الفَصلُ الأَولُ

الأدِلَّةُ النّقْلِيةُ لِمَنْ قالَ بأَولَوِيَّةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ
بالخِلافةِ قَبْلَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعُثمانَ والرَّدُّ عليها

 

المَبحثُ الأولُ

حديثُ الغدير

  عن زيدِ بنِ أرقمَ  رضي الله عنه قال: قامَ رسولُ  اللهِ يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدْعَىٰ خُمّاً بين مكةَ والمدينةِ، فحمِدَ  اللهَ وأثنىٰ عليه وَوَعظَ وذكَّر ثم قال: «أَلَا أيُّها النَّاسُ فإنَّما أنا بشرٌ يُوشِكُ أن يأتي رَسُولُ ربي فأُجيب، وأَنَا تَارِكٌ فِيكُم ثَقَلين أَوَّلهُمَا كِتَابُ  اللهِ فِيه الهُدَىٰ والنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ  اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ»، فَحَثَّ عَلَىٰ كِتَابِ  اللهِ وَرَغَّبَ فِيه، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم  اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم  اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم  اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي».

  فقَالَ حُصَينُ بنُ سبرةَ لزيدٍ: ومَنْ أَهْلُ بَيْتِه يَا زَيدُ؟ أَلَيسَ نِسَاؤُه مِنْ أَهْلِ بَيْتِه؟

  قَالَ: نِسَاؤُه مِنْ أَهْلِ بَيْتِه، وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِه مِنْ حُرِمَ الصَّدقةَ بَعْدَه.

  قَالَ: وَمَنْ هُم؟ قَالَ: هُم آلُ عَلِيٍّ، وآلُ عقِيلٍ، وآلُ جَعْفرٍ، وآلُ عَبَّاسٍ.

  قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَة؟ قَالَ: نَعَم([1]).

  وَجَاءَ عِندَ غَيرِ مُسْلِمٍ؛ كَالتِّرْمذِيِّ([2])، وأَحْمَدَ([3])، والنَّسَائِيِّ فِي «الخَصَائِصِ»([4]) والحَاكِمِ([5]) وغَيرِهِم زَيادَةُ أَنَّ النَّبيَّ قَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاهُ».

  وَجَاءَتْ زِيَادَاتٌ أُخْرَىٰ كَمِثلِ قَوِلِه: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَه، وأدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ» وَزِيَادَاتٌ أُخْرَىٰ لَا جَدْوَىٰ مِن ذِكْرِهَا الآنَ.

  فأما زيادةُ «مَنْ كُنْتُ مَولَاه فَعَلِيٌّ مَولَاه» فوردتْ عِندَ التِّرْمِذِيّ، وَأَحْمَدَ، والنَّسَائِيِّ، والحَاكِمِ، وغَيرهِم بِأَسَانِيدَ صَحِيحةٍ عَنِ النَّبيِّ.

  وَهَذَا الحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِه الشيعةُ عَلَىٰ أَنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه هُو الخَلِيفَةُ بَعدَ الرَّسُولِ مِن بَابِ قَولِ النَّبيِّ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاه فَعَلِيٌّ مَولَاهُ»، وَيَقُولُونَ: إِنَّ قَولَ النَّبيِّ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه» أَي: عَلِيٌّ هُو الخَلِيفَةُ وَالمَولَىٰ بِمَعْنَىٰ الوَالِي؛ أَي: السَّيِّدُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ، هَذِه هِي جِهَةُ الدّلَالَةِ.

  وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ الأُخْرَىٰ كَقَولِه: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وعَادِ مَنْ عَادَاه» هَذِه الزِّيَادَةُ صَحَّحَهَا بَعضُ أَهْلِ العِلْمِ، والصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ.

  وأَمَّا زِيَادَةُ: «انْصُرْ مَنْ نَصَرَه، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَه، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَه حَيثُ دَارَ»؛ فَهَذِه زِيَادَةٌ مَكْذُوبةٌ عَلَىٰ النَّبيِّ.

  وَجَاءَ الحَدِيثُ كَذَلِكَ عن عَلِيٍّ  رضي الله عنه لَمَّا كَانَ فِي الرَحبةِ فِي الكُوفَةِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ الرَّسُولَ يَقُولُ لِي يومَ غَديرِ خُمٍّ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاهُ»؟ فَشَهِدَ بِذَلِكَ اثنا عشر بَدْرِيّاً([6]).

سَبَبُ قَولِ النَّبيِّ هَذَا الكَلَامَ لِعَلِيٍّ:

  يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبيَّ إِنَّمَا أَوقَفَ النَّاسَ فِي هَذَا المَكَانِ فِي الحَرِّ الشَّدِيدِ؛ أَي: في الجُحْفَةِ الَّتِي فِيها غَدِيرُ خُمٍّ وَكَانَ عَدَدُهُم أَكْثَرَ مِن مِئةِ أَلْفٍ ــــ وَكَانَ مُفْترقَ الحَجِيجِ ــــ وَأَنَّه اجْتَمَعَ بِهِمُ النَّبيُّ لِيُبَيِّنَ لَهُم هَذَا الأَمْرَ وَهُو «مَنْ كُنْتُ مَولَاه فَعَلِيٌّ مَولَاهُ» وَيزيدُونَ الزِّيَادَاتِ الَّتي مَرَّ ذِكْرُها.

  والصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الحديثَ سَبَبُه أَمْرَانِ اثْنَانِ:

  الأَوَّلُ: عن بُريدَةَ بنِ الحَصِيبِ  رضي الله عنه قَالَ: أَرْسلَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ إِلَىٰ النَّبيِّ لِيُرْسِلَ لَه مَنْ يَقْبِضُ الخُمُسَ([7]) فَجَاءَ عَلِيٌّ وَقَبضَ الخُمُسَ ثُمَّ اخْتَارَ جَارِيةً مِنَ الخُمُسِ وَدَخَلَ بِهَا، وَقَالَ بُريدَةُ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيّاً وَقَد اغْتَسَلَ([8])، فَقُلْتُ لِخَالدٍ: أَلَا تَرَىٰ إِلَىٰ هَذَا؟! فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَىٰ النَّبيِّ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَه، فَقَالَ النبيُّ لِبُريدَةَ: «يَا بُريدَةُ أَتَبْغَضُ عَلِيّاً؟» فَقْلْتُ: نَعَم. فَقَالَ النَّبيُّ: «لَا تُبْغِضْه، فَإِنَّ لَه فِي الخُمُسِ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ»([9])، وفِي روايةٍ([10]) أَنَّ النَّبيَّ قَالَ لِبُريدَةَ: مَن «كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه».

  الثَّاني: عن أَبي سَعيدٍ أَنَّ عَلِيّاً مَنَعَهُم مِن رُكُوبِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، ــــ لما كانوا  في اليمن ــــ وَأَمَّرَ عَلَيهم رَجُلاً وَخَرَجَ إِلَىٰ النَّبيِّ في مكةَ ثُمَّ لَمَّا أَدْرَكُوه فِي الطَّريقِ إِذَا الَّذِي أَمَّرَه قد أَذِنَ لَهُم بِالرُّكُوبِ، فَلَمَّا رَآهُم وَرَأَىٰ الإِبِلَ عَلَيها أَثَرُ الرُّكُوبِ غَضِبَ ثُمَّ عَاتَبَ نَائِبَهُ الَّذِي جَعَلَه مَكَانَه. قَالَ أَبُو  سَعيدٍ: فَلَمَّا لَقِيْنا رَسُولَ  اللهِ، ذَكَرْنَا مَا لَقِيْنَاه مِن عَلِيٍّ ــــ مِنَ الغِلْظَةِ والتَّضْييقِ ــــ، وَفِي روايةٍ أَنَّهَا كَانَتْ حُلَلاً أَرَادُوا أَنْ يَلْبَسُوهَا، فَمَنَعَهُم عَلِيٌّ  رضي الله عنه مِن لبْسِهَا، فَقَالَ رَسُولُ  الله: «مَه يَا سعدَ بنَ مَالكٍ  ــــ وَهُو أَبُو سَعيدٍ ــــ بَعضَ قولِكَ لأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَواللهِ لَقَد عَلِمْتُ أَنَّه أَحْسَنَ فِي سَبيلِ  اللهِ».

  قَالَ ابنُ كَثيرٍ  رحمه الله: «إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَىٰ شَرْطِ النَّسَائِيِّ أَخْرَجَه البَيْهَقِيُّ وغَيرُه».

  وَقَالَ: «إِنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه لَمَّا كَثُرَ فِيه القِيلُ والقَالُ مِن ذَلِكَ الجَيشِ بِسَبَبِ مَنْعِه إِيَّاهُم اسْتِعْمَالَ إِبلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتِرْجَاعِه مِنْهُم الحُلَلَ الَّتي أَطْلَقَهَا لَهُم نَائِبُه لِذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

  لَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ مِن حَجَّتِه وَتَفَرَّغَ مِن مَنَاسِكِه وَفِي طَرِيقِه إِلَىٰ المَدِينة مَرَّ بِغَدِيرِ خُمٍّ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيباً فَبَرَّأَ سَاحةَ عَلِيٍّ، وَرَفَعَ قَدْرَه وَنَبَّه عَلَىٰ فَضْلِه لِيزيلَ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ»([11]).

  إِذاً: هَذَا هُو الأَمْرُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الحَدِيثِ، هُم تَكَلَّمُوا فِي عَلِيٍّ، وَلِذَلِكَ النَّبيُّ أَخَّرَ الكَلَامَ إِلَىٰ أَنْ رَجَعَ إِلَىٰ المَدِينَةِ وَلَم يَتَكَلَّمْ وَهُو فِي مَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًىٰ أَو فِي يومِ عَرَفةَ وَإِنَّمَا أَجَّلَ الأَمْرَ إِلَىٰ أَنْ رَجَعَ. لِمَاذَا؟ لأَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ المَدِينةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي عَلِيٍّ  رضي الله عنه مِنْ أَهْلِ المَدِينةِ، وَهُم الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ فِي السَّرِيَّةِ.

  وَغَدِيرُ خُمٍّ فِي الجُحْفَةِ وَهِي تَبْعُدُ عن مَكَّةَ تَقْرِيباً خَمْسَةً وسَبعينَ وَمَئةٍ كِيلُو مِتْراً، وَالَّذِي يَقُولُ: إِنَّه مُفْتَرَقُ الحَجِيجِ يهرف بما لا يعرف؛ لأنَّ مُجْتَمعَ الحَجِيجِ مَكَّةُ، ومُفْتَرَقَ الحَجِيجِ مَكَّةُ فَلَا يَكُونُ مُفْتَرَقُ الحَجِيجِ بَعيداً عن مَكَّةَ أَكْثَرَ مِن خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ وَمَئةٍ كِيلُو مِتْراً أَبَداً، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبْقَونَ فِي مَكَّةَ، وأَهْلُ الطَّائِفِ يَرْجعُونَ إِلَىٰ الطَّائِفِ، وأَهْلُ اليَمَنِ إِلَىٰ اليَمَنِ، وأَهْلُ العِرَاقِ إِلَىٰ العِرَاقِ، وَهَكَذا، كُلُّ مَنْ أَنْهَىٰ حَجَّه فَإِنَّه يَرْجعُ إِلَىٰ بَلَدِه، وَكذَلِكَ القَبَائِلُ العَرَبيَّةُ تَرْجِعُ إِلَىٰ مَضَارِبِهَا، فَلَمْ يَكُن مَعَ النَّبيِّ إِلَّا أَهْلُ المَدَينةِ وَمَن كَانَ عَلَىٰ طَرِيقِ المَدِينةِ فَقَط، وَهُم الَّذِينَ خَطَبَ فِيهِم النَّبيُّ فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه».

  وَالاخْتِلَافُ بَينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي مَفْهُومِ قَولِ النَّبيِّ ليس فِي الثُّبوتِ، فَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه»؛ أَي: مَنْ كُنْتُ وَالِيَه فَعَلِيٌّ وَالِيْه، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ مَفْهُومَ قَولِ النَّبيِّ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه»؛ أَي: المُوَالَاةُ الّتِي هِيَ النُّصْرَةُ والمَحَبَّةُ، وَعَكْسُهَا المُعَادَاةُ، وَذَلِكَ لأُمُورٍ:

  أولاً: لِلزّيَادَةِ الَّتِي وَرَدَتْ، وقد صَحَّحَهَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، وَهِي قَولُ النَّبيِّ: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه وَعَادِ مَنْ عَادَاه». فَالمُوالَاةُ والمُعَادَاةُ هِي شَرْحٌ لِقَولِه: «فَعَلِيٌّ مَولَاه» فَهِي فِي حَثِّ الناس علىٰ مَحَبَّة عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ  رضي الله عنه.

  ثانياً: إِنَّ وُقُوفَ النَّبيِّ لَم يَكُنْ لأَجْلِ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَأَكْثرَ  رضي الله عنه، وَلكِنَّ القَصْدَ أَنَّ وُقُوفَ النَّبيِّ كَانَ لِلرَّاحَةِ، والسَّفَرُ مِن مَكَّةَ إِلَىٰ المَدِينةِ طَويلٌ يستغرقُ خَمسةَ إِلَىٰ سَبعَةِ أَيَّامٍ يَسْتَرِيحُ فيه النَّبيُّ أَكْثرَ مِن مَرَّةٍ، والنَّبيُّ ذَكَّرَ النَّاسَ بِكِتَابِ  اللهِ وَأْهْلِ بَيتِه، وَأَنَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُم المحبة والاحْتِرَامُ والتَّوقِيرُ وَالاتِّبَاعُ أَيضاً، ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ نَبَّه النَّبيُّ إِلَىٰ مَا وَقَعَ بِشَأْنِ عَلِيٍّ  رضي الله عنه من تضييقه علىٰ الجيش في أمر الغنائم مما سبق ذكرُه مما أغضبهم فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاهُ».

  ثالثاً: دِلَالةُ كَلِمةِ مَولَاهُ. قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: المَولَىٰ يَقَعُ عَلَىٰ الرَّبِّ، وَالمَالِكِ، والمُنْعِمِ، والنَّاصِرِ، والمُحِبِّ، وَالحَلِيفِ، والعَبدِ، والمُعْتِق، وابنِ العَمِّ، والصّهْرِ([12])، كُلُّ هذه تُطْلِقُ العَرَبُ عَلَيهَا كَلِمةَ «مَوْلَىٰ».

  رابعاً: الحَديثُ لَيسَ فِيه دِلَالةٌ عَلَىٰ الإِمَامَةِ؛ لأَنَّ النَّبيَّ لَو أَرَادَ الخِلَافةَ لَم يَأْتِ بِكَلِمةٍ تَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِه المَعَانِي الَّتِي ذَكَرَهَا ابنُ الأَثِيرِ، وَلَكَانَ الأَوْلَىٰ أَنْ يَقُولَ: «عَلِيٌّ خَلِيفتِي مِن بَعْدِي» أو «عَلِيٌّ الإِمَامُ مِنْ بَعْدِي»، أو «إِذَا أَنَا مِتُّ فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِعَلِيّ بنِ أَبِي طَالِبٍ»، وَلَكن لَمْ يَأْتِ النَّبيُّ بِهذِه الكَلِمَةِ الفَاصِلةِ الَّتي تُنهِي الخِلَافَ إِنْ وُجِدَ أَبَداً، وَإِنَّمَا قَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَولَاه». ولا ريبَ أنه قد أوتيَ جوامعَ الكلمِ، فلو شاء هذا المعنىٰ لبيّنه بأوضح بيانٍ.

  قَالَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿فَٱلْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ١٥﴾ [الحديد: ١٥]. فسمّىٰ النار مولًىٰ لِشِدَّةِ المُلَاصَقةِ وَالاتّحَادِ مَعَ الكُفَّارِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ.

  خامساً: المُوَالَاةُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِعَلِيٍّ فِي حَيَاةِ رَسُولِ  الله وَبَعدَ وَفَاتِه وَبَعْدَ وَفَاةِ عَلِيٍّ  رضي الله عنه، فَعَلِيٌّ كَانَ مَولَىٰ المُؤْمِنِينَ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَكَانَ مَولَىٰ المُؤْمِنينَ بَعدَ وَفَاةِ رَسُولِ  اللهِ، وَهُو مَولَىٰ المُؤْمِنين بَعدَ وَفَاتِه هو  رضي الله عنه، فَهُو الآنَ مَولَانَا كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ٥٥﴾ [المائدة: ٥٥].

  وَعَلِيٌّ  رضي الله عنه مِنْ رُؤوسِ الَّذِينَ آمَنُوا وصلُّوا وزكُّوا.

  سادساً: لَو كَانَ النَّبيُّ يُرِيدُ الوَالِي لَمَا قَالَ: «مَوْلَىٰ»، وَلَكِن يَقُولُ: «وَالِي»، فَكَلِمةُ «مَوْلَىٰ» تَخْتَلِفُ عَن كَلِمةِ «وَالِي»، فـ «الوَالِي» مِنَ الوِلَايةِ وَهِي الحُكْمُ، أمَّا «المَوْلَىٰ» فَهِي مِنَ الوَلَايةِ وَهِي الحُبُّ، والنُّصْرَةُ، قَالَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ٤﴾ [التحريم: ٤]. فقوله تعالىٰ: ﴿.. مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ٤﴾ : مِنَ المَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ والتَّأييدِ.

  قَالَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عَن قَومِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ﴿إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٦٨﴾ [آل عمران: ٦٨].

  وَلَم يَعْنِ هَذَا أَنَّهُم هُمُ الرُّؤسَاءُ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُو إِمَامُهُم وَرَئِيسُهُم.

  قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعيُّ عَنْ حَدِيثِ زَيدٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَاءَ الإِسْلَامِ كَمَا قَالَ  اللهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ١١﴾ [محمد: ١١]([13]).

  فَالحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه هُو الخَلِيفَةُ بَعدَ رَسُولِ  اللهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّ عَلِيّاً وَلِيٌّ مِن أَوْلِياءِ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ، تَجِبُ لَه المُوَالَاةُ وَهِي المَحَبَّةُ، والنُّصْرَةُ، والتَّأْييدُ، كما تجبُ لغيرهِ مِنَ الصحابةِ رضي  الله عنهم جميعاً.

 

([1])    أخرجه مسلم (٢٤٠٨).

([2])   أخرجه الترمذي» (٣٧١٣).

([3])   أخرجه أحمد (٥/٣٤٧).

([4])   «خصائص عليّ» (٧٩).

([5])   «المستدرك» (٣/١١٠).

([6])   «السلسلة الصحيحة» رقم (١٧٥٠).

([7])   وكان النَّبِيُّ  ﷺ قد أرسلَ خالدَ بنَ الوليدِ ليغزوَ اليمنَ، وبعد أنِ انتصرَ أرسلَ إلىٰ النَّبِيِّ  ﷺ ليرسلَ له مَنْ يُخمِّسُ الغنيمةَ.

([8])   وذلكَ أنّ عليّاً لما خمَّسَ أخذَ امرأة مِنَ السَّبْي، فدخل بها ثم خرج واغتسل.

([9])   أخرجه البخاري (٤٣٥٠).

([10]) أخرجه الترمذي (٣٧١٢).

([11]) «البداية والنهاية» (٥/٩٥).

([12]) «النهاية في غريب الحديث والأثر» (٥/٢٢٨).

([13]) «النهاية في غريب الحديث والأثر» (٥/٢٢٨).