الشُّبهَةُ التَّاسعةُ

دعوىٰ بأَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ  الله يَهْجُرُ

  قالوا: حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ   قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ  الله([1]) وَفِي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِم عُمَرُ، فَقَالَ رَسُولُ  الله: «هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُم كتاباً لا تَضِلُّون بعده».

  فقال عمرُ: إنَّ رسولَ  اللهِ قد غلبَ عليه الوجعُ، وَعِندَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ  اللهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ البَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُم رَسُولُ  الله كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَه، وَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلَاف عِنْدَ رَسُولِ  اللهِ قَالَ رَسُولُ  الله: «قُومُوا»([2]).

  وَطَعْنُهُم فِي أَصْحَابِ رَسُولِ  الله مِنْ قِبَلِ هَذَا الحَدِيثِ يَتَمَثَّلُ فِي أَنَّهُم يَدَّعُونَ كَذِباً أَنَّ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ  الله يَهْجُرُ»([3]).

  نَعَم هُنَاكَ مَنْ قَالَ: أَهَجَر. وَلَكِنَّه لَيسَ عُمَرَ.

  وَهَذَا كَذِبٌ عَلَىٰ عُمَرَ!! لَمْ يَقُلْ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ  الله يَهْجُرُ، بَل الرِّوَايةُ فِي الصَّحِيحَينِ وَغَيرهِما أَنَّ عُمَرَ  رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ  الله قَدْ غَلَبَه الوَجَعُ، وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ كَانَ مَرَضُ الموَتِ عَلَىٰ النَّبيِّ شَدِيداً. وَبَيَّنَ هَذَا حَدِيثُ عَائِشةَ   لَمَّا أُغْمِي عَلَىٰ النَّبيِّ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّىٰ النَّاسُ؟» قَالَتْ: هُم فِي انْتِظَارِكَ يَا رَسُولَ  اللهِ. فَقَرَّبُوا إِلَيهِ المَاءَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَىٰ الصَّلَاةِ، فَسَقَطَ مَغْمِيّاً عَلَيهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّىٰ النَّاسُ؟» قَالُوا: هُم فِي انْتِظَارِكَ يَا رَسُولَ  اللهِ. فَقَالَ: «قَرِّبُوا لِي مَاءً» فَأَتَوهُ بِالمَاءِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ لِلصَّلَاةِ فَسَقَطَ. فَلَمَّا سَقَطَ الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَفَاقَ: قَالَ: «أَصَلَّىٰ النَّاسُ؟» قَالُوا: هُم فِي انْتِظَارِكَ قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»([4]).

  وَعَن عَبْدِ  اللهِ بن مَسْعُودٍ  رضي الله عنه؛ أَنَّه لَمَّا رَأَىٰ النَّبيَّ يُوعَكُ وَعْكاً شِدِيداً أَشْفَقَ عَلَيه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ  اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، فَقَالَ النَّبيُّ: «إِنِّي أُوعَكُ كَرَجُلَينِ مِنْكُم». قَالَ ابنُ مَسْعُود: أَذَلِكَ لأَنّ لَكَ الأَجْرَ مَرَّتَينِ؟ قَالَ: «نَعَم»([5]).

  فَالنَّبيُّ كَانَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ النَّبيَّ يَقُولَ: «هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُم كِتَاباً». أَشْفَقَ عَلَىٰ النَّبيِّ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ  اللهِ غَلَبَه الوَجَعُ، حَسْبُنا كِتَابُ  اللهِ.

  قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِه تَعَالَىٰ: ﴿.. ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَامَ دِينًا... ٣﴾ [المائدة: ٣].

  وَالرَّسُولُ قَالَ: «مَا تَرَكْتُ شَيئاً يُقَرِّبُكُم مِنَ الجَنَّةِ؛ وَيُبَاعِدَكُمْ عَن النَّارِ؛ إِلَّا قَدْ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ»([6]) فَمَا بَقَىٰ شَيءٌ فِي الدِّينِ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ.

  فَمَا هَذَا الكِتَابُ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَه؟

  عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ  رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ  اللهِ فَأَمَرَني أَنْ آتِيهِ بِطَبَقٍ يَكْتُبُ فِيه مَا لَا تَضِلُّ أُمَّتُه مِن بَعْدِه، قَالَ: فَخَشِيْتُ أَنْ تَذْهَبَ نَفسُه ــــ يَعْنِي: خَشِيْتُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَه الكِتَابُ ــــ، فَقُلْتُ: يَا  رَسُولَ  اللهِ إِنِّي أَحْفَظُ وَأَعِي، فَقَالَ النَّبيُّ: «أَوصِيْكُم بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم».

  فَإِذَا قَالُوا: الصَّحَابةُ عَصَوا أَمْرَ النَّبيِّ، فَلَم يَأْتُوه بِالكِتَابِ.

  فَنَقُولُ: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ عَصَىٰ؛ فَإِنَّه هُو المَأْمُورُ مُبَاشَرةً مِنَ النَّبيِّ أَنْ يَأتِيَه بِالكِتَابِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَأْتِه بِه؟! فَإِذَا لُمْنَا أَصْحَابَ النَّبيِّ عَلَىٰ هَذَا الأَمْرِ، فعليٌّ أول مَنْ يُلامُ!!

  والحقُّ أنه لَا لَومَ عَلَىٰ الجَمِيعِ لأُمُورٍ:

  أَوَّلاً: إِنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه فِي هَذَا الحَدِيثِ نَفْسِه قَالَ: فَخَشِيْتُ أَنْ تَذهَبَ نَفْسُه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ  الله إِنِّي أَحْفَظُ وَأَعِي، فَقَالَ النَّبيُّ: «أُوصِيكُم بِالصَّلَاةِ، والزَّكَاةِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم»([7]). فَالنَّبيُّ إِذاً تَلَفَّظَ بَمَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ.

  ثَانِياً: الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَه النَّبيُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِباً أو مُسْتَحَبّاً، فَإِن قَالُوا: إِنَّه أَمْرٌ وَاجِبٌ وَهُو مِن أُمُورِ الشَّرِيعَةِ الوَاجِبِ تَبْلِيغُهَا فَقَولُهُم هَذَا فِيه أَنَّ النَّبيَّ لَمْ يُبَلِّغْ جَمِيعَ الشَّرْعِ، وَهَذَا طَعْنٌ فِي  النَّبيِّ وَطَعْنٌ فِي  اللهِ الَّذِي قَالَ: ﴿.. ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ٣﴾ [المائدة: ٣]. وَإِن قَالُوا: إِنَّه مُسْتَحَبٌّ!! فَنَقُولُ: هَذَا هُو قَوْلُنَا جَمِيعاً.

  ثَالِثاً: إِنَّ الصَّحَابةَ امْتَنَعُوا شَفَقةً عَلَىٰ النَّبيِّ لَا مِن بَابِ المَعْصِيةِ وحاشاهم.

 

([1])    أَي: حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ.

([2])   أخرجه البخاري (١١٤)، ومسلم (١٦٣٧).

([3])   «فاسألوا أهل الذكر» للمتشيع التيجاني (ص١٤٤، ١٧٩)، وعزاه إلىٰ البخاري كذباً وزوراً!!

([4])   أخرجه البُخَارِيّ (٦٨٧)، ومسلم (٤١٨).

([5])   أخرجه البُخَارِيّ (٥٦٤٨)، ومسلم (٢٥٧١).

([6])   أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٠١٠٠).

([7])   أخرجه أحمد (٦٩٣).