الفَصْلُ الثَّالثُ

شُبُهاتٌ حَولَ الصَّحابةِ والرَّدُّ عَلَيها

 

الشَّبهةُ الأُولىٰ

حَدِيثُ النَّبيِّ ﷺ عَنِ الحَوضِ

  قالوا: قَال النبيُّ: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ، حَتَّىٰ عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»([1]).

  وهَذَا الحَدِيثُ لَه طُرُقٌ كَثِيرةٌ ورِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ:

  مِنْهَا: «إِنِّي عَلَىٰ الحَوضِ حَتَّىٰ أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُم وسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَارَبِّ مِنِّي ومِن أُمَّتي، فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَىٰ أَعْقَابِهِمِ». قَالَ ابنُ أَبِي مُليْكَةَ أَحَدُ رُوَاةِ الحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا»([2]).

  وَالرّوايةُ الثَّانِيةُ: «أَنَا فَرَطُكُم عَلَىٰ الحَوضِ([3])، ولأُنازَعنَّ أَقْوَاماً ثُمَّ لأُغْلَبَنَّ عَلَيهِم فَأَقُولُ: يَاربّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيُقالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدثُوا بَعْدَكَ»([4]).

وتَوجِيهُ الرَّدِّ عَلَىٰ هَذِه الشُّبْهَةِ:

  أَوَّلاً: إِنَّ المُرَادَ بِالأَصْحَابِ هُنَا هُمُ المُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الإِسْلَامَ في عَهْدِ النَّبيِّ كَمَا قَالَ  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ: ﴿إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ١﴾ [المنافقون: ١].

  وهم مِنَ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُن يَعْلَمُهُم النَّبيُّ كَمَا قَالَ جَلَّ وعَلا: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ١٠١﴾ [التوبة: ١٠١].

  فَهَؤُلَاءِ مِنَ المنافقينَ الذين كان يَظُنُّ النبيُّ أنهم مِن أصحابهِ، ولم يَكُونُوا كذلك.

  ثانياً: المُرَادُ بِهِم الَّذِينَ ارتَدُّوا بَعدَ وَفَاةِ النَّبيِّ، فَقَد ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنَ العَرَبِ بَعدَ وَفَاتِه، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ النَّبيُّ يَقُولُ: «أَصَحَابِي» فَيُقَالُ لَه: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إنَّهُم لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مُنذُ فَارَقْتَهُم.

  ثَالِثاً: المُرَادُ المَعْنَىٰ العَامُّ؛ أَي: كُلُّ مَنْ صَحِبَ النَّبيَّ وَلو لَم يُتَابِعْهُ، فَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ المَعْنَىٰ الاصْطِلَاحِيِّ لِكَلِمَةِ صَحَابِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَىٰ هَذَا أَنَّ رأسَ المنافقينَ عَبدَ  اللهِ بنَ أُبيّ ابنِ سَلُولٍ لما قال: ﴿.. لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ... ٨﴾ [المنافقون: ٨]

  نُقِلَ لِعُمَرَ هَذَا الكَلَامُ فقَالَ: يَا رَسُولَ  اللهِ، دَعْنِي أضرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبيُّ: «دَعْه، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَه»([5]).

  فَجَعَلَه النَّبيُّ مِن أَصْحَابِه، ولَكِن عَلَىٰ المَعْنىٰ اللُّغَويِّ لَا عَلَىٰ المَعْنَىٰ الاصْطِلَاحِيّ؛ لأَنَّ عَبدَ  اللهِ بنَ أُبَيّ ابنِ سَلُولٍ رَأْسُ المُنَافِقِينَ وَكَانَ مِمَّنْ فَضَحَه  اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ ومِمَّنْ أَظْهَرَ نِفَاقَه جَهْرةً.

  رَابِعاً: قَد يُرَادُ بِكَلِمَةِ «أَصْحَابِي» كُلُّ مَنْ صَحِبَ النَّبيَّ عَلَىٰ هَذَا الطَّرِيقِ وَلَو لَم يَرَه، ويَدُلُّ عَلَىٰ هَذَا رِوَايةُ «أُمَّتِي» أَو «إِنَّهُم أُمَّتِي».

  وأَمَّا قَولُ النَّبيِّ: «أَعْرِفُهُم»، فَالنَّبيُّ قد بَيَّنَ أَنَّه يَعْرِفُ هَذِه الأُمَّةَ، فَقِيلَ لَه: يَا رَسُولَ  اللهِ كَيفَ تَعْرِفُهُم وَلَم تَرَهُم؟ فَيقُولُ: إِنِّي أَعْرِفُهُم مِنَ آثَارِ الوُضُوءِ([6]).

  ويُؤَكِّدُ هَذَا فَهْمُ ابنِ أَبِي مُلَيكَةَ رَاوِي الحَدِيثِ عِندَمَا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا» وَهُو مِنَ التَّابِعِينَ.

  وهَذَا الحَدِيثُ لَا يَسْتَدِلُّ بِه الخَوَارِجُ، ولَا النَّوَاصِبُ، ولَا المُعْتَزِلَةُ، وإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِه الشِّيعَةُ عَلَىٰ ارْتِدَادِ أصْحَابِ النَّبيِّ.

  فَيُقَالُ لَهُم: وَمَا الَّذِي يُخْرِجُ عَلِيّاً والحَسَنَ والحُسَينَ وَغيرَهُم مِن أَهْلِ بَيتِ النَّبيِّ؟ مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا؟

  ونَحْنُ لَا نَقُولُ بِردَّتِهِم، وحَاشَاهُم، بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بإِمَامَتِهِم، ونَقُولُ بِأَنَّهُم مِن أَهْلِ الجَنَّةِ، كَمَا قَالَ النَّبيُّ عَن عَلِيٍّ  رضي الله عنه لَمَّا كَانُوا عَلَىٰ حِرَاء: «اثْبُتْ حِرَاءُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيكَ نَبِيٌّ أَو صِدِّيقٌ أَو شَهِيدٌ»([7])، وَكَانَ عَلِيٌّ مَعَ النَّبيِّ وَهُو مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ.

  وَثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ أَنَّه قَالَ عَنِ الحَسَنِ والحُسَينِ: «سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ»([8]).

  فَإِنْ قال الروافضُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَبَا عُبيدَةَ، وغَيرَهُم مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ مِنَ الَّذِينَ يُذَادُونَ عَنِ الحَوضِ؟!

  فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ النَّوَاصِبَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ عَلِيّاً أَيْضاً مِمَّن يُذَادُ عَنِ الحَوضِ.

  وإِنْ قِيلَ: ثَبَتَتْ فَضَائِلُ لِعَلِيٍّ؟!

  فَيُقَالُ: ثَبَتَتْ فَضَائِلُ أَكْثَرُ مِنْهَا لأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وعثمانَ.

 

([1])    أخرجه البخاري (٦٥٨٢).

([2])   أخرجه البخاري (٦٥٩٣).

([3])   فرطكم: أي أسبقكم.

([4])   أخرجه مسلم (٢٤٩).

([5])   أخرجه البخاري (٤٩٠٥).

([6])   أخرجه مسلم حديث (٢٤٩). وهذا نصُّه: عَن أبي هُرَيْرَةَ  رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ  اللهِ  ﷺ أَتَىٰ المَقْبرة، فقالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شاءَ  الله بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا» قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ  اللهِ؟ قالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ»، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَن لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِن أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ  اللهِ؟ فقالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟». قَالُوا: بَلَىٰ يَا رَسُولَ  اللهِ! قالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنَ الوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ علَىٰ الحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَن حَوْضِي كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقاً سُحْقاً».

([7])   أخرجه مسلم (٢٤١٧).

([8])   أخرجه أحمد (١٠٦١٦)، والترمذي (٣٧٦٨)، وابن ماجه (١١٨).