مراجعة الشيعي عبدالحسين 4
22-03-2023
مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [4]
8 ذي القعدة سنة 1329 هـ
إن تعبّدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري([1]) وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة([2]) لم يكن لتحزّب أو تعصّب، ولا للريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علما وعملاً.
لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلىٰ الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة([3])وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، فانقطعنا إليهم في فروع الدين وعقائده([4])، وأصول الفقه وقواعده، ومعارف السّنة والكتاب، وعلوم الأخلاق والسلوك والآداب، نزولا علىٰ حكم الأدلة والبراهين، وتعبداً بسنة سيد النبيين والمرسلين، صلىٰ الله عليه وآله أجمعين.
ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد، أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله سبحانه في مقام العمل علىٰ مذهب غيرهم؛ لقصصنا أثر الجمهور، وقفونا أثرهم، تأكيداً لعقد الولاء، وتوثيقاً لعرىٰ الإخاء، لكنها الأدلة القطعية تقطع علىٰ المؤمن وجهته، وتحول بينه وبين ما يروم.
علىٰ أنه لا دليل للجمهور([5]) علىٰ رجحان شيء من مذاهبهم، فضلاً عن وجوبها، وقد نظرنا في أدلة المسلمين نظر الباحث المحقق بكل دقة واستقصاء، فلم نجد فيها ما يمكن القول بدلالته علىٰ ذٰلك، إلا ما ذكرتموه من اجتهاد أربابها وأمانتهم وعدالتهم وجلالتهم. لكنكم تعلمون أن الاجتهاد والأمانة والعدالة والجلالة غير محصورة بهم، فكيف يمكن ــ والحال هـٰذه ــ أن تكون مذاهبهم واجبة علىٰ سبيل التعيين؟
وما أظن أحدا يجرؤ علىٰ القول بتفضيلهم ــ في علم أو عمل ــ علىٰ أئمتنا([6])، وهم أئمة العترة الطاهرة وسفن نجاة الأمة، وباب حطتها، وأمانها من الاختلاف في الدين، وأعلام هدايتها، وثقل رسول الله، وبقيته في أمته، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فلا تقدّموهم فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم»([7]).
لكنها السياسة([8])، وما أدراك ما اقتضت في صدر الإسلام.
والعجب من قولكم إن السلف الصالح دانوا بتلك المذاهب، ورأوها أعدل المذاهب وأفضلها، واتفقوا علىٰ التعبد بها في كل عصر ومصر، كأنكم لا تعلمون بأن الخلف والسلف الصالحين من شيعة آل محمد ــ وهم نصف المسلمين في المعنىٰ([9]) ــ إنما دانوا بمذهب الأئمة من ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجدوا عنه حولاً، وأنهم علىٰ ذٰلك من عهد علي وفاطمة إلىٰ الآن، حيث لم يكن الأشعري ولا واحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا آباؤهم، كما لا يخفىٰ.
علىٰ أن أهل القرون الثلاثة مطلقا لم يدينوا بشيء من تلك المذاهب أصلا، وأين كانت تلك المذاهب عن القرون الثلاثة؟ ــ وهي خير القرون ــ وقد ولد الأشعري سنة سبعين ومئتين، ومات سنة نيف وثلاثين وثلاثمئة، وابن حنبل ولد سنة أربع وستين ومئة، وتوفي سنة إحدىٰ وأربعين ومئتين، والشافعي ولد سنة خمسين ومئة، وتوفي سنة مئتين وأربع، وولد مالك سنة خمس وتسعين ومات سنة تسع وسبعين ومئة، وولد أبو حنيفة سنة ثمانين، وتوفي سنة خمسين ومئة.
والشيعة يدينون بمذهب الأئمة من أهل البيت ــ وأهل البيت أدرىٰ بالذي فيه ــ وغير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين، فما الذي أوجب علىٰ المسلمين كافة ــ بعد القرون الثلاثة ــ تلك المذاهب دون غيرها من المذاهب التي كان معمولاً بها من ذي قبل؟ وما الذي عدل بهم عن أعدال كتاب الله وسفرته، وثقل رسول الله وعيبته، وسفينة نجاة الأمة وقادتها وأمانها وباب حطتها؟!
وما الذي أرتج باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة مفتوحا علىٰ مصراعيه؟ لولا الخلود إلىٰ العجز والاطمئنان إلىٰ الكسل، والرضا بالحرمان، والقناعة بالجهل. ومن ذا الذي يرضىٰ لنفسه أن يكون ــ من حيث يشعر أو لا يشعر ــ قائلا بأن الله عز وجل لم يبعث أفضل أنبيائه ورسله بأفضل أديانه وشرائعه؟ ولم ينزل عليه أفضل كتبه وصحفه، بأفضل حكمه ونواميسه، ولم يكمل له الدين، ولم يتم عليه النعمة، ولم يعلمه علم ما كان وعلم ما بقي، إلا لينتهي الأمر في ذٰلك كله إلىٰ أئمة تلك المذاهب فيحتكروه لأنفسهم، ويمنعوا من الوصول إلىٰ شيء منه عن طريق غيرهم، حتىٰ كأن الدين الإسلامي بكتابه وسنته، وسائر بيناته وأدلته من أملاكهم الخاصة، وأنهم لم يبيحوا التصرف به علىٰ غير رأيهم، فهل كانوا ورثة الأنبياء، أم ختم الله بهم الأوصياء والأئمة، وعلمهم علم ما كان وعلم ما بقي، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين؟
كلا بل كانوا كغيرهم من أعلام العلم ورعاته، وسدنته ودعاته، وحاشا دعاة العلم أن يوصدوا بابه، أو يصدوا عن سبيله، وما كانوا ليعتقلوا العقول والأفهام، ولا ليسملوا أنظار الأنام، ولا ليجعلوا علىٰ القلوب أكنة، وعلىٰ الأسماع وقراً، وعلىٰ الأبصار غشاوة، وعلىٰ الأفواه كمامات، وفي الأيدي والأعناق أغلالاً، وفي الأرجل قيوداً، لا ينسب ذٰلك إليهم إلا من افترىٰ عليهم، وتلك أقوالهم تشهد بما نقول.
هلم بنا إلىٰ المهمة التي نبهتنا إليها من لمّ شعث المسلمين، والذي أراه أن ذٰلك ليس موقوفاً علىٰ عدول الشيعة عن مذهبهم، ولا علىٰ عدول السنة عن مذهبهم، وتكليف الشيعة بذٰلك دون غيرهم ترجيح بلا مرجح، بل ترجيح للمرجوح، بل تكليف بغير المقدور، كما يعلم مما قدمناه.
نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت، واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم، حتىٰ يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلىٰ شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنظر بعضهم إلىٰ بعض، وبهـٰذا يجتمع شمل المسلمين، وينتظم عقد اجتماعهم.
والاختلاف بين مذاهب أهل السنة لا يقلّ عن الاختلاف بينها وبين مذهب الشيعة، تشهد بذٰلك الألوف المؤلفة في فروع الطائفتين وأصولهما، فلماذا ندّد المندّدون منكم بالشيعة في مخالفتهم لأهل السنة، ولم ينددوا بأهل السنة في مخالفتهم للشيعة؟ بل في مخالفة بعضهم لبعض؟ فإذا جاز أن تكون المذاهب أربعة، فلماذا لا يجوز أن تكون خمسة؟ وكيف يمكن أن تكون الأربعة موافقة لاجتماع المسلمين، فإذا زادت مذهباً خامسا تمزق الاجتماع، وتفرّق المسلمون طرائق قدداً؟
وليتكم إذ دعوتمونا إلىٰ الوحدة المذهبية دعوتم أهل المذاهب الأربعة إليها، فإن ذٰلك أهون عليكم وعليهم، ولم خصصتمونا بهـٰذه الدعوة؟ فهل ترون اتباع أهل البيت سبباً في قطع حبل الشمل ونثر عقد الاجتماع، واتباع غيرهم موجباً لاجتماع القلوب واتحاد العزائم، وإن اختلفت المذاهب والآراء، وتعددت المشارب والأهواء؟ ما هـٰكذا الظنّ بكم، ولا المعروف من مودتكم في القربىٰ، والسلام.
([1]) هو: علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري من ذرّية الصّحابي أبي موسىٰ الأشعري رضي الله عنه، ولد بالبصرة سنة (270هــ) وتوفّي ببغداد سنة (324هــ)، وإليه ينسب المذهب الأشعري. مرّ بثلاث مراحل اعتقادية:
الأولىٰ: ظلّ علىٰ مذهب المعتزلة أربعين سنةً.
الثانية: أعلن البراءة من الاعتزال، وأثبت سبع صفات ذاتية لله رضي الله عنه عن طريق العقل دون الوحي، وهي: الحياة، العلم، الإرادة، القدرة، السّمع، البصر، الكلام. أمّا الصّفات الخبرية كالوجه، واليدين، والقدم، والسّاق.. الخ؛ فتأوّلها بما ظنّ أنه يتّفق مع أحكام العقل، وهـٰذا هو مذهب الأشاعرة إلىٰ اليوم.
الثّالثة: أثبت جميع الصّفات لله تعالىٰ، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تمثيل؛ موافقةً لعقيدة السّلف.
انظر للتوسع: «الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة» (1/87 ــ 98).
([2]) المذاهب الأربعة تُنسب إلى الأئمة الأربعة، وهم: أبو حنيفة، مالكٌ، الشّافعي، أحمد؛ ليسوا متبوعين فقط في الأحكام الفرعية الفقهية كما زعم الشيعي، بل هم متبوعون أيضاً في أصول الاعتقاد التي أصّلوها علىٰ نصوص الكتاب والسّنّة بفهم السّلف الصّالح. وها هي ترجمةٌ مختصرة لهـٰؤلاء الأئمّة الأربعة:
الإمام أبو حنيفة: هو النّعمان بن ثابت، التّيمي بالولاء، الكوفي، إمام الحنفية، أحد الأئمّة الأربعة عند أهل السّنّة، ولد سنة 80 هــ وتوفّي ببغداد سنة 150هــ. قال الإمام مالكٌ: «رأيت رجلاً لو كلمته في السّارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجّته! وكان كريماً في أخلاقه، جواداً، حسن المنطق والصورة». وقال الإمام الشّافعي: «الناس عيالٌ في الفقه علىٰ أبي حنيفة». له من المصنّفات: «المسند» مطبوعٌ، جمعه تلاميذه، و«المخارج» في الفقه مخطوطٌ، وينسب له كتاب «الفقه الأكبر» مطبوعٌ ولم تصحّ النسبة، وأخباره كثيرةٌ. انظر للتوسع: «سير أعلام النبلاء» (6/390 ــ 403).
الإمام مالكٌ: هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، إمام دار الهجرة، أحد
الائمّة الأربعة عند أهل السّنّة، وإليه تنسب المالكية، ولد سنة 93هــ وتوفّي 179هــ، مولده ووفاته في المدينة. كان صلباً في دينه، بعيداً عن الأمراء والملوك، صنّف «الموطأ» مطبوعٌ، وكتاب «الوعظ» مطبوعٌ، و«المسائل» مخطوطٌ، و«الرد علىٰ القدرية» وكتاب في «النجوم»، و«تفسير غريب القرآن»، وأخباره كثيرةٌ. انظر: «سير أعلام النبلاء» (8/48 ــ 135)، و«الأعلام» للزّركلي (5/257).
الإمام الشّافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطّلبي، أبو عبد الله، إليه تنسب الشافعية، ولد في غزّة فلسطين سنة 150هــ، وسكن مكّة ــ وتوفّي بمصر 204 هــ. قال الإمام أحمد: «ما أحدٌ ممّن بيده محبرةٌ أو ورقٌ إلّا وللشافعي في رقبته منّةٌ». وقال المبرد: «كان الشّافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءآت». وبرع في الرّمي والشّعر واللّغة وأيام العرب، ثم أقبل علىٰ الفقه والحديث، وأفتىٰ وهو ابن عشرين سنةً. وكان ذكياً. له تصانيف كثيرةٌ أشهرها: «الأم» و«الرسالة» و«المسند» و«أحكام القرآن» و«السّنن»، وكلها مطبوعةٌ، وله غيرها. انظر للتوسع: «سير أعلام النّبلاء» للذهبي (10/5 ــ 99)، و«الأعلام» للزّركلي (8/36 ــ 37).
الإمام أحمد: هو أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الله، الشّيباني الوائلي، إمام المذهب الحنبلي، أصله من مرو، كان أبوه والي سرخس. وولد ببغداد، ولد سنة 164هــ وتوفّي 241هــ. نشأ منكبّاً علىٰ طلب العلم، وسافر في سبيله أسفاراً كثيرةً إلىٰ الكوفة والبصرة ومكّة والمدينة واليمن والشّام والثّغور والمغرب والجزائر والعراقين وفارس وخراسان والجبال والأطراف. صنّف «المسند» مطبوعٌ، وله كتبٌ في «التاريخ» و«الناسخ والمنسوخ» و«الرد علىٰ الزنادقة فيما ادعت به من متشابه القرآن» وهو مطبوعٌ، و«التفسير» و«فضائل الصحابة»، و«الزهد» والأخيران مطبوعان. انظر للتوسع: «سير أعلام النبلاء» للذّهبي (11/177 ــ 358)، و«الأعلام» للزّركلي (1/203).
([3]) سيأتي بعد قليل في مبحث التّعليق بيان حقيقة هـٰذه «الأدلّة التي أخذت بأعناقهم إلىٰ ما سمّاه مذهب أهل البيت» التي ألمح إليها الشيعي، وبيان أنها لا تنهض حجّةً علىٰ مخالفة الكتاب والسّنّة ومنهج السّلف الصّالح، لكونها تفرّق المسلمين إلىٰ شيع وأحزاب، وتصيب وحدتهم في مقتل.
([4]) إن أصول وفروع أهل البيت ــ وهم أقرباء وأزواج النبي ﷺ هي أصول وفروع سائر
المسلمين، وليس لهم أي صلة بمذهب الرّفض الذي أسّسه عبدالله بن سبأ الذي مال بالتّشيع إلىٰ الغلو وتقديس الأشخاص والخروح عن الإسلام الصّحيح.
([5]) ها قد أنطقه الله تعالىٰ بالحقّ؛ فوصف أهل السّنّة والجماعة بــ «الجمهور». ولنتأمّل أيضاً اللفظ القرآني «سبيل المؤمنين» في قوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ .
([6]) انظر للرّدّ علىٰ هـٰذا القول هنا في الوقفة الرابعة.
([7]) هـٰذه القطعة ــ «فلا تقدّموهما.. أعلم منكم» ــ زيادةٌ ضعيفةٌ جدّاً، ألحقت بإحدىٰ طرق الحديث المشهور باسم حديث غدير خمّ أو حديث الثّقلين، وهو حديثٌ ثابتٌ في «صحيح مسلم» (2408) من حديث زيد بن أرقم، وليس فيه هـٰذه الزّيادة الضّعيفة المنكرة التي رواها الطّبراني في «المعجم الكبير» (2681، 4971) بإسناد ضعيف
جدّاً. انظر تتمّة الكلام علىٰ هـٰذا الحديث في الوقفة الخامسة.
([8]) قوله: «لكنها السياسة»؛ فيه اتّهامٌ صريحٌ للصّحابة رضي الله عنهم وحاشاهم بتبديل شرع الله تعالىٰ لتحصيل مصالح قبلية ثأرية أو طمعاً في الملك، وأكثر الرّافضة يرون أنهم بدّلوا الدّين نفاقاً وردّةً.
([9]) لا؛ ليس الشيعة الرافضة نصف المسلمين في المعنىٰ؛ لكونهم فرقةً من الفرق الكثيرة الضّالّة ــ التي خالفت جماعة المسلمين ــ ممن يعلو شأنها ويهبط حسب الأحوال. كما أنهم ليسوا نصف المسلمين في العديد. وسيأتي هنا في نقد مراجعة الشيعي عبدالحسين (18) إحصاءٌ لعدد الشيعة في أنحاء المعمورة.