان: «لا يعرف حاله»([40]).

ووثّقه: أحمد بن صالح المصري([41]) والعجلي، وابن شاهين، وابن حبّان([42])وقال الذهبي: «وثّق»([43]).

ولخّص حاله الحافظ فقال: «مقبولٌ»([44])، أي «حيث يتابع، وإلّا فلين الحديث ضعيفه»([45])، ولم يتابع أحدٌ القاسم فيما أعلم.

والحاصل: أن هـٰذه الشّواهد السبعة التي ساقاها الألباني لم يصلح منها للاعتبار سوىٰ الشاهد السادس وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإن اعتبرنا قوله : «وأهل بيتي» وقطعاً فيهم نساؤه  معطوفاً علىٰ أسباب النّجاة من الضّلالة؛ وذلك بمحبّتهم واتّباعهم فيما ثبت عنه .

وإن كان الألباني صحّح هـٰذه الرواية؛ إلّا أن معنىٰ قوله : «وأهل بيتي» عند الألباني وأهل العلم قبله ممن صحّحها لا تدلّ علىٰ ما يذهب إليه الرّافضة؛ حيث قال الألباني تعقيباً علىٰ الحديث بعد أن أورد هـٰذه الشّواهد السّبعة: «من المعروف أن الحديث مما يحتجّ به الشيعة، ويلهجون بذٰلك كثيراً، حتّىٰ يتوهّم أهل السُّنة أنهم مصيبون في ذٰلك، وهم جميعاً واهمون في ذٰلك، وبيانه من وجهين:

الأول: إن المراد من الحديث في قوله : «عترتي»؛ أكثر مما يريده الشيعة، ولا يردّه أهل السُّنة، بل هم مستمسكون به، ألا وهو أن العترة فيه ــ أي في الحديث ــ هم أهل بيته ، وقد جاء ذٰلك موضّحاً في بعض طرقه كحديث التّرجمة: «عترتي أهل بيتي»، وأهل بيته في الأصل هم نساؤه ، وفيهنّ الصّدّيقة عائشة ــ رضي الله عنهنّ جميعاً ــ، كما هو صريح قوله تعالىٰ في الأحزاب: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾  [الأحزاب: 33]. بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: ﴿يَانِسَاءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ ٱلنِّسَاءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلْأُولَى وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَاةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَٱذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾  [الأحزَاب: 32-34].

وتخصيص الشيعة أهل البيت في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه  من تحريفهم لآيات الله تعالىٰ؛ انتصاراً لأهوائهم كما هو مشروحٌ في موضعه. وحديث الكساء([46]) وما في معناه غاية ما فيه: توسيع دلالة الآية، ودخول علي وأهله فيها، كما بينه الحافظ ابن كثير([47]) وغيره.

وكذٰلك حديث «العترة»؛ قد بين النبي  أن المقصود أهل بيته  بالمعنىٰ الشّامل لزوجاته وعلي وأهله. ولذٰلك قال التوربشتي كما في «المرقاة» (5/600): «عترة الرّجل: أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم «العترة» علىٰ أنحاء كثيرة بينها رسول الله  بقوله: «أهل بيتي»؛ ليعلم أنه أراد بذٰلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه».

والوجه الآخر: إن المقصود من «أهل البيت»؛ إنما هم العلماء الصالحون منهم والمتمسّكون بالكتاب والسُّنة، قال الإمام أبو جعفر الطّحاوي رحمه الله تعالىٰ: «العترة هم أهل بيته  الذين هم علىٰ دينه وعلىٰ التّمسّك بأمره».

وذكر نحوه الشيخ علي القاريء في الموضع المشار إليه آنفاً. ثمّ استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذّكر ما أفاده بقوله: «إن أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم: أهل العلم منهم، المطّلعون علىٰ سيرته، الواقفون علىٰ طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهـٰذا يصلح أن يكون مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾  [الجمعة: 2]».

ومثله قوله تعالىٰ في خطاب أزواجه  في آية التطهير المتقدمة: ﴿ وَٱذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْمَةِ﴾  [الأحزاب: 34]. فتبين أن المراد بأهل البيت هم المتمسكون منهم بسنّته ، فتكون هي المقصود بالذات في الحديث، ولذٰلك جعلها أحد الثّقلين في حديث زيد بن أرقم المقابل للثّقل الأوّل وهو «القرآن»، وهو ما يشير إليه قول ابن الأثير في «النّهاية»: «سمّاهما ثقلين»؛ لأن الآخذ بهما والعمل بهما ثقيلٌ، ويقال لكل خطير نفيس ثقلٌ، فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما».

قلت [الألباني]: والحاصل أن ذكر أهل البيت في مقابل القرآن في هـٰذا الحديث كذكر سنّة الخلفاء الرّاشدين مع سنّته  في قوله:«فعليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الرّاشدين».

قال الشيخ القاريء «المرقاة» (1/199): «فإنهم لم يعملوا إلّا بسنّتي، فالإضافة إليهم، إمّا لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها».

إذا عرفت ما تقدّم؛ فالحديث شاهدٌ قوي لحديث «الموطّأ» بلفظ: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله، وسنّة رسوله» اهـ([48]).

قلت: ولا يفوتني أن أشير إلىٰ أن متن الحديث فيه نكارةٌ من حيث المعنىٰ المترتّب علىٰ زيادة قوله : «وعترتي»؛ حيث إنه جعل النّجاة متعلّقةً بالتّمسّك بالكتاب والعترة، ولم تذكر سنّة النبي ، فهل ثمّة نجاةٌ دون التّمسّك بسنّة النبي ؟

فإن قال قائلٌ: يوجد في حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه مسلمٌ ذكر التّمسّك بالكتاب وحده، وقبلتم الحديث؟

فيقال: نعم، ولكنّه لم ينف التّمسّك بالسُّنة. أمّا حديث «التّرمذي» الذي فيه التّمسّك بالعترة مع الكتاب ــ وهي زيادةٌ منكرةٌ كما تقدّم ــ ففيه: تقديم العترة، وإهمال السُّنة، فتأمّل.

 

([1])        اعترف بذٰلك المعلّقون الشّيعة علىٰ كتاب «المراجعات» المطبوع ضمن «موسوعة مؤلّفات عبدالحسين» (1/28)، قائلين: «لم نعثر عليه في سنن النّسائي الصّغرىٰ، ولا في سننه الكبرىٰ، ولا في خصائصه [يعني خصائص علي للنسائي]». ولكنهم تغافلوا مثل مؤلّف المراجعات عن عزو الحديث إلىٰ «صحيح مسلم»؛ لئلّا يكتشف القرّاء الرواية الصّحيحة التي تخلو من الزّيادة المنكرة فيه وهي قوله: «وعترتي أهل بيتي».
وأمّا حسينٌ الرّاضي الشيعي المعلّق علىٰ كتاب «المراجعات» نشرة (الدّار الإسلامية ببيروت)؛ فقد أهمل الإشارة إلىٰ كون الحديث لا يوجد في سنن النّسائي، وملأ هامش الصّحيفة بعزو الحديث إلىٰ كتب كثيرة مجهولة لا يعرفها حتىٰ الكثير من الشيعة، وأكثرها لا فائدة فيها، ومع ذٰلك فقد كتم وأعرض عن عزو الحديث صراحةً إلىٰ «صحيح مسلم». كما فعل أشياعه من قبل!.
ولكنّه عزاه خفيةً إلىٰ «جامع الأصول في أحاديث الرّسول» لمجد الدّين أبي السّعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير، حديث (1796)، وفيه رواية «صحيح مسلم» فقط، ظاناً أنه لن يرجع إليه أحدٌ، وإلّا لو ظنّ أنه سيرجع إليه أحد
القرّاء؛ لما ذكر «جامع الأصول»؛ لئلّا يقف القارئ علىٰ كون الحديث في «صحيح مسلم»، وليس فيه هـٰذه الزّيادة المنكرة. والله أعلم.

([2])       جعفرٌ: هو الإمام الصّادق رحمه الله.

([3])       أبو جعفر: هو الإمام الباقر رحمه الله.

([4])       هـٰذا لفظ التّرمذي، ولفظ الطّبراني بنحوه.

([5])       «التاريخ الكبير» (1306).

([6])       «الجرح والتعديل» (2533).

([7])        «الثقات» (6/314).

([8])       «ميزان الاعتدال» (3001).

([9])       «الكاشف» (1731).

([10])     «المغني» (2269)، «ديوان الضعفاء» (1526).

([11])      «مجمع الزوائد» (9/259).

([12])     «تقريب التهذيب» (2139).

([13])     «تقريب التهذيب» (ص81).

([14])     الحديث المنكر: أن يخالف الضّعيف الثّقة، سواءٌ في الإسناد أو المتن.

([15])     روىٰ له البخاري ومسلم، وقد وثّقه جماعةٌ من أهل العلم، كابن معين، وابن سعد، والعجلي، والدّارقطني. وقال أحمد بن حنبل: «أحبّ إلي من الدّراوردي، زعموا أن حاتماً كان فيه غفلةٌ، إلا أن كتابه صالحٌ». وقوله «زعموا» تمريضٌ لهـٰذا القول. إلا أن الحافظ ابن حجر قال: «صحيح الكتاب، صدوقٌ يهم» «تقريب التّهذيب» (1002)، ولا ريب أنه فوق ذٰلك؛ فقد وثّقه الكبار كما تقدّم، ومنهم الشّيخان.
انظر: تاريخ ابن معين للدّوري (2/91)، والدّارمي (259)، وابن طهمان (210)، «الجرح والتعديل» (1154)، «الطبقات» لابن سعد (5/425)، «الثقات» للعجلي (235)، «تهذيب التهذيب» (2/128)

([16])     «صحيح مسلم» (1218).

([17])     «صحيح مسلم» (2408).

([18])     «مشكاة المصابيح» (6152).

([19])     (4/355)، وفي تعليقه علىٰ «هداية الرواة» (5/450 ــ 451).

([20])    «صحيح مسلم» (2408).
لذا صحّحه الألباني في كتابه «صحيح التّرمذي» (2978) المطبوع سنة (1408هــ)، وأحال علىٰ تحقيقه الثّاني «للمشكاة» (6143) الذي لم يطبع إلىٰ هـٰذه السّاعة.

([21])     «صحيح مسلم» (2408).

([22])    انظر: «السلسلة الصّحيحة» (4/356 ـ 357).

([23])    (3788).

([24])    «تقريب التّهذيب» (4649).

([25])    «تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتّدليس» (122).

([26])    (4/245).

([27])    (1/93).

([28])    (1/274، 274، 275).

([29])    «المستدرك» (1/93).

([30])    هذه هي الفطرة السّليمة، فها هو الإمام الحاكم يقرّر أن «السّنّة» يحتاج إليها مع «القرآن»؛ ليتمّ الاعتصام بدين الله تعالىٰ.

([31])     الموضع الأول (1389)، وضعّف إسناده المحقق. والموضع الثاني (1866)، وقال المحقّق: «حديثٌ صحيحٌ»؟! وذكر أنه رواه أبو هريرة وابن عبّاس في «مستدرك الحاكم» (1/93)، وأحال علىٰ «السّلسلة الصّحيحة» للألباني (1761).

([32])    «شرح مشكل الآثار» (5/13 1760).

([33])    «تهذيب الكمال» (24/113 4941).

([34])    «مسند أحمد» (21578، 21654).

([35])    «مسند عبد بن حميد» (240).

([36])    «السّنّة» (754).

([37])    «المعجم الكبير» (4921، 4922).

([38])    «تقريب التهذيب» (2802).

([39])    «ميزان الاعتدال» للذهبي (370).

([40])    بواسطة «تهذيب التهذيب» للحافظ (8/311).

([41])     «تاريخ أسماء الثقات» لابن شاهين (1148).

([42])    «الثّقات» العجلي (1495)، «الثقات» لابن شاهين (1148)، «الثقات» لابن حبّان (5/305)، (7/335).

([43])    «الكاشف» (4506).

([44])    «تقريب التهذيب» (5489).

([45])    عرّف الحافظ رتبة «مقبول» في مقدمة «تقريب التهذيب» (ص81) بقوله: «من ليس له من الحديث إلّا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ «مقبول»، حيث يتابع، وإلّا فلّين الحديث».

([46])    سيأتي لفظه في نقد المراجعة (12).

([47])    في آخر تفسيره لآيات سورة الأحزاب.

([48])    «السلسلة الصحيحة» (4/359 ــ 361).