حَدِيثُ المَنْزِلَةِ
22-03-2023
المبحث الرابع
حَدِيثُ المَنْزِلَةِ
خَرَجَ النَّبيُّ فِي غَزْوَةِ «تَبُوكَ»، وَلَم يَأْذَنْ لأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْه، وَمَا تَخَلَّفَ فِي المَدِينَةِ إِلَّا سِتَّةُ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الأَوَّلُ: الَّذِينَ أَمَرَهُم النَّبيُّ بِالجلُوسِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: المَعْذُورُونَ مِنَ المَرْضَىٰ وَكِبَارِ السِّنِّ وَالمُعَاقِينَ وَالعُمي والفُقَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُم.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: النِّسَاءُ.
الصِّنْفُ الرَّابعُ: الأَطْفَالُ.
الصِّنْفُ الخَامِسُ: العَاصُونَ الذِين عَصَوا أَمْرَ رَسُولِ الله، فَتَخَلَّفُوا عَنْه فِي هَذِه الغَزْوةِ وَهُم: كَعْبُ بنُ مَالِكٍ، ومُرَارَةُ بنُ الرَّبِيعِ، وهِلَالُ بنُ أُمَـيَّةَ، وَسَبْعةٌ آخرُونَ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: المُنَافِقُونَ.
هَذِه سِتَّةُ أَصْنَافٍ فَقَط، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مِنَ الصِّنْفِ الأَوَّلِ، وَهُم الّذِينَ أَمَرَهُم النَّبيُّ بِالجُلُوسِ فِي المَدِينةِ، فَتَكَلَّمَ المُنَافِقُونَ وَقَالُوا: إِنَّ النَّبيَّ إِنَّمَا تَرَكَ عَلِيّاً فِي المَدِينةِ لأَمْرٍ فِي نَفْسِه؛ يَعْني: بُغْضاً لِعَلِيٍّ أو استثقالاً([1]).
فَبَلَغَ عَلِيّاً رضي الله عنه هَذَا الكَلَامُ فَتَبِعَ النَّبيَّ وَهُو خَارِجٌ مِنَ المَدِينةِ، وَفِي روايةٍ أَنَّه يَبْكِي رضي الله عنه([2])، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَةِ؟! فَطَيَّبَ النَّبيُّ خَاطِرَه وَقَالَ: «أَلَا تَرْضَىٰ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَة هَارُونَ مِن مُوسَىٰ إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي»([3]).
قَالُوا: قَولُ النَّبيِّ: «أَلَا تَرْضَىٰ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِن مُوسَىٰ» دَليلٌ عَلَىٰ أَنَّ عَلِيَّا رضي الله عنه هُو الخَلِيفَةُ بَعدَ رَسُولِ الله؛ لأنَّ هَارون هُو الخَلِيفَةُ بَعدَ مُوسَىٰ لَمَّا خَرَجَ لِمِيقَاتِ رَبِّه، فَعَلِيٌّ هُو الخَليفَةُ بَعدَ رَسُولِ اللهِ.
وَهَذَا بَاطِلٌ مِن وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: إِنَّ هَارُونَ لَم يَخْلُفْ مُوسَىٰ، بَلِ المِشْهُورُ أَنَّ هَارُونَ عَلَيه الصَّلَاةُ والسَّلَامُ تُوُفِّي قَبلَ مُوسَىٰ بِسَنَةٍ([4]).
الثَّانِي: إِنَّ هَارُونَ بَقِي فِي المَدِينةِ لَمَّا خَرَجَ مُوسَىٰ لِلقَاءِ رَبِّه وَمَعَ هَارُونَ العَسْكَرُ والجَيْشُ وَخَرَجَ مُوسَىٰ ومَعَه بَعْضُ الرِّجَالِ لِلقَاءِ رَبِّه تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ، أَمَّا عَلِيٌّ فَلَم يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ العَسْكَرِ مَعَه إِلَّا الَّذِينَ عَصَوا أَمْرَ اللهِ أو مَنْ أَمَره الرَّسُولُ بِالبَقَاءِ فَاخْتَلَفَ الأَمْرُ.
الثَّالِثُ: إِنَّ النَّبيَّ إِنَّمَا طَيَّبَ خَاطِرَ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ لأَنَّ عَلِيّاً هُو الّذِي جَاءَ وَاشْتَكَىٰ وَلو لَمْ يَأْتِ عَلِيٌّ لِلنَّبيِّ مَا قَالَ لَه هَذَا الكَلَامَ، فَبَيَّنَ لَه أَنَّ الأَمْرَ لَيسَ كَذَلِكَ، فَأَنَا مَا خَلَّفْتُكَ بُغْضاً لَكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مُوسَىٰ لَمَّا خَرَجَ لِلقَاءِ رَبَّه تَرَكَ هَارُونَ، وَلَم يَكُنْ هَذَا مَنْقَصَةً لِهَارُونَ . كَذَلِكَ إِذَا خَرَجْتُ أَنَا وَتَرَكْتُكَ فِي المَدِينةِ، فَلَيسَ هَذَا مَنْقَصَةً لَكَ، لِذَلِكَ لَو كَانَ غَيرُ عَلِيٍّ وقيل فيه ما قيل في علي وَجَاءَ لِلنَّبيِّ وَاشْتَكَىٰ بِنَفْسِ الشَّكْوَىٰ الَّتِي اشْتَكَاهَا عَلِيٌّ لَمَا كَانَ يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ لَه النَّبيُّ هَذَا الكَلَامَ نَفْسَه، وَإِنَّمَا اشْتَكَىٰ عَلِيٌّ وَلَم يَشْتَكِ غَيرُه لمّا تكلّمَ فيه الناسُ؛ لأَنَّ بَقِيَّةَ الولَاةِ مَا كَان النَّبيُّ يَتْرُكُهُم مَعَ النِّسَاءِ والصِّبْيَةِ فَقَط، بَلْ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُم عَلَىٰ رِجَالٍ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبيُّ يَخْرُجُ بِالجَيْشِ كُلِّه عادةً.
فَعَلِيٌّ رضي الله عنه لَمَّا رَأَىٰ الأَمْرَ كَأَنَّ فِيه مَنْقَصَةً، وَتَكَلَّمَ المُنَافِقُونَ خَرَجَ خَلْفَ النَّبيِّ يَسْأَلُه عن سَبَب هَذَا التَّرْكِ، فَبيَّنَ لَه النَّبيُّ أَنَّه لَيسَ عنِ كُرْهٍ، وَلَا كَمَا يَدَّعِي المُنَافِقُونَ، إِنَّمَا كَمَا أَبْقَىٰ مُوسَىٰ هَارُونَ، أَنَا أُبْقِيكَ فِي أَهْلِي.
الرَّابِعُ: إِنَّ النَّبيَّ لَم يُبْقِ عَلِيّاً خَلِيفةً عَلَىٰ المَدِينةِ فِي هَذِه الغَزْوَةِ، بَل اسْتَخْلَفَه عَلَىٰ أَهْلِ بَيتِه خَاصَّةً، كَمَا يَذْكُرُ أَهْلُ السِّيَرِ كَابنِ جَريرٍ([5]) وابنِ كَثيرٍ([6]) وغَيرهِما أَنَّ الوَالِي عَلَىٰ المَدِينةِ فِي تِلْكَ الغَزْوةِ هُو مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَلَيسَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ.
الخَامِسُ: كَيفَ يُمْكِنُ لَنَا أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ مِنَ النَّبيِّ لِعَلِيٍّ مَنْقَبةٌ لَه، وَأَنَّه لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ النَّبيُّ إِلَّا وَعَلِيٌّ خَلِيفَتُه، ثُمَّ نَرَىٰ عَلِيّاً يَخْرُجُ بَاكِياً خَلْفَ النَّبيِّ؟ أَفَهِمْنَاهَا وَلَم يَفْهَمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه؟ فَلَو كَانَ تَرْكُ النَّبيِّ لِعَلِيٍّ مَنْقَبةً بِحَدِّ ذَاتِهَا لَمَا خَرَجَ خَلْفَه، وَلَعَلِمَ أَنَّ النَّبيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا وَهُو خَلِيفَتُه مِنْ بَعْدِه.
السَّادِسُ: إِنَّ النَّبيَّ اسْتَخْلَفَ غَيرَ عَلِيٍّ بَعْدَه، فَإِنَّه بَعدَ غَزْوةِ «تبُوك» خَرَجَ إِلَىٰ حَجَّةِ الوَدَاعِ وَكَانَ عَلِيٌّ فِي اليَمَنِ، وَلَم يَتْرُكْ عَلِيّاً في المَدِينةِ.
أَمَّا تَشْبِيهُ النَّبيِّ لِعَلِيٍّ بِهَارُونَ! فَنَقُولُ: إنَّ النَّبيَّ شَبَّه أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِأَعْظَمَ مِن هَارُونَ فَفِي غَزْوة «بَدْرٍ» لمَّا كَانَتْ قضِيَّةُ الأَسْرَىٰ، وَاسْتَشَارَ النَّبيُّ أَبَا بَكْرٍ، فَرَأَىٰ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُم، وَأَنْ يُفَادِيَهُم قَومُهُم، وَرَأَىٰ عُمَرُ أَنْ يَقْتُلَهُم، فَقَالَ النَّبيُّ لأَبِي بَكْرٍ: «إِنَّ مَثَلَكَ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ يَومَ قَالَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ ٱلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٦﴾ [إبراهيم: ٣٦]. وَمَثَلَكَ كَمَثَــلِ عِيسَىٰ إِذْ قَالَ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ١١٨﴾ [المائدة: ١١٨]». ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَىٰ عُمَرَ فَقَالَ: «يَا عُمَرُ، إِنَّ مَثَلَكَ مَثَلُ نُوحٍ لَمَّا قَالَ: ﴿.. رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّارًا ٢٦﴾ [نوح: ٢٦]. وَمَثَلَكَ مَثَلُ مُوسَىٰ لَمَّا قَالَ: ﴿.. رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ ٨٨﴾ [يونس: ٨٨]»([7]).
فَشَبَّه أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسىٰ، وشَبَّه عُمَرَ بنُوحٍ ومُوسَىٰ، وَأُولَئِكَ مِن أُولِي العَزْمِ وَهُم خَيرُ البَشَرِ بَعدَ رَسُولِ اللهِ، وهُم أَفْضَلُ من هَارُونَ بِدَرَجَاتٍ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلَامُه عَلَيهِم أَجْمَعِينَ، فَلَيسَ تَشْبِيهُ النَّبيِّ لِعَلِيٍّ بِهَارُونَ بِأَفْضَلَ أَو بِأَعْظَمَ مِن تَشْبِيه النَّبيِّ لأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَىٰ وَمُوسَىٰ وَنُوحٍ.
([1]) «مختصر تاريخ ابن عساكر» (١٧/٣٤٧).
([2]) «مختصر تاريخ ابن عساكر» (١٧/٣٤٥).
([3]) أخرجه البخاري (٣٧٠٦)، ومُسْلم (٢٤٠٤) دون أنْ تذكر تفاصيل القصة عندهما.
([4]) «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (١/٣٠٤)، «البداية والنهاية» (١/٢٩٧).
([5]) «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٢/٣٦٨)، ولكن قال: «الوالي علىٰ المدينة سباعُ بنُ عرفطةَ».
([6]) «البداية والنهاية» (٥/٧).
([7]) أخرجه أحمد (١/٣٨٣) ورجاله ثقات، إلا أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه.