اتّهامُ عائشةَ وحفصةَ بالكُفرِ
22-03-2023
الشُّبْهَةُ الثانِيةَ عَشْرةَ
اتّهامُ عائشةَ وحفصةَ بالكُفرِ
قَالُوا عن قَولِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١﴾ [التحريم]. قَالُوا: ﴿.. صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ٤﴾ أَي: مَالَتْ إِلَىٰ الكُفْرِ. وَقَالُوا: هَذِهِ آيَاتٌ مِن كِتَابِ اللهِ نَزَلَتْ فِي عَائِشةَ وحَفْصةَ زَوجَتِي النَّبيِّ.
قُلْنَا: قال عُبيدُ بنُ عُمَيرٍ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ قَالَت: إِنَّ النَّبيَّ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِنْتِ عَمَّته وَزَوجَتِه، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وحَفْصَةُ أَنَّ أيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبيُّ فَلْتَقُلْ: إِنِّي لأَجِدُ مِنْكَ رِيْحَ مَغَافِيرٍ([1])، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَىٰ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَه ذَلِكَ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلاً عِندَ زَينبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَن أَعَودَ إِلَيه»([2]). وَكَانَ النَّبيُّ عِندَ حَفْصَةَ بِنتِ عُمَرَ فَقَالَ لَهَا: لَا تُخْبِرِي أَحَداً وَلَن أَعُود، فَأَخْبَرَتْ عَائِشةَ أَنَّهَا قَدْ نَجَحَتْ فِي خطتِهَا، وَأَنَّ النَّبيَّ امْتَنَعَ عَنِ العَسَلِ، وَأَنَّه لَن يَعُودَ إِلَيه مَرَّةً ثَانِيةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَاركَ وتَعَالَىٰ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ... ١﴾ الآيات [التحريم: ١].
قولُه تعالىٰ: ﴿إِنْ تَتُوبَا... ٤﴾ يَعْنِي: مِن هَذَا العَمَلِ، وَهُو مَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَاتِ مِنَ الغيرَةِ وَغَيرِها مِنَ الأُمُورِ، وَقَولُه: ﴿.. صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ٤﴾ ؛ أَي: مَالَتْ عَنِ الحَقِّ فِي هَذَا الفِعْلِ فَالفِعْلُ خَطَأٌ، وَلَيسَ مَعْنَىٰ مَالَتْ: كَفَرَتْ، كَيفَ وَهُنَّ زَوجَاتُ النَّبيِّ، وَهُنَّ أُمَّهَاتُ المُؤْمِنِينَ، وَهُنَّ اللَّاتِي أَمَرَ اللهُ النَّبيَّ أَنْ لَا يُطَلِّقَ مِنْهُنَّ وَاحِدةً، وَأَمَرَه أَنْ لَا يَسْتَبْدلَ بِهِنَّ أَحَداً، وَأنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلِيهِنَّ، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ٥٢﴾ [الأحزاب: ٥٢]، ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ عَلَىٰ الصَّحِيحِ أَذِنَ اللهُ له بِالزَّوَاجِ.
المُهِمُّ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَىٰ أَنَّ الغيرَةَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ جِدّاً وَهُوَ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ يَحْصُلُ بَينَ النِّسَاءِ، بَلْ إِنَّ زَوجَاتِ النَّبيِّ كُنَّ حِزْبَيْنِ.
فَعَن عَائِشَةَ قَالَت: إِن نِسَاءَ رَسُولِ الله كُنَّ حِزْبَينِ فَحِزبٌ فيه: عَائِشةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيّةُ، وَسَودَةُ. والحِزبُ الآخَرُ فِيه: أُمُّ سَلمَةَ، أُمُّ حبيبةَ، جويريةُ، ميمونةُ، زينبُ.
وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ الرَّسُولِ لعَائِشةَ، فَإِذَا كَانَت عِندَ أَحَدِهِم هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَىٰ الرَّسُولِ أَخَّرَهَا حَتَّىٰ إِذَا كَانَ الرَّسُولُ فِي بَيْتِ عائِشَةَ؛ بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ إِلَىٰ الرَّسُولِ فِي هذا الْوقْتِ.
فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمةَ يَقُلْنَ لأُمِّ سَلَمَةَ كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِي إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ هَدِيَّةً؛ فَلْيَهْدِهَا حَيثُ كَانَ مِن نِسَائِه.
فَكَلَّمَتْه أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ لَهَا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيئاً، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيئاً، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيه، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْه حِينَ دَارَ إِلَيهَا أَيْضاً، فَلَم يَقُلْ لَهَا شَيئاً، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَت: مَا قَالَ لِي شَيئاً، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيه حَتَّىٰ يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيهَا فَكَلَّمَتْه، فَقَالَ لَهَا: «لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشةَ، فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِني وَأَنَا فِي ثَوبِ امْرَأةٍ إِلَّا عَائِشَة». قَالَتْ: أَتُوبُ إلىٰ الله مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ إِنَّهُنَّ ــــ أَي: حِزْب أُمِّ سَلَمَةَ ــــ دَعَونَ فَاطِمَةَ بِنتَ رَسُولِ اللهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الله العَدْلَ فِي بنتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: «يَا بُنيَّةُ أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟» قَالَتْ: بَلَىٰ. قَالَ: «فَأَحِبِّي هَذِه» ــــ يعَني: عَائِشَةَ ــــ. فَرَجَعَتْ إِلَيهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ.
فَأَرْسَلْنَ زَينَبَ بِنتَ جَحْشٍ إِلَىٰ النَّبيِّ فَأَتَتْه فَأَغْلَظَتْ ــــ يَعْني: فِي الكَلَامِ ــــ وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدنَكَ اللهَ العَدْلَ فِي ابنةِ أَبِي قُحَافَةَ: يَقُولُ فَرَفَعَتْ صَوتَهَا حَتَّىٰ تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِي قَاعِدَةٌ عِندَ النَّبيِّ، فَسَبَّتْهَا حَتَّىٰ إِنَّ النَّبيَّ لَيَنْظُرُ إِلَىٰ عَائِشةَ هَلْ تَتَكَلَّمُ أَو لَا، فَتَكَلَّمَتْ عَائِشةُ تَرُدُّ عَلَىٰ زَينبَ حَتَّىٰ أَسْكَتَتْهَا. فَنَظَرَ النَّبيُّ إلىٰ عائشةَ وقال: «إنها بنتُ أبي بكرٍ»([3]).
فالقصدُ أنّ نساءَ النبيِّ ضَرَائِرُ، وَيَقَعُ بَينَ الضَّرَائِرِ الشَّيْءُ الكَثِيرُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: نَعَم أَخْطَأَتْ حَفْصَةُ وَعَائِشةُ، وَلَكِن مَا كَفَرَتَا بِاللهِ تَعَالَىٰ فِي فِعْلِهِمَا ذَلِكَ.