أبا بكرٍ ظَلَمَ فاطمةَ في ميراثها
21-03-2023
الشُّبهَةُ السَّابعةُ
أن أبا بكرٍ ظَلَمَ فاطمةَ في ميراثها
قَالُوا: بَعدَ وَفَاةِ النَّبيِّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَىٰ أَبِي بَكْرٍ الصِّديقِ تَطْلُبُ مَيْرَاثَهَا مِنَ النَّبيِّ فَلَمْ يُعْطِهَا أَبُو بَكْرٍ حقَّها، وَالَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الدَّلِيلِ هُمُ الشِّيعَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوجِيهِ طَلَبِ فَاطِمَةَ لِفدَكَ([1]).
فَقَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ فَدَكَ إِرْثٌ مِنَ النَّبيِّ لِفَاطِمَةَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِي هِبَةٌ مِنَ النَّبيِّ وَهَبَهَا فَاطِمَةَ.
أَمَّا عَلَىٰ القَولِ الأَوَّلِ ــــ وَهُو أَنَّ فَدَكَ إِرْثٌ مِنَ النَّبيِّ ــــ فَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهَا أَنَّه بَعدَ وَفَاةِ النَّبيِّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ لأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَطْلُبُ مِنْه إِرْثَهَا مِنَ النَّبيِّ فِي فَدَكَ، وسَهْمِ النَّبيِّ مِنْ خَيْبَرَ وغَيْرِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: «إِنَّا لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاه صَدَقَةٌ»([2]). أَو «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»([3]). وفي رواية: «مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَةٌ»([4]).
ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ جاء بها الحديثُ. هَكَذَا أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ فَاطِمَةَ، وَفِي رِوَايةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِياءِ لَا نُورَثُ»([5]).
وَلَكِنَّ الرِّوَايةَ التَّي فِي الصَّحِيحَينَ: «إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاه صَدَقَةٌ» فَوجَدَتْ([6]) فَاطِمَةُ ، عَلَىٰ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ([7]).
فَإِمَّا أَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّه أَخْطَأَ فِي فَهْمِه لِقَولِ النَّبيِّ، أَو أَنَّه أَخْطَأَ فِي سَمَاعِه، وَهِي اسْتَدَلَّتْ بِالعُمُومِ فِي قَولِ اللهِ: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنْثَيَيْنِ... ١١﴾ [النساء: ١١].
وأَهْلُ السُّنةِ لا يَبْحثونَ عنْ عُذرٍ لأحَدٍ منْهما فكلاهُما مَعذورٌ وعُذْرهُ بَيِّنٌ واضِحٌ، فالمَسألةُ لا إشْكالَ فيها عِندَ أهْلِ السُّنةِ؛ لأَنَّهُم يَرَونَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ سمِعَهُ مِنَ النَّبيِّ رَوَاه أَبُو بَكْرٍ، وعُثْمانُ، وعُمَرُ، وعَلِيٌّ نَفْسُه وَالعَبَّاسُ، وعَبدُ الرَّحْمَن بنُ عَوفٍ، وسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالزُّبيرُ بنُ العَوَّامِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ رَوَوْا الحَدِيثَ عَنِ النَّبيِّ: «إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَة».
فَفَاطِمَةُ لَمَّا أبتْ كلامَ أبي بكرٍ حَاوَلَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنْ يَبْحَثُوا عنْ عُذْرٍ لِفَاطِمَةَ، لَا لأَبِي بَكْرٍ؛ لأَنَّهُم لَا يَرَونَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُنَا قَدْ أَخْطَأَ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ.
وقَالُوا: غَضِبَتْ عَلَىٰ أَبِي بَكْرٍ!!
ونَقُولُ: مَا يَضُرُّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا غَضِبَتْ عَلِيه فَاطِمَةُ إِنْ كَانَ اللهُ قد رَضِي عنه، فَقَدْ قَالَ اللهُ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ١٨﴾ [الفتح: ١٨]. وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ رَأْسَ المُؤْمِنينَ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبيَّ في ذَلِكَ اليَومَ، فَمَن رضي الله عنه ورَضِي عنه الرَّسُولُ، لا يَضُرُّه غَضَبُ مَنْ غَضِبَ.
وَكَذَا نَقُولُ: لَو جَعَلَ أيُّ إنسانٍ نَفْسَه مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ وَجَاءَتْه فَاطِمَةُ تَطَالِبُ بِالمِيرَاثِ وَهُو قَدْ سَمِعَ النَّبيَّ يَقُولُ: «لَا نُورَثُ». فَهَلْ يُقَدِّمُ قَولَ النَّبيِّ المَعْصُومِ أَو يُقَدِّمُ رِضَىٰ فَاطمةَ ؟
وَكَذَا القَولُ بأنَّ فَاطِمَةَ وَجَدَتْ عَلَىٰ أَبِي بَكْرٍ!! الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّه مِن زِيَادَاتِ الزُّهْرِيِّ وإدراجهِ، ولَيسَ مِن أَصْلِ الرّوَايةِ.
ثُمَّ نَرُدُّ عَلَىٰ هَذَا الدَّلِيلِ بالتَّفْصِيلِ.
أَمَّا قَولُهُم: إِنَّه إِرْثٌ!! فَنَقُولُ: إِنَّ النَّبيَّ قَالَ: «إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» بِمَعْنَىٰ الَّذِي تَرَكْنَا هُو صَدَقَةٌ، وَلِذَلِك جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الحَدِيثِ عِندَ مُسْلِمٍ «مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَةٌ». وحَرَّفَ البعضُ هَذَا الحَدِيثَ فقال: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً» فَيَجْعَلُونَ «ما» نافيةً؛ أَي: لَم نَتْرُكْ صَدَقَةً!!
وأَهْلُ السُّنَّةِ يقولون: «مَا» هُنَا مَوصُولَةً، وَهِي الرِّوَايةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَين «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» بالرَّفعِ، وَيُؤَكِّدُ هَذِه الرِّوَايةَ رِوَايةُ «مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَةٌ». فَالنَّبِيُّ لا يُورَثُ، بَلْ عَلَىٰ الصَّحِيحِ إِنَّ الأَنْبيَاءَ جَمِيعاً لَا يُورَثُونَ.
وَهْم يَسْتَدِلُّونَ بِقَولِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عن زَكَرِيّا : ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ٦﴾ [مريم: ٦، ٧]. قَالُوا: هُنَا أَثْبَتَ الوِرَاثَةَ، وأثبتها مرة ثانية فقال عن سُلَيمَانَ : ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ ١٦﴾ [النمل: ١٦].
وتَفْسِيرُ هَاتَينِ الآيَتَينِ مَا يَأْتِي:
أَمَّا الآيةُ الأُولَىٰ: وَهِي قَولُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ فَنقُولُ:
أَوَّلاً: إِنَّه لَا يَلِيقُ بِرَجُلٍ صَالِحٍ أَنْ يَسَأَلَ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ وَلَداً حَتَّىٰ يَرِثَ المَالَ فَقَط، فَكَيفَ نَرْضَىٰ هَذَا لِنَبيٍّ كَرِيمٍ ــــ وَهُو زَكَرّيا ــــ أَنْ يَسْأَلَ وَلَداً لِكَي يَرِثَ مَالَه؟!
ثَانِياً: المَشْهُورُ أَنْ زَكَرِيّا كَانَ فَقَيراً يَعْمَلُ نَجَّاراً([8])، فَأَيُّ مَالٍ عِندَ زَكَرّيا حَتَّىٰ يَطْلُبَ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ أَنْ يَرْزُقَهَ وَارِثاً، بَل الأَصْلُ فِي أَنْبياءِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ أَنَّهُم لا يُبْقُونَ المَالَ، بَلْ يَتَصَدَّقُونَ بِه فِي وُجُوهِ الخَيرِ.
ثَالِثاً: وَهُو مَا يَدُلُّ عَلِيه سِياقُ الآيةِ، وَهُو قَولُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ... ٦﴾
كَم شَخْصٍ فِي آلِ يَعْقُوبَ؟ وأَينَ يَحِيَىٰ مِن آلِ يَعْقُوبَ؟ آلُ يَعْقُوبَ هُم مُوسَىٰ، وَدَاودُ، وَسُلِيمَانُ، ويَحْيَىٰ، وزَكَرِيّا، وأَقْوَامُهُم، بَلْ كَانَ كُلُّ أَنْبيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ؛ لأَنَّ إِسْرَائِيلَ هُو يَعْقُوبُ، فَكَيفَ بِبَقِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ غَيرِ الأَنْبِيَاءِ، إِذاً فَكَم سَيَكُونُ نَصِيبُ يَحْيَىٰ؟
ثُمَّ إِنَّه مَحْجُوبٌ بِالفَرْعِ الوَارِثِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ قَولَه: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ... ٦﴾ يَرُدُّ عَلَىٰ قوَلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّه أَرَادَ وِرَاثَةَ المَالِ، بَلْ ذَكَرَ يَعْقُوبَ؛ لأَنَّ يَعْقُوبَ نَبيٌّ، وَزَكَرِيّا نَبِيٌّ، فَأَرَادَ أَنْ يَرِثَ النُّبوَّةَ، وَالعِلْمَ، وَالحِكْمَةَ.
رَابِعاً: وَهُو قَولُ النَّبيِّ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبياءِ لَا نُورَثُ»، أَو قَولُه: «إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقةٌ» وجَاءَ فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الأَنْبياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرهَماً ولا دِينَاراً، وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ»([9]).
خَامِساً: يقولُ ربُّنا: ﴿.. إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ ٱسْمُهُ يَحْيَى... ٧﴾ [مريم: ٧] فَهَلْ وَرِثَ يَحْيىٰ مَالَ زكريَّا؟ لا؛ لأنَّه ماتَ قَبْلَهُ، ولَكنْ وَرِثَ النُّبوُّةَ فِي حَياةِ زكريَّا أَبيهِ.
وَأَمَّا الآيةُ الثَّانيةُ: وَهِي قَولُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ... ١٦﴾ ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْه المَالَ، وإِنَّمَا وَرِثَ النّبوَّةَ والحِكْمَةَ والعِلْمَ لأَمْرَينِ اثْنَينِ:
الأَوَّلُ: إِنَّ دَاودَ قَد اشْتُهِرَ أَنَّ له مِئةَ زَوجةٍ، وَلَه ثَلاثمئة سرِّيَّة ــــ أَي: أَمَة ــــ ولَه كَثِيرٌ مِنَ الأَولَادِ، فَكَيفَ لَا يَرثُه إِلَّا سُلَيْمَانُ؟ بَلْ إِخْوةُ سُلَيمَانَ أَيْضاً يَرِثُونَ، فَتَخْصِيصُ سُليمَانَ بِالذِّكْرِ لَيسَ بِسَدِيدٍ إِنْ كَانَ مَعَه وَرَثَةٌ آخَرُونَ.
ثانِياً: لو كان الأمرُ إرثاً عاديّاً؛ لما كان لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ في كِتَابِ اللهِ، وَلَكَانَ تَحْصِيلَ حَاصِلٍ، لِأَنَّ إرْثَ الْمَالِ أَمْرٌ عادِيٌّ، والَّذي لا شَكَّ فيه أَنَّ اللهَ أَرَادَ شَيْئاً آخَرَ خَصَّه بِالذِّكْرِ وَهُو إِرْثُ النُّبُوَّةِ.
وَأَمَّا قَولُهُم: إِنَّهَا هِبَةٌ وهَدِيَّةٌ مِنَ النَّبيِّ وَهَبَهَا لِفَاطِمةَ فَقَدْ رَوىٰ الكاشانيُّ في «تَفْسِيرِهِ»: أَنَّ النَّبيَّ بَعدَ فَتْحِ خَيبرَ وبَعدَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ عَلِيه: ﴿وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَى حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦﴾ [الإسراء: ٢٦]. فَنَادَىٰ فَاطِمَةَ فَأَعْطَاها فَدَكَ([10]).
ولنَقَفْ قَلِيلاً هنا:
أَوَّلاً: هذه القَصَّةُ مَكْذوبةٌ، ولَمْ تَنْزِلْ هذه الآيةُ فِي هَذَا الوَقْتِ، وَلَم يُعْطِ النَّبيُّ لِفَاطِمةَ شيئاً، بَل الصَّحِيحُ أَنَّ فَاطِمَةَ طَلَبَتْ فَدَكَ من بَابِ الإِرْثِ لَا مِن بَابِ الهِبَةِ، وفَتْحُ خَيبرَ فِي أَوَّلِ السَّنةِ السَّابعةِ، وزَينبُ بنتُ النَّبيِّ تُوفِّيَتْ في الثَّامِنةِ من الهِجْرَةِ([11])، وأُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ النَّبيِّ تُوفِّيَتْ فِي التَّاسِعةِ من الهِجْرَةِ([12])، فَكَيفَ يُعْطِي فَاطِمَةَ وَيَدَعُ أُمَّ كُلْثُومٍ وزَيْنبَ؟ فَهَذَا اتِّهَامٌ لِلنَّبيِّ أَنَّه كَانَ يُفَرِّقُ بَينَ أَوْلَادِه.
ثُمَّ إِنَّ النعمانَ بنَ بَشِيرٍ لَمَّا جَاءَ لِلنَّبيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَد وَهَبْتُ ابْنِي حَدِيقَةً، وَأُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَكَ. فَقَالَ النَّبيُّ: «أَكُـــلَّ أَولَادِكَ أَعْطَيْتَ؟» قَالَ: لَا. فَقَالَ النَّبيُّ: «اذْهَبْ، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَىٰ جَوْرٍ»([13]).
فَسَمَّاه جَوْراً؛ وَذَلِكَ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ الأَوْلَادِ عَلَىٰ بَعْضٍ، فَهَذَا النَّبيُّ الكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْهَدُ عَلَىٰ الجَوْرِ، هَلْ يَفْعَلُ الجَورَ؟! أَبَداً. بَل نَحْنُ نُنَزِّهُهُ.
ثم إن كَانَتْ هِبَةً؛ فَإِمَّا أنْ تَكُونَ قَبضَتْهَا أَو لَم تَقْبِضْهَا، فَإِنْ كَانَت قَبَضَتْهَا فَكَيفَ جَاءَت تُطَالِبُ بِهَا؟! وَإِنْ لَمْ تَكُن قَبَضَتْهَا؛ فَإِنَّ الهِبَةَ إنْ لَمْ تُقْبَضْ، فَكَأَنَّهَا لَم تُعْطَ.
فَعَلَىٰ أَيِّ الأَمْرَيْنِ سَوَاء القَولُ إِنَّهَا إِرْثٌ أَو القَولُ إِنَّها هِبَةٌ، فالقَولُ سَاقِطٌ، فَهِي لَا إِرثٌ وَلَا هِبةٌ.
والعَجِيبُ فِي هَذَا الأَمْرِ أَنَّه بَعدَ وَفَاةِ الصِّديقِ رضي الله عنه اسْتُخلِفَ عُمَرُ ابنُ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ، فلو فَرَضْنا أنّ فَدَكَ لفاطمةَ سواء ــــ كانت إِرْثاً أَو هِبةً ــــ فَهِي تَدْخُلُ فِي مِلكِ فَاطِمَةَ ، وَهِي مَاتَتْ بَعدَ النَّبيِّ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِلَىٰ مَنْ تَذْهَبُ فدَكُ؟ تَذَهَبُ إِلَىٰ الوَرَثَةِ. فَعَليٌّ لَه الرُّبُعُ لِوجُودِ الفَرْعِ الوَارِثِ وهم أولادها، والحَسَنُ وَالحُسَينُ وَزَينبُ وأُمُّ كُلْثُومٍ رضي الله عنهم لَهُمُ البَاقِي، ﴿.. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنْثَيَيْنِ... ١١﴾ [النساء: ١١]. وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَم يُعْطِ فَدَكَ لأَوْلَادِه، فَإِنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ ظَالِماً وَعُمَرُ ظَالِماً وعُثْمَانُ ظَالِماً؛ لأَنَّهُم ــــ كما يقولون ــــ مَنَعُوا فَدَكَ أَهْلَهَا؛ فَلِمَ لَا يَتَعَدَّىٰ الحُكَمُ إِلَىٰ عليٍّ؛ لأَنَّه حينما تولَّىٰ إمرةَ المؤمنين مَنَعَ فَدَكَ أَهْلَهَا وَلَم يُعْطِهَا لأَولَادِ فاطمةَ وكذا الحَسَن في خِلافتِهِ.
والصحيح أن فَدَكَ كَانت بِيدِ رَسُولِ الله، فَلَمَّا تُوفّي كَانَت بِيدِ أَبي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ، وَفي عَهْدِ عُمَرَ جَاءَ العَبَّاسُ وعَليٌّ وطَلَبَا منه أَن تكونَ بِيديهما، فَأعْطَاهُما إِيَّاهَا يُدِيرَانِها، ثُمَّ كَانَت بيد عليٍّ، وظَلَّت عِنده إِلَىٰ أَن تُوفِّيَ سنة أربعين من الهجرة، ثمَّ بيدِ الحسنِ، ثم الحُسَينِ، ثم الحَسنِ ابنِ الحسنِ، وعليِّ بنِ الحُسينِ، ثم زيدِ بنِ الحسنِ([14]). ونَحْنُ نُنَزِّهُ الجَميعَ، فنُنَزِّهُ أبا بكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعَليّاً رضي الله عنهم أَجْمعينَ، ومَنْ كانت فَدَكُ في يدِه إلىٰ زيدِ بنِ الحسنِ؛ فَلَم تَكُن فدكُ هِبَةً وَلَم تَكُن كَذَلِك إِرْثاً من النَّبيِّ.
ثانياً: كيف يتركُ النبيُّ كلَّ هذا المالِ، وهو الزاهدُ، ومما يدُلُّ علىٰ هذا أمورٌ:
- حديثُ أمِّ سلمةَ ، وفيه: أنَّ النبيَّ دَخَلَ عليها وهو سَاهِمُ الوَجْهِ قالت: فَحَسِبْتُ ذلك من وَجَعٍ، فقلت: يا رسولَ اللهِ أَرَاكَ سَاهِمَ الوَجْهِ أَفَمِنْ وَجَعٍ؟ فقال: «لا، ولكن الدَّنَانيرَ السَّبعةَ التي أتينا بها أَمْس، أَمْسَيْنَا ولم نُنْفِقْها»([15]).
- تُوفِّيَ النّبيُّ وَدِرْعُه مَرْهُونة عندَ يَهوديٍّ مُقَابلَ ثلاثينَ صَاعاً اسْتَلَفَهَا([16]). فَمَن عندَه فَدَكُ وَسَهْمُ خَيبرَ يَرْهَنُ دِرْعَهُ مقابلَ ثلاثين صاعاً؟!
- الثَّابِتُ أنَّ النَّبيَّ ﷺ أوقَفَ حِصَّتَهُ مِنْ خَيْبَر وبَني النَّضيرِ وفَدَك، كما جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ، فعَنْ عَمْرو بنِ الحارثِ قال: «ما تَرَكَ رسولُ اللهِ ﷺ عندَ موتِهِ دِرْهماً ولا ديناراً، ولا عَبْداً ولا أمَةً ولا شَيئاً، إلا بَغْلَتَهُ البَيْضاء، وسِلاحَهُ، وأرضاً جَعَلَها صَدَقَةً»([17]).
وفي سُننِ أبي داود، عن مالكِ بنِ أوسٍ قال: كانَ فيما احْتجَّ بهِ عُمَرُ رضي الله عنه أنه قال: «كانتْ لِرسُولِ اللهِ ﷺ ثَلَاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وخَيْبَرُ، وفَدَكُ، فأمَّا بَنُو النَّضِيرِ؛ فكانتْ ُحبُساً لنَوَائِبِهِ، وأمَّا فدَكُ فكانتْ حُبُساً لأبنَاءِ السَّبِيل، وأمَّا خَيْبَرُ فجزَّأها رَسولُ اللهِ ﷺ ثلاثَةَ أَجْزَاءٍ: جزأينِ بينَ المُسْلمينَ، وَجُزْءً نفقةً لأهلِهِ، فَمَا فَضلَ عنْ نفقَةِ أهلهِ جعلَهُ بين فقراءِ المُهاجرينَ»([18]).
وَيَذْكُرُونَ عن فَاطِمةَ: أَنَّها لَمَّا مُنِعَتْ فَدَكَ غَضِبَتْ وذَهَبَتْ إِلَىٰ قَبْرِ أَبِيهَا تَشْتَكِي إليه!! وَهَذَا كَذِبٌ، بَلْ وَلَا يَلِيقُ بِفَاطِمةَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ عن العَبدِ الصَّالِحِ النَّبيِّ الكَرِيمِ يَعقُوبَ : ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ٨٦﴾ [يوسف: ٨٦].
والمَشْهُورُ أَنَّ أبا بكرٍ تَرَضَّاهَا حَتَّىٰ رَضِيَتْ، كَمَا روىٰ هَذَا كَثِيرٌ من أَهْلِ العِلْمِ عنِ الشَّعْبيِّ مُرْسلاً بسندٍ صحيح([19])، والشّعبيُّ من كِبَارِ التَّابعينَ، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الأمرِ.
وكذلك المَشْهُورُ: أَنَّ فَاطمةَ غَسَّلَتْها أَسماءُ بنتُ عُميسٍ، وأَسْماءُ زوجةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَيفَ تُغَسِّلُها زوجةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وأبو بكْرٍ لَا يَدْرِي بِمَوتِها؟
والصَّحيحُ: أَنَّها دُفِنَتْ لَيْلاً، وَلَم يُؤْذَنْ أبو بكْرٍ فِيهَا.
وعائشةُ دفنتْ ليلاً، بل وسيّدُ الخلقِ رسولُ اللهِ دُفِنَ ليلاً.
([1]) فدك: اسمٌ لأرض غنمها النبي ﷺ من اليهود.
([3]) أخرجه البُخَارِيّ (٣٠٩٣)، ومسلم (١٧٥٩).
([4]) أخرجه البُخَارِيّ (٣٧١٢)، ومُسْلم (١٧٥٨).
([7]) الذي يظهر لي أن هذا القول من زيادات الزهري وإدراجه، وليس من أصل الرواية، ولي بحث في هذا الموضوع مطبوع ضمن مجلة «المعلم للبحوث الشرعية» العدد الأول.
([8]) ففي الحديث: «كان زكريا نجاراً» أخرجه مسلم (٢٣٧٩).
([10]) «تفسير الصافي» (٣/١٨٦).
([11]) «سير أعلام النبلاء» (٢/٢٥٠)، «الإصابة» (٤/٢٠٦).
([12]) «سير أعلام النبلاء» (٢/٢٥٢)، «الإصابة» (٤/٤٦٦).
([14]) «فتح الباري» (٦/٢٣٩)، حديث رقم (٣٠٩٤).
([15]) أخرجه أحمد (٦/٣١٤). ومعنىٰ ساهم الوجه؛ أي: متغير لونه. «النهاية» (٢/٤٢٩).