الشُّبهَةُ الثَّالِثَةُ

أنَّهم أغضبوا النبيَّ في عُمرةِ الحُديبيةِ

  بَعدَ أَن عَقَدَ النبيُّ صُلحَ الحُديبيةِ مَعَ قُرَيشٍ ورَجَعَ ولَم يَعْتَمِرْ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا ويَنْحَرُوا فَلَمْ يَسْتَجِيبوا لأَمْرِه فَغَضِبَ لأجلِ ذلك. فقال بعضُ الناسِ: إنّ مَن يُغْضِبُ النبيَّ يَستحيلُ أن يكونَ عدلاً.

والجوابُ:

  أولاً: ذِكْرُ حالِ الصحابةِ يومَ الحُدَيبيةِ: يقولُ عروةُ بنُ مسعودٍ لقريشٍ: «أَيْ قَوْمِ، والله لقد وفدْتُ عَلَىٰ الملوكِ ووَفَدْتُ علىٰ قيصَرَ وكِسْرَىٰ والنجاشيِّ، والله مَا رأيتُ مَلِكاً قطُّ يُعَظّمُهُ أصحابُهُ ما يُعَظِّمُ أصحابُ مُحَمَّدٍ مُحَمّداً، والله إن يَتَنَخَّمَ نُخَامةً إلا وَقَعَتْ في كفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أمَرَهُم ابتدروا أمْرَهُ، وإذا توضأَ كادوا يقتتلونَ علىٰ وُضُوئِهِ، وإذا تكلموا خَفَضُوا أصواتهم، وما يُحدُّون النَّظَرَ إليه تعظيماً له»([1]).

  فَالأَمْرُ لَيسَ مَعْصِيةً مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ، وَلَكِنَّه كَانَ لَهُم شَوْقٌ لِبَيتِ  اللهِ الحَرَامِ، وتَمَنَّوا لَو غَيَّرَ النَّبيُّ رَأْيَه أَو أَنْ يُنَزِّلَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ شَيْئاً مِنَ الوَحْي يَأْمُرُ به النَّبيَّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ تَأَخَّرُوا فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ النَّبيِّ، وَالّذِي يَدُلُّ عَلَىٰ هَذَا حِكْمَةُ أُمِّ سَلَمَةَ زوج النبيِّ رضي  الله عنها وأَرْضَاهَا، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَتْ هَذَا الأَمْرَ قَالَتْ لِلنَّبيِّ: فَاحْلِقْ أَنْتَ وَانْحَرْ هَدْيَكَ. فَخَرَجَ النَّبيُّ فَحَلَقَ ونَحَرَ هَدْيَه، وعِندَ ذَلِكَ حَلَقَ ونَحَرَ جَمِيعُ الصَّحَابةِ دُونَ أَمْرٍ جَدِيدٍ، إِذاً الأَمْرُ لَم يَكُنْ مَعْصِيةً فَبِمُجَرَّدِ أَنْ رَأَوا النَّبيَّ حَلَقَ ونَحَرَ عَلِمُوا أَنَّ الأَمْرَ قَد انْتَهَىٰ وَأَنَّه لَا مَجَالَ لِلرُّجُوعِ، فَحَلَقُوا ونَحَرُوا وَاسْتَجَابُوا لأَمْرِ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ، حَتَّىٰ أَنْزَلَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ فِيهِم:﴿لَقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ١٨﴾ [الفتح: ١٨]. وَأَنْزَلَ قَولَه تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٢٩﴾ [الفتح: ٢٩].

  فَأَنْزَلَ سُورَةَ الفَتْحِ كَامِلَةً بَعدَ صُلْحِ الحُدَيبيَّةِ، وَسَمَّاه فَتْحاً، وَهُو الفَتْحُ الحَقِيقِي الَّذِي فَتَحَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ لِنَبيِّه.

  ثانياً: ثُمَّ كَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِه إِلَّا الشِّيعَةُ، فَالنَّوَاصِبُ والخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ لَم يَسْتَدِلُّوا بِهَذَا الحديثِ.

  فَنَقُولُ لِلشِّيعَةِ: أَعَلِيٌّ كَانَ مَعَهُم أَمْ لَا؟

  بَإِجْمَاعِ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ أَنَّ عَلِيّاً  رضي الله عنه كَانَ مَعَهُم، بَلْ هُو الَّذِي كَتَبَ كِتَابَ الصُّلْحِ بَينَ النَّبيِّ وسُهَيلِ بنِ عَمْروٍ، وعَلِيٌّ كَذلِكَ لَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحْلِقْ، فَمَا كَانَ ذَمّاً لأصْحَابِ النَّبيِّ فَهُو ذَمٌّ لِعَليٍّ  رضي الله عنه، ونَحْنُ نَقُولُ بِعَدَمِ الذَّمِّ لِعَلِيٍّ وَلَا لأَصْحَابِ النَّبيِّ. وعَلِيٌّ كَذلِكَ رَفَضَ أَمْرَ النَّبيِّ لمّا طلبَ سهيلُ بنُ عمرو أن يُمحىٰ لقبُ (رسول  الله) مِن وثيقةِ الصلحِ، فوافق رسولُ  الله وأمرَ عليّاً أن يمحوها، فرفض علي الاستجابةَ لأمرِ الرسولِ حتىٰ محاها النبي بيده، فهل يُذمُّ عليٌّ عندما رفضَ طاعةَ النبيِّ أولَ مرَّة؟!

 

([1])    أخرجه البُخَارِيّ (٢٧٣١، ٢٧٣٢).