المَبحثُ العَاشِرُ

حديثُ الإنذارِ يومَ الدارِ

  يقولون: حينَ أنزَلَ  اللهُ تعَالَىٰ عَلَيْهِ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ ٢١٤﴾ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] دعاهُمْ إلىٰ دَارِ عَمِّهِ ــــ أبي طالِبٍ ــــ وَهُمْ يوْمَئِذٍ أرْبَعونَ رَجُلاً ــــ يَزيدونَ رَجُلاً أو ينْقصونَهُ ــــ وفيهِمْ أعْمامُهُ أبو طالبٍ، وَحمْزةُ، والْعَبَّاسُ، وأبو لَهبٍ، وفي آخِرِهِ قالَ رَسُولُ  اللهِ: «يا بَنِي عَبْدِ المطَّلِبِ إنّي واللهِ مَا أعْلَمُ شابَّا في العَرَبِ جاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَني  اللهُ أنْ أدْعوَكُمْ إلَيهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤازِرُني علىٰ أمْرِي هذا علىٰ أن يكون أخي وَوَصِيّي وخَليفَتِي فِيكُمْ؟» فَأُحْجِمَ الْقَوْمُ عَنْها غَيْرُ عَلِيٍّ  ــــ  وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ ــــ إذْ قَامَ فَقَالَ: أنا يا نَبِيَ  اللهِ أكونُ وَزيرَكَ عَلَيهِ. فَأَخَذَ رَسولُ  اللهِ بِرَقَبَتِهِ، وَقَالَ: «إنَّ هذا أخِي وَوَصِيّي وَخَلِيفَتي فِيكُمْ، فاسْمَعوا لَهُ وَأطيعوا». فقامَ القَوْمُ يَضْحَكُونَ وَيقولونَ لأبي طالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لابْنِكَ وَتُطِيع([1]).

  والجوابُ: هذا الحديثُ مُعَلٌّ سَنَداً وَمَتْناً:

  أَمَّا السَّنَدُ؛ ففيه عبدُ الغفارِ بنُ القَاسِمِ: أبو مَرْيمَ الكوفيُّ.

  قال ابنُ كثيرٍ: «تَفَرَّد بِهِ أَبُو مريمَ الكوفيُّ»([2]). قال ابنُ المديني: «كان يَضَعُ الحَدِيثَ». وقال أبو حاتمٍ والنسائيُّ: «مَتْرُوكُ الحَديثِ»([3]).

  وأَمَّا مَتْنُه؛ فظاهرُ المتنِ مُنكرٌ لأمُورٍ:

  الأول: أشهرُ مَا ذُكِرَ من مؤازرةِ عَلِيٍّ؛ هو ما كان في خِتامِ الدَّعوةِ المَكِّيَّةِ عندما هَاجرَ النَّبِيُّ إلَىٰ المدينةِ، مِن نومهِ علىٰ فِراشهِ، وبقائهِ في مكةَ حتَّىٰ أدَّىٰ الأماناتِ إلَىٰ أهلِها.

  الثاني: قولُ بني عبدِ المُطَّلبِ لأبي طَالبٍ: أمَرَكَ أنْ تَسْمعَ لابْنِكَ وتطيعَ باطلٌ؛ وذلك لأنَّ أبا طَالبٍ لَـمْ يسمعْ ولـم يُطِعِ النَّبِيَّ، فكيف يقالُ له: أمَرَكَ أنْ تطيعَ ابنكَ.

  الثالث: لا يُعْلَمُ أنّه دخلَ أحدٌ الإسلامِ علىٰ يَدِ عَلِيٍّ في مَكَّةَ، ولا يُذْكَرُ أنّه أُوذِيَ في سبيلِ  الله هناك كبعض الصَّحابةِ، ولا نقولُ هذا تنقُّصاً لعَلِيٍّ، كلا، حاشاهُ وحاشانا أنْ نقولَ ذلك في مِثْلهِ  رضي الله عنه، فنحنُ ولله الحمدُ والمِنَّةُ نتقرَّبُ إلىٰ  الله جَلَّ في عُلَاهُ بِحُبِّ عَلِيٍّ. وإنّما ظهرَ أَثرُ عَلِيٍّ سواءٌ في: الدَّعوةِ، أوِ الجِهادِ، أوِ العِلْمِ، أوِ النُّصْرَةِ وغير ذلك من وسائلِ التأييد؛ إنّما ظهرَ ذلكَ في المدينةِ بعدَ هِجرتِهِ، وبعدَ أن بلغَ مبلغَ الرِّجالِ. فقد كانَ  رضي الله عنه: سيفاً مِن سيوفِ  الله تعالَىٰ التي سَلَّهَا علىٰ المُشركينَ. وكان عالِماً مِن عُلماءِ أصحابِ النَّبِيِّ، بل منَ المُبَرَّزينَ فيه.

  وكانَ إمَاماً في الزُّهدِ، إمَاماً في الوَرَعِ، إمَاماً في السُّنَّةِ، إمَاماً في القُرآنِ، إمَاماً في الشَّجَاعَةِ، إمَاماً في الإنفاقِ، إمَاماً في التَّقْوَىٰ، إمَاماً في العِلْمِ، فرَحِمَهُ  اللهُ ورضي  الله عنه ورفعَ درجتَهُ في عِلِّيينَ.

  الرابع: بنو عبدِ المُطَّلبِ في تلكَ الفتْرةِ لـم يبلغوا أربعينَ رَجُلاً، وهاكَ تفصيلُ وبيانُ ذُرِّيَّةِ عبدِ  المُطَّلبِ علىٰ ما جاء في كُتبِ التَّراجُمِ والسِّيَرِ:

  • عبد  الله
  • العبَّاس
  • حَـمزة
  • أبو  طالبٍ
  • أبو  لَهَب
  • الزُّبَيْرِ
  • الحَارثِ
  • ضرار
  • المقوم
  • الغيداق
  • قثم
  • حجل
  • عبد الكعبة.

  أدركَ بعثةَ النَّبِيِّ أربعةٌ منهم فقط، هم:

  •    العبَّاس.
  • حَـمزة.
  • أبو طالبٍ.
  • أبو  لَهَب.

  أما ذُرِّيَّةُ أولادِ عبدِ المُطَّلبِ فهي:

  أمّا هؤلاء الثمانية: (حَـمزةُ، والزُّبَيْرِ، وضرار، والمقوم، والغيداق، وعبد الكعبة، وقثم، وحجل)؛ فلمْ تُذْكَرْ لَهم ذُرِّيَّةٌ منَ الذُّكورِ، إلَّا ما كانَ من (حَـمزة) فقيلَ: إنَّ له ذُرِّيَّةً منَ الذُّكورِ (واحد أوِ اثنانِ)، وليس لهما ذُرِّيَّةٌ. وكذا (قثم)؛ ذكروا له ولداً واحداً ولـم يعقِّب.

  وأما عبدُ  الله؛ وهو والدُ النَّبِيِّ. وليس له غيرُه.

  وأما العَبَّاسُ؛ لَـمْ يكنْ وُلِدَ له حينذاك، أكبر أولاده الفضل، والفضْلُ أصغرُ مِنْ عَلِيٍّ توفيّ سنة (١٨هـ) وله منَ العُمُرِ ثنتانِ وعشرون سنة؛ أي: وُلِدَ سنةَ سبع منَ البعثةِ، فهو إذاً لـم يُدركْ هذا الاجتماعِ.

  وأمَّا أوْلادُ أبي طالبٍ الذُّكورُ: (طالب، عقيل، جَعفر، عَلِيّ)، وعَلِيّ أصغرهم.

  وأما أبو لَهبٍ؛ فأولادُه: (عُتْبة، عُتَيْبة، معتب).

  وأولاد الحَارثِ هم: (عُبيدة، أبو سفيان، أُمَيَّة، عبد  الله، عبد  شمس، ربيعة، نوفل).

  فعِدَّةُ مَنْ كانَ يُمْكِنْ أنه حَضَرَ: واحدٌ وعشرون، فأينَ الأربعونَ، كلَّهم يأكلُ الجذعةَ؟!

  الرابع: قَولُه: «فَأَيَّكُم يُؤَازِرُني علىٰ أَمْرِي هَذَا؛ فَيكونُ أَخِي وَوَصِيّي فِيكْم» لَا يُمكنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ النَّبيِّ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الإِجَابةِ لِلشَّهادَةِ لَا تُوجِبُ الخِلَافةَ، وَقَد أَجَابَه كَثيرُونَ.

  الخامس: حَمزةُ، وَجَعْفرُ، وعُبيدةُ بنُ الحارثِ أَجَابُوا النَّبيَّ، وَنَصَرُوا الدِّينَ أكثرَ مِن عليٍّ في ذلك الوقتِ.

  السادس: عليٌّ عُمُرُه في ذَلِكَ الوَقْتِ ثمان أَو عشر سَنَوات.

  السابع: قَولُهم لأَبِي طَالِبٍ: «أمَرَكَ أَن تَسْمَعَ لابْنِكَ وتُطِيعَ» فهو قول بَاطِلٌ؛ لأَنَّ أَبَا طَالِبٍ رَفَضَ أن يُطِيعَ الأَصْلَ وهُو النَّبيُّ، فَكَيفَ يطيعُ الفَرْعَ وَهُو عَلِيٌّ ويُعَيَّرُ به.

  هَذِه هي أَهمُّ الأَدِلَّةِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَىٰ إِمَامَةِ عَلِيٍّ  رضي الله عنه قَبلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَلَعَلَّ هُنَاكَ أَدِلَّةً أُخْرَىٰ أَعْرَضْتُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ وَهَاءَها وَضَعْفَها أَوْضَحُ مِمَّا سَبَقَ، وَلَا تَدُلُّ عَلَىٰ المَطْلوبِ، عَلَىٰ الأَقَلِّ مِن وجْهَةِ نَظَرِي.

 

([1])    أخرجه الطبري في «جامع البيان» (١٩/٤١٠)، والبزار في «المسند» (٤٥٥)، وأبو نعيم في «دلائل النبوة» (ص٣٦٤)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٢/٤٨ ــــ ٤٩)، من طريق محمد  بن إسحاق، عن عبد  الغفار  بن القاسم. وقد ذكره عبد  الحسين شرف  الدين الموسوي في «المراجعات» مراجعة (٢٠).

([2])   «البداية والنهاية» (٣/٣٨).

([3])   «ميزان الاعتدال» (٢/٣٢٨).