اللَّهُ لَمْ يمدحْ جميعَ الصحابةِ
21-03-2023
الشُّبهَةُ الثَّانِيةُ
اللَّهُ تعالىٰ لَمْ يمدحْ جميعَ الصحابةِ رضي الله عنهم
فِي قَولِ اللهِ تَعَالَىٰ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٢٩﴾ [الفتح: ٢٩].
ظَاهِرُ هَذِه الآيةِ مَدْحٌ لأَصْحَابِ النَّبيِّ وَلَكِن قَالَ اللهُ سبحانه وتعالى فِي الآيةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ قَلِيلٍ: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو ٱلْأَلْبَابِ ٧﴾ [آل عمران: ٧]. فذهب الطاعنون في أصحابِ النّبيِّ إِلَىٰ آخِرِ كَلِمَاتٍ فِي هَذِه الآيةِ الكَرِيمَةِ، وَهِي قَولُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: ﴿.. وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ... ٢٩﴾ . فَقَالُوا: «مِنْ» هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، فَاللهُ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم، فَبَعْضُهُم يَدْخُلُ وَبَعْضُهُم لَا. وَهَذَا مِنَ التَّلبِيْسِ وَالكَذِبِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُم تَجَاوَزَ هَذَا الأَمْرَ، وَنَقَلَ إِجْمَاعَ المُفَسِّرِينَ عَلَىٰ أَنَّ «مِنْ» هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ؛ أَي: مِنْ بَعْضِهِم([1])، وَهَذَا كَذِبٌ لأُمُورٍ كَثِيرةٍ، مِنْهَا:
أولاً: إِنَّ «مِنْ» هُنَا عَلَىٰ قَولِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ لَيسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، وإِنَّمَا
﴿.. مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٢٩﴾ تَأْتِي عَلَىٰ مَعْنَيَينِ:
المَعْنَىٰ الأَوَّلُ: مِنْ جِنْسِهِم وأَمْثَالِهم كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿.. فَٱجْتَنِبُوا ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُوا قَوْلَ ٱلزُّورِ ٣٠﴾ [الحج: ٣٠]. وَلَا يَعْنِي اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ أَنْ نَجْتَنِبَ بَعْضَ الأَوْثَانِ وَنَتْرُكَ بَعْضَهَا لَا نَجْتَنِبُهَا، بَل المُطْلُوبُ أَنْ نَجْتَنِبَ جَمِيعَ الأَوْثَانِ، فَقُولُ اللهِ: ﴿.. فَٱجْتَنِبُوا ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَانِ... ٣٠﴾ ؛ أَي: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الأَوْثَانِ.
المعنىٰ الثاني: َأو تَكُونُ «مِنْ» هُنَا مُؤَكِّدَةً كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ٨٢﴾ [الإسراء: ٨٢]. لَيسَ مَعْنَاهَا أَنَّ بَعْضَه شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، وَبَعْضَه الآخَرَ لَيسَ كَذَلِكَ، أَبَداً، بَل القُرْآنُ كُلُّه شِفَاءٌ ورَحْمةٌ. فَـ ﴿مِنْ﴾ مُؤَكِّدَةٌ؛ أي: أَنَّ القُرْآنَ كُلَّه شِفَاءٌ ورَحْمَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الآيةُ.
فَقَولُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿.. مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٢٩﴾ أَي: مِنْ أَمْثَالِهم أَو مِنْهُم لِلتَّأْكِيدِ عَلَيهم رضي الله عنهم.
ثانياً: لننظُر إِلَىٰ سِياقِ الآيةِ، كُلُّها مَدْحٌ ولَيسَ فِيهَا ذَمٌّ لِبَعْضِهِم، بَلْ مَدْحٌ لِكُلِّهِم، كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالىٰ: ﴿.. أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ... ٢٩﴾ فَزَكّىٰ اللهُ ظَاهِرَهُم بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ والذُّلِّ لَه، وَزَكَّىٰ بَاطِنَهُم في قَولِه تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿.. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا... ٢٩﴾ لَا كَمَا قَالَ عَنِ المُنَافِقِينَ: ﴿إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى ٱلصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ١٤٢﴾ [النساء: ١٤٢].
انْظُرْ كَيفَ وَصَفَ المُنَافِقِينَ فلَمْ يُزَكِّ بَاطِنَهُم، بَلْ كَذَّبَهُم فِي بَاطِنِهِم مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُم أَنَّهُم يُصَلُّونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ، أَمَّا أَصْحَابُ النَّبيِّ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ قَالَ: ﴿.. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا... ٢٩﴾ ، والقَولُ بأنَّ ﴿مِنْهُم﴾ أَي: مِنْ جِنْسِهِم، أَو لِلتَّأْكِيدِ عَلَىٰ حَالِهم قَولُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، بَلْ كُلِّ المُفَسِّرِينَ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ فيما أَعلمُ؛ كالنَّسَفِيِّ، وابنِ الجَوزِيِّ، وابنِ الأَنْبَارِيِّ، والزَّمَخْشَرِيِّ، والزَّجَّاجِ، والعكْبُرِيّ، والنَّيسَابُورِيّ، وابنِ كَثِيرٍ، والطَّبَرِيّ، وغَيرِهِم كُلُّ هَؤُلاءِ لَمَّا تَكَلَّمُوا عَن هَذِه الآيةِ قَالُوا: إِنَّ «مِنْ» هُنَا مُؤَكِّدَةٌ أو مُجَنِّسَةٌ وَلَيسَتْ تَبْعِيضِيَّةً كَمَا يَدَّعِي بَعْضُهُم([2]).
([1]) «ثُمَّ اهتديت» للمتشيع التيجاني (ص١١٧).
([2]) وانظر: «إعراب القُرآن وصرفه وبيانه» لمحمود صافي (٢٥ /٢٧٢).