المَبحثُ الخَامسُ

آيةُ ذَوِي القُرْبَىٰ

  وَهِي قَولُ  اللهِ تَبَاركَ وتعالىٰ: ﴿ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ٢٣﴾ [الشورىٰ: ٢٣]. قَالُوا: إِنَّ النَّبيَّ أَمَرَ النَّاسَ بِمَوَدَّةِ قَرَابَتِه، وَبَعْضُهُم يَنْقُلُ الإِجْمَاعَ عَلَىٰ أَنَّهَا فِي قُرْبَىٰ آلِ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا غَيرُ صَحِيحٍ.

  فَالحَدِيثُ أَخْرَجَه البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِه([1]) عن سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عَن قَولِ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿.. قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى... ٢٣﴾ فَقُلْتُ ــــ أي: سعيد بن جبير ــــ إِلَّا أَنْ تَودُّونِي فِي قَرَابَتِي([2]). فَالْتَفَتَ إِلَيَّ عَبدُ  اللهِ بنُ عَبَّاسٍ([3]) وَقَالَ: عَجِلْتَ فَوَاللهِ مَا مِن بَطْنٍ مِن بُطُونِ قُرَيشٍ إِلَّا وَلِمُحَمَّدٍ فِيهم قُرْبَىٰ. فَقَالَ: إِلَّا أَن تَصِلُوا مَا بَيني وَبَينَكُم مِن قَرَابةٍ.

  وَقَالَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عن رَسُولِه: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ ٨٦﴾ [ص: ٨٦]، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ... ٤٧﴾ ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ١٠٤﴾ ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ٥٧﴾ [الفرقان: ٥٧]، وَالقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُه بَعضاً وَلَا يُنَاقِضُ بَعْضُه بَعْضاً. كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿.. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ٱخْتِلَافًا كَثِيرًا ٨٢﴾ [النساء: ٨٢].

  فَلَا يُمكِنُ إذاً أَن يَنُصَّ  اللهُ في كُلِّ هَذِه الآياتِ عَلَىٰ أَنَّ النَّبيَّ لَا يَسأَلُ أَجْراً، وَيَكُونُ هَذَا حَالَ إخْوَانِه الأَنْبِياءِ ثُمَّ يَأْتِي بَعدَ ذَلِكَ بِآيةٍ تُنَاقِضُ هَذَا كُلَّه فَتَقُولُ: هُو يَسْأَلُ أَجْراً وَهُو مَوَدَّةُ قَرَابَتِه!! فالنَّبيُّ لَا يَسْأَلُ أَجْراً، فَكَيفَ يَدَّعُونَ أَنَّ النَّبيَّ يَقُولُ لَهُم: أَسْأَلُكُم أَجْراً وَاحِداً وَهُو أَنْ تَودُّوا قَرَابَتِي؟! أبداً، فالنَّبِيُّ لَا يَسْأَلُ أَجْراً، بَلْ جمِيعُ الأَنْبِياءِ الَّذِين أَرْسَلَهُم  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ لَم يَسْأَلُوا قَومَهُم أَجْراً.

  فَهَذَا نُوحٌ يَقُولُ لِقَومِه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ١٠٩﴾ [الشعراء: ١٠٩].

  وَهُود قَالَ لِقَومِه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ١٠٩﴾ [الشعراء: ١٢٧].

  وصَالِح قَالَ لِقَومِه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ١٠٩﴾ [الشعراء: ١٤٥].

  ولَوطٌ قَالَ لِقَومِه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ١٠٩﴾ [الشعراء: ١٦٤].

  وشُعَيبُ قَالَ لِقَومِه: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ١٠٩﴾ [الشعراء: ١٨٠].

  والنَّبيُّ أَكْرَمُ الأَنْبِياءِ وَأَفْضَلُهُم، وَهُو أَوْلَىٰ بِأَنْ لَا يَسْأَلُ أَجْراً.

  ومَعْنىٰ ﴿إِلّا﴾ هُنَا إِمَّا أَن تَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعاً؛ أَي: بِمَعْنَىٰ «لَكِن» وَهُو الصَّحِيحُ بِدِلَالةِ الآياتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَرِيباً، وَهِي أَنَّ النَّبيِّ لَا يَسْأَلُ أَجْراً أبَداً فَيكُونُ قَولُ  اللهِ: ﴿.. إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى... ٢٣﴾ ، وَلَكِن وُدُّونِي فِي قَرَابَتِي، أَنَا قَرِيبٌ مِنْكُم دَعُونِي أَدْعُو النَّاسَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَن النَّبيِّ أَنَّه سَأَلَ قُرَيشاً أَنْ يَتْرُكُوه يَدْعُو إِلَىٰ  اللهِ، فَإِنْ ظَهَرَ كَانَ لَهُم هَذَا، وَإِنْ قَتَلَه النَّاسُ فَيَسْلَمُونَ من دَمِه.

  فَالنَّبيُّ مَا سَأَلَ أَجْراً أَبَداً لِقَرَابَتهِ وأهل بيته. لَو كَانَ يُرِيدُ أَجْراً لِقَرَابَتِه كَانَ يَقُولُ: لِذِي القُرْبَىٰ أَوْ لِذَوِي القُرْبَىٰ أَمَّا أَنْ يَقُولَ: ﴿.. فِي ٱلْقُرْبَى... ٢٣﴾ فَلَا يَصِحُّ. وَيَدُلُّ عَلَىٰ ذَلِكَ أَنَّ  اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ لَمَّا ذَكَرَ الخُمُسَ قَالَ: ﴿وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَى وَٱلْيَتَامَى وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ... ٤١﴾ [الأنفال: ٤١]، وَلَم يَقُلْ: ﴿.. فِي ٱلْقُرْبَى... ٢٣﴾ وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿.. وَلِذِي ٱلْقُرْبَى... ٤١﴾ .

  قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيميّةَ  رحمه الله: «جَميعُ مَا فِي القُرْآنِ مِنَ التَّوصِيةِ بحُقُوقِ ذَوِي قُرْبَىٰ النَّبيِّ، وذَوِي قُرْبَىٰ الإِنْسَانِ إِنَّمَا قِيلَ فِيهَا: ُ وَلَم يَقُلْ: ُ؟ ژِ»([4]).

  يُقَالُ كَذَلِكَ، لَيسَ مُنَاسِباً لِشَأْنِ النُّبوَّةِ طَلَبُ الأَجْرِ وَهُو مَودَّةُ ذَوِي قُرْبَاه؛ لأَنَّ هَذَا مِن شِيمَةِ طَالِبي الدُّنْيَا. إِنَّ هَذَا القَولَ يُوجِبُ تُهْمَةَ النَّبيِّ ومع كلِّ ما تقدمَ فإنَّ هذه الآية في سورة الشورىٰ، وهي مكيّةٌ والحسنُ والحسينُ لم يُخْلقَا بعدُ، وعليٌّ لم يتزوجْ فاطمةَ.

 

([1])    أخرجه البخاري (٤٨١٨).

([2])   ذكر الأنطاكي في كتابه «لماذا اخترت مذهب الشيعة؟» هذا الحديث وبتره هنا، ونسب كلام سعيد إلىٰ ابن عباس (ص٨٤).

([3])   تنبّه أخي القارئ إلىٰ أنَّ ابنَ عبّاسٍ   صحابيٌّ عَالِـمٌ جليلٌ بحرٌ في العلومِ، دعا له رَسُولُ  الله  ﷺ ــــ ودعاؤه مُستجابٌ ــــ بأنْ يعلِّمَهُ  اللهُ التأويلَ والحِكْمَةَ، وقد أُجِيبَ دعاؤُه  ﷺ. وهو أيضاً مِن ذوي الْقُرْبَىٰ (ابنُ عَمِّ النَّبِيِّ  ﷺ) ولـم يمنعْهُ هذا مِن تأويلِ الآية علىٰ وجهها الصوابِ ــــ كما أمره  اللهُ تعالىٰ ــــ.

([4])   «مِنْهاج السُّنَّةِ» (٧/١٠١).