نقد مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [4]

ذكر عبدالحسين أنه لا يشكّ ولا يرتاب في اجتهاد الأئمّة: الأشعري، وأبي حنيفة، ومالك، والشّافعي، وأحمد، ولا في عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملاً.

وهـٰذا يخالف ما في كتب القوم، بل وما في كتب عبد الحسين نفسه، كما سيأتي:

ففي كتاب «رجال الكشّي»([1]) تحت ترجمة زرارة بن أعين، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله [الصّادق]، قال [أبو بصير]: «قلت: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾  [الأنعَام: 82]؟ قال [الصّادق]: أعاذنا الله وإياك من ذٰلك الظّلم. قلت: وما هو؟ قال: هو والله! ما أحدث زرارة وأبو حنيفة وهـٰذا الضّرب. قال [أبو بصير]: قلت: الزّنا معه؟ قال [الصّادق]: الزّنا ذنبٌ» اهـ([2]).

قلت: الذي يظهر لي ولأي قارئ من هـٰذه الرواية المنسوبة للصّادق ــ وهو أحد الأئمّة المعصومين عندهم ــ أنه يطعن في الإمام أبي حنيفة أحد الأئمّة الأربعة ــ الذين أثنىٰ عليهم عبدالحسين في كلامه! ــ بأنه أحدث أمراً عظيماً، أي أحدث الكفر بدليل إيراده هـٰذه الآية، وبدليل قوله: «الزّنا ذنبٌ»، أي هو كبيرةٌ فقط ربّما يغفر، أمّا الذي هو أكبر من كبيرة الزّنا فهو الكفر الذي لا يغفر.

فإن صحّت هـٰذه الرواية عن الإمام الصّادق المعصوم والمفترض الطّاعة في اعتقاد الشيعة؛ فكيف جاز لعبدالحسين ــ وهو يعرف كتاب الكشّي ويعزو إليه ــ أن يخالف إمامه الصّادق ويشهد لأبي حنيفة بالعدالة المتضمّنة للإيمان؟ أم إنها التّقية التي يتعاملون فيها مع الخلق؟

ثانياً: ذكر أن الأدلّة الشّرعية أخذت بأعناقهم إلىٰ الأخذ بمذهب الأئمّة من أهل بيت النّبوة؛ فانقطعوا إليهم في أصول الدّين وفروعه، وأصول الفقه وقواعده.

وهذا القول معه ستّ وقفات:

الوقفة الأولىٰ: ما علمت لهم إسناداً متّصلاً صحيحاً ــ إلىٰ رسول الله ، ولا إلىٰ علي أو الحسن أو الحسين رضي الله عنهم تثبت به أدلّة أصول الاعتقاد.

وأمّا الحديث ومصطلحه؛ فلا نجد لهم فيه قدماً ولا ساقاً.

الوقفة الثانية: قوله: «نزولاً علىٰ حكم الأدلّة والبراهين»؛ فالرّدّ عليه سابقٌ لأوانه، وسيأتي بعد قليل في مكانه المناسب إن شاء الله تعالىٰ.

الوقفة الثالثة: أمّا قوله: «وتعبّداً بسنّة سيد النّبيين»؛ مخالفٌ للواقع؛ لإني لا أجد في كتبهم مرويات عن النّبي ، بل أكثر ما فيها إمّا ينسب إلىٰ أبي عبد الله جعفر الصّادق وهو الغالب، وإمّا إلىٰ أبيه الباقر، أو إلىٰ الرّضا، رحمهم الله جميعاً ورضي عنهم.

الوقفة الرابعة: قوله: «ما أظنّ أحداً يجرؤ علىٰ القول بتفضيلهم [أي الأئمّة الأربعة] في علم أو عمل علىٰ أئمّتنا، وهم أئمّة العترة الطّاهرة».

فإن كان يعني بأئمّة العترة: علياً المرتضىٰ، والحسن المجتبىٰ، والحسين الشّهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر رضي الله عنهم جميعاً؛ فهـٰؤلاء الخمسة مقدّمون عندنا علىٰ الأئمّة الأربعة ــ رحمهم الله تعالىٰ ــ كيف لا؛ وعلي والحسن والحسين قد نالوا فضل صحبة رسول الله ، وعلي بن الحسين زين العابدين وابنه الباقر من أئمّة التّابعين الكبار.

أمّا: جعفر بن محمد الصّادق، وموسىٰ بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسىٰ الرّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري؛ فهـٰؤلاء السّتّة لهم من الفضل والدّين ما للأئمّة الأربعة، وإن أكرمهم عند الله تعالىٰ أتقاهم.

أمّا من حيث النّسب؛ فمقدّمون علىٰ الأئمّة الأربعة.

وأمّا من حيث العلم؛ فالصّادق يجاري الأئمّة الأربعة. وأمّا بقية ولده؛ فدونهم في العلم. وذٰلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

الوقفة الخامسة: الحديث الذي أورده بلفظ: «فلا تقدموهم فتهلكوا..»؛ هو زيادةٌ ضعيفةٌ جدّاً، ألحقت بأصل الحديث المشهور باسم غدير خمّ أو الثّقلين الثّابت في «صحيح مسلم»([3])من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، وليس فيه هـٰذه الزّيادة المنكرة التي أخرجها الطّبراني([4]) في موضعين بإسناد ضعيف جدّاً؛ فيه حكيم بن جبير الأسدي الكوفي أحد الضّعفاء الغلاة في التّشيع([5])؛ وها هي أقوال أهل العلم فيه:

قال أحمد بن حنبل: «ضعيف الحديث مضطربٌ»([6]).

وقال يحيىٰ بن معين: «ليس بشيء»([7]).

وقال علي بن المديني: «سألت يحيىٰ بن سعيد عن حكيم بن جبير، فقال: كم روىٰ؟! إنما روىٰ شيئاً يسيراً! قلت: من تركه؟ قال: شعبة؛ من أجل حديث الصّدقة: «من سأل وله ما يغنيه..»، قال: وكان يحدّث عمّن دونه»([8]).

وقال البخاري: «كان شعبة يتكلم فيه»([9]). وقال أيضاً: «حدثنا أحمد بن سنان، قال: سألت عبدالرّحمٰن بن مهدي: لم تركت حكيم بن جبير؟ فقال: حدّثني يحيىٰ القطّان: سألت شعبة عن حديث من حديث حكيم بن جبير؟ فقال: أخاف النّار»([10]). وقال البخاري أيضاً: «كان يحيىٰ وابن مهدي لا يحدّثان عنه»([11]). وقال أيضاً: «لنا فيه نظرٌ»([12]).

وقال الجوزجاني: «كذّابٌ»([13]). وقال يعقوب بن سفيان: «كان مغال في التّشيع»([14])، وقال أيضاً: «مذمومٌ، ويقال إنه رافضي من الغالية في الرفض»([15])، وقال أيضاً: «كان شعبة روىٰ عنه ثمّ أمسك عن حديثه»([16]).

وقال البزّار: «ليس بالقوي»([17])، وقال أيضاً: «غال في التشيع، وتوقّف بعض أهل العلم في الرواية عنه»([18])، وقال أيضاً: «ضعيف»([19]).

وقال أبو حاتم: «ذاهبٌ في الضّعف»([20]).

وقال الدّارقطني: «ضعيف الحديث»، وقال أيضا: «متروكٌ»، وذكره في «الضّعفاء والمتروكين»([21]).

وضعّفه الذهبي والحافظ العسقلاني([22]).

وأمّا قوله بخصوص باب الاجتهاد؛ فلم ولن يغلق، ومن ذا الذي يملك مفاتحه ليغلقه؟ والله جلّ وعلا يقول في كتابه العزيز لعامّة النّاس في كل زمان ومكان: ﴿ فَٱسْأَلُوا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾  [النّحل: 43].

الوقفة السادسة: إن محاولة التّفريق بين آل البيت والمذاهب الأربعة وجعلهما مدرستين؛ أمرٌ غير مقبول، لأننا نرىٰ أن أولىٰ النّاس بآل البيت نحن أهل السُّنة، وهي دعوىٰ تحتاج إلىٰ دليل، كما أن دعواه إنهم أولىٰ بهم تحتاج أيضاً إلىٰ دليل.

فأهل السُّنة هم نقلة آثار آل البيت ومآثرهم، وهم من أعطاهم حقّهم من غير إفراط ولا تفريط، فهم وسطٌ بين الغلاة والجفاة، ويردّون علىٰ الفريقين باطلهم، ويهدون إلىٰ الطّريق المستقيم والدّين القويم عاطلهم، وهم فقط الذين ينقلون عن آل البيت بالأسانيد الصّحيحة الثّابتة. أمّا غيرهم؛ فلا نسلّم لهم بذٰلك.

وذكر عبدالحسين أن الاختلاف بين مذاهب أهل السُّنة لا يقلّ عن الاختلاف بينها وبين مذهب الشيعة؛ وهـٰذا الكلام غير مقبول، وذٰلك أن الاختلاف بين المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهب أهل السُّنة هو في الفروع الفقهية غالباً.

أمّا اختلاف السُّنة مع الشيعة؛ فهو في أصول الدّين، فمن ذٰلك:

إن أكثر علماء الشيعة يزعمون أن القرآن الكريم الذي بين أيدي المسلمين قد حرّفه الصّحابة ؟ث.

يدّعون ــ أيضاً ــ أن الأئمّة الاثني عشر أفضل من أنبياء الله عدا محمداً صلّىٰ الله عليهم أجمعين.

ويجوّزون دعاء الأموات والاستغاثة بهم سواء كانوا من الأئمّة أم من غيرهم؛ طلباً للحاجات ودفعاً للكربات مما لا يقدر عليه إلّا ربّ الأرض والسّماوات. ويكفّرون جلّ أصحاب النّبي . ويزعمون أن الأئمّة يحيون ويميتون، ويتصرّفون بالكون، وبيدهم الجنّة والنّار، وغير ذٰلك مما هو شركٌ في ربوبية الله تبارك وتعالىٰ([23]).

وكل ذٰلك وغيره من المخالفات يوجد مدوّناً في كتب المذهب، ويظهر بوضوح في سلوك وتصرّفات منتسبي المذهب الشيعي.

وإن أعجب؛ فعجبٌ قوله: «لماذا لا يجوز أن تكون المذاهب خمسةً؟»؛ حيث إني لا أخاله جاداً فيما قال؛ فكيف يقبل أن يتساوىٰ مذهب المعصومين ــ الذين يقيد كلامهم مطلق «القرآن» ويخصّص عامّه كما يزعمون ــ مع مذاهب الأئمّة الأربعة الذين يصيبون ويخطئون؟!

يقول محمد حسين آل كاشف الغطاء مؤكّداً هذا الزّعم: «إن حكمة التّدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنه ــ سلام الله عليه([24])ــ أودعها عند أوصيائه، وكل وصي يعهد بها إلىٰ الآخر؛ لينشرها في الوقت المناسب له حسب الحكمة، من عامّ مخصّص أو مطلق مقيد أو مجمل مبين، إلىٰ أمثال ذٰلك، فقد يذكر النبي عامّاً ويذكر مخصّصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلاً، بل يودعه عند وصيه إلىٰ وقته»([25]).

فهل يقول أهل السُّنة مثل هـٰذا القول في الأئمّة الأربعة؟!

 

([1])        هو: محمد بن عمر بن عبدالعزيز أبو عمرو الكشّي الشيعي؛ (توفي340 أو350هــ) تقريباً، أحد علماء الشّيعة في القرن الرّابع الهجري، له ترجمةٌ في «الأعلام» للزّركلي (6/311). والاسم الصحيح لهـٰذا الكتاب هو: «معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين»، كما سمّاه ابن شهرآشوب في «معالم العلماء»، وقد عرف واشتهر باسم: «رجال الكشي»، وأصله مفقودٌ، والمطبوع هو اختصارٌ وتهذيبٌ للكتاب بقلم شيخ الطّائفة الطّوسي وسمّاه: «اختيار معرفة الرجال».

([2])       «رجال الكشي» (....).

([3])       «صحيح مسلم» (2408). وسيأتي لفظه بتمامه ومعناه الصّحيح هنا تحت تخريج الحديث (1) من نقد مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم (8).

([4])       «المعجم الكبير» (2681، 4971) ولفظه في الموضع الأول: «فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم». ولفظه في الموضع الثاني: «فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تعلّموهما فإنهما أعلم منكم».

([5])       تنبيه: أعاد الشيعي هـٰذه القطعة الضّعيفة سنداً ومتناً في المراجعتين: (8، 10)، وعزاها إلىٰ «المعجم الكبير» للطّبراني. وذكرها أيضاً في بعض كتبه الأخرىٰ.
تنبيه ثان: إن ذكر الهيتمي هـٰذه الزّيادة الضّعيفة في «الصواعق»، وشرحه لها دون بيان ضعفها؛ لا يعدّ دليلاً علىٰ صحّتها؛ لكونه ليس من علماء الحديث المعتبرين كما هو ثابتٌ ومعروفٌ عند المعتنين بالحديث وعلومه.

([6])       «العلل» (798).

([7])        «التاريخ» رواية الدّوري (1363).

([8])       «الجرح والتعديل» (873)، «تهذيب الكمال» (7/167).

([9])       «التاريخ الكبير» (65)، و«التاريخ الصغير» (2/19)، و«الضعفاء» (83)، للبخاري.

([10])     «التاريخ الصغير» (2/14). قوله: «أخاف النّار»: أي أخاف أن أروي عنه.

([11])      المصدر السابق (2/19).

([12])     «ترتيب علل الترمذي الكبير» لأبي طالب القاضي (2/969). وقد عقّب التّرمذي بقوله: «لم يعزم ــ يعني البخاري ــ فيه علىٰ شيء».

([13])     «أحوال الرجال» (25)، وهـٰذه مبالغة.

([14])     «المعرفة والتاريخ» (3/99).

([15])     المصدر السابق (3/234).

([16])     «المعرفة والتاريخ» (3/194).

([17])     «كشف الأستار» (3270).

([18])     المصدر السابق (2934).

([19])     المصدر السّابق (1738).

([20])    «علل الحديث» (2724).

([21])     «العلل» (2/68)، «السنن» (2/122)، «الضعفاء» (163).

([22])    «الكاشف» للذّهبي (1197)، «تقريب التهذيب» لابن حجر (1476).

([23])    انظر كتاب «أصول مذهب الشّيعة» للدكتور ناصر القفاري.

([24])    أي النبي  ﷺ.

([25])    «أصل الشّيعة وأصولها» (ص162).