النَّهيُ عن لَعْنِ يَزِيدَ:

  ولعلَّ مِن أهمِّ الأمورِ التي وَقَعَتْ فِي زَمَنِ يَزِيدَ «وقعة الحَرَّة»([1]) وقتال عبد  الله بن الزبير، وقتل الحسين بن علي.

  وبسببها هناك مَنْ يُجَوِّزُ لَعْنَ يزيدَ بنِ معاويةَ، وهناك مَنْ يمنعُ، والذي يُجَوِّزُ لَعْنَ يزيدَ يحتاجُ أن يُثبتَ ثلاثةَ أُمُورٍ:

  الأمرُ الأولُ: أن يُثبتَ أنه كان فاسقاً.

  الأمر الثاني: أن يُثبتَ أنه لم يَتُبْ من ذلك الفِسْقِ، فإنَّ الكَافِرَ إذا تابَ تابَ  اللهُ عليه فكيف الفَاسِق؟

  الأَمْرُ الثَّالث: أَن يُثْبِتَ جَوَازَ لَعْنِ المُعَيَّنِ.

  وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ المَيِّتِ المُعَيَّنِ الَّذِي لم يَلْعَنْه  اللهُ ولَا رَسُولُه؛ لأَنَّه قَدْ ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ أَنَّه قَالَ: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُم قَدْ أَفْضَوا إِلَىٰ مَا قَدَّمُوا»([2]).

  ودِينُ  اللهِ لَم يَقُمْ عَلَىٰ السَّبِّ، وإِنَّمَا قَامَ عَلَىٰ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، فالسَّبُّ لَيسَ مِن دِينِ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ فِي شَيْءٍ، بَلْ قَالَ الرَّسُولُ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وقِتَالُه كُفْرٌ»([3]). فَسِبَابُ المُسلِمِ فُسُوقٌ، ولَم يَقُلْ أَحَدٌ مِن العلماءِ أَنَّ يَزِيدَ خَارِجٌ من مِلَّةِ الإِسْلَامِ، بَلْ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيه: إِنَّه فَاسِقٌ. وهَذَا كَمَا قُلْنَا مَبنِيٌّ عَلَىٰ ثُبُوتِ مَا ذَكَرُوه عنه مِن فِسْقٍ، وهذا عِلْمُه عِندَ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ. بلْ إِنَّه قَدْ ثَبَتَ عن النَّبيِّ أَنَّه قَالَ: «أَوَّلُ جَيشٍ يَغْزُونَ مَدِينةَ قَيصَرَ مَغْفُورٌ لَهُم»([4]). وَكَانَ هَذَا الجَيشُ بِقَيادَةِ يَزِيدَ ابنِ مُعَاوِيةَ، ويُذْكَرُ أَنَّه كَانَ مَعَهِ من سَادَاتِ الصَّحَابةِ ابنُ عُمَرَ، وابنُ الزُّبيرِ، وابنُ عَبَّاسٍ، وأَبُو أَيُّوبَ، وذَلِكَ سنةَ ٤٩هـ.

  قَالَ ابنُ كَثِيرٍ  رحمه الله: «قَد أَخْطَأَ يَزِيدُ خَطأً فَاحِشاً فِي أَمْرِه لأمِيرِه مُسلِمِ بنِ عُقْبةَ فِي وَقْعَةِ الحَرَّةِ أَنْ يُبيحَ المَدِينةَ ثَلاثةَ أَيَّامٍ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَىٰ ذَلِكَ مِن قَتْلِ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابةِ وأَبْنَائِهِم»([5]).

  وقال الغزاليُّ رحمه الله: «فإنْ قيلَ: هل يجوزُ لَعنُ يزيدَ لأنَّهُ قاتَلَ الحُسينَ أوْ آمِرٌ به؟ قلْنا: هذا لَمْ يَثْبُتْ أصلاً، فلا يَجوزُ أنْ يقالَ: إنَّهُ قَتلَهُ أوْ أمَرَ بِهِ ما لَمْ يَثْبُتْ، فَضْلاً عن اللَّعْنةِ؛ لأنهُ لا تجوزُ نِسبةُ مُسلمٍ إلىٰ كبيرةٍ مِنْ غير تَحْقيقٍ.

  فإنْ قيلَ: فَهلْ يجوزُ أنْ يقالَ: قاتِلُ الحسينِ لَعَنَهُ الله؟ أو الآمِرُ بِقَتْلهِ لَعنهُ الله؟

  قلنا: الصوابُ أن يُقالَ: قاتِلُ الحُسينِ إنْ ماتَ قَبْلَ التَّوبَةِ لَعنَهُ اللهُ، لأنَّه يَحْتَملُ أنْ يموتَ بعدَ التَّوبَةِ؛ لأنَّ وحْشياً قَتلَ حَمْزَةَ عمَّ رسولِ الله، قَتَلَهُ وهو كافرٌ، ثمَّ تابَ عنِ الكُفرِ والقَتْلِ جميعاً، ولا يجوزُ أنْ يُلْعَنَ، والقَتْلُ كبيرةٌ ولا تَنتهي بهِ إلىٰ رُتْبةِ الكُفْر، فإذا لم يُقيدْ بالتَّوبةِ وأُطْلقَ؛ كان فيه خَطَرٌ، وليسَ في السّكوتِ خَطَرٌ، فهو أولىٰ»([6]).

  قالَ ابنُ الصَّلاحِ رحمه الله: «والنَّاسُ في يزيد ثلاثُ فِرَقٍ: فِرْقَة تُحِبُّهُ وتَتولاهُ، وفِرْقَة أخرىٰ تَسُبُّهُ وتَلعَنُهُ، وفِرْقَة مُتوسِّطةٌ في ذلك لا تَتَولاه ولا تَلْعَنه، وتَسْلكُ بِهِ سَبيلَ سائرِ مُلوكِ الإسْلامِ وخُلفائِهمْ غيرِ الراشدينَ في ذلك وشَبَهِهِ، وهذهِ الفِرْقةُ هي المُصيبَةُ، ومَذهبُها اللائِقُ بمَنْ يَعْرفُ سِيَرَ الماضينَ، ويَعلَم قَواعدَ الشّريعَةِ الطاهِرَةِ، جَعَلنا اللهُ مِنْ خِيارِ أهلِها آمين»([7]).

  وقالَ الذَّهبيُّ رحمه الله: «وابْنُ مُلْجِمٍ عِند الرّوافِضِ أشْقىٰ الخَلْقِ في الآخِرة، وهو عِندَنا أهلَ السُّنَّةِ مِمَّنْ نرجو له النَّارَ، ونُجوِّزُ أنَّ الله يَتَجاوَزُ عنه، لا كما يقولُ الخوارِجُ والرَّوافِضُ فيه، وحكْمُهُ حُكمُ قاتِلِ عثمانَ، وقاتِلِ الزُّبَيرِ، وقاتلِ طلحةَ، وقاتلِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، وقاتِلِ عمَّار، وقاتِلِ خارِجَة، وقاتِلِ الحُسَينِ، فكلُّ هؤلاءِ نَبْرأُ منهم ونُبْغِضُهم في الله، ونَكِلُ أمورَهَمْ إلىٰ الله »([8]).

  وقال ابنُ تَيمِيةَ رحمه الله: «ثُمَّ افْتَرقوا ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَة لَعَنَتْهُ، وفِرْقَة أحبّتهُ، وفِرْقَة لا تَسُبُّهُ ولا تُحِبُّهُ، وهذا هو المَنصوصُ عنِ الإمامِ أحْمَدَ، وعَلَيْهِ المُقْتصدونَ مِنْ أصحابِهِ وغيرِهِمْ مِنْ جميعِ المُسْلِمينَ... وهذا أعدَلُ الأقوالِ فيهِ وفي أمثالِهِ وأحْسَنِها.

  أمّا تركُ سَبِّهِ ولَعْنَتِهِ؛ فبِناءً علىٰ أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ الذي يَقْتَضي لَعْنَهُ، أو بناءً علىٰ أنَّ الفاسِقَ المُعَيّن لا يُلْعَنُ بخصوصِهِ، إمّا تَحْريماً وإما تَنزيهاً، فَقَدْ ثَبَتَ في «صحيح البخاري» عَن عُمرَ في قِصَّةِ عبد الله ولقبه «حمار» الذي تكرَّرَ منهُ شربُ الخَمْرِ وجَلْدِهِ لمَّا لَعنهُ بَعضُ الصَّحابَةِ، قال النبي: «لا  تَلْعَنْهُ، فإنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»([9])، وقال: «لَعْنُ المُؤمنِ كَقَتْلِهِ» متفقٌ عَلَيهِ([10]). مع أنَّهُ قدْ ثبتَ عن النَّبيِّ ﷺ أنَّهُ لَعَنَ الخَمْرَ وشارِبَها([11])... وهذا كما أنَّ نُصوصَ الوَعيدِ عامَّةٌ في أكْلِ أموالِ اليتامىٰ والزَّاني والسَّارقِ، فلا نَشْهَدُ بها عامَّةً علىٰ مُعيَّنٍ بأنَّه مِنْ أصْحابِ النَّارِ؛ لِجَوازِ تَخَلُّفِ المُقْتَضِي عَنْ المُقْتَضَىٰ لِمُعارضٍ راجِحٍ: إما تَوبَةٌ، وإما حَسناتٌ ماحِيةٌ، وإما مَصائبُ مُكَفِّرةٌ، وإما شفاعةٌ مقبولةٌ، وإما غيرُ ذلكَ.

  وأمَّا تركُ المَحَبَّةِ؛ فلأنَّ المحَبةَ الخاصَّةَ إنَّما تكونُ للنَّبيينَ والصِّديقينَ والشُهداءِ والصالِحينَ، ولَيْسَ واحِداً مِنهمْ.

  ولِتركِ المَحَبَّةِ مأخذانِ، أحدَهُما: أنَّه لمْ يَصْدُرْ عنه مِنَ الأعمالِ الصَّالِحَةِ ما يوجبُ محبتَّه، فَبِقيَ واحِداً مِنَ المُلوكِ المُسلّطينَ، ومُحَبةُ أشخاصِ هذا النوعِ ليستْ مَشروعةً.. والثاني: أنَّه صدرَ عَنْهُ ما يَقْتَضِي ظُلْمه وفِسْقَه في سيرتِه»([12]).

  وقال رحمه الله: «فإنَّ يزيدَ بنَ معاويةَ وُلدَ في خلافةِ عثمانَ بنِ عفان ولَم يُدرِكِ النَّبي، ولا كان مِن الصَّحابةِ باتِّفاقِ العلَماءِ، ولا كان مِن المَشهورينَ بِالدينِ والصَّلاحِ، وكانَ مِن شُبّانِ المُسلِمينَ، ولا كانَ كافِراً ولا زِنديقاً؛ وتَولَّىٰ بعد أَبيهِ علىٰ كَراهَةٍ مِن بَعضِ المُسلِمينَ ورِضاً مِن بَعضِهِم، وكان فيه شَجاعةٌ وكَرمٌ، ولَم يكُن مُظهِراً للفواحشِ كما يحكي عنهُ خُصومُهُ، وجَرت في إمارَتِهِ أمورٌ عظيمَةٌ:

  أَحَدُها: مقتَلُ الحُسَينِ، وهو لَم يأمُر بقَتلِ الحُسَينِ، ولا أظهَرَ الفرحَ بقَتلهِ؛ ولا نكت بالقَضيبِ على ثناياه، ولا حمَلَ رأسَ الحسَينِ إلَىٰ الشّام، لكن أمرَ بمَنعِ الحُسَينِ وبدَفعِه عن الأمرِ، ولو كان بقتالهِ، فزادَ النّوابُ علىٰ أمرهِ؛ وحَضَّ الشَّمْر بنَ ذي الجَوشَن علىٰ قتلهِ لعُبَيدِ الله بنِ زيادٍ، فاعتَدَىٰ عليهِ عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ، فطلب مِنهُم الحُسَينُ أَن يَجيء إلىٰ يَزيدَ، أَو يذهب إلىٰ الثَّغرِ مُرابِطاً، أَو يعودَ إلىٰ مكَّةَ، فمنَعوهُ إلا أن يستأسِرَ لَهُم، وأمرَ عُمَر بنَ سَعدٍ بقتالهِ، فقتلوهُ مظلوماً وقُتِلَ مَعهُ طائفَةٌ مِن أَهلِ بَيتِهِ. وكانَ قَتلُهُ من المَصائب العظيمَةِ فإنَّ قَتلَ الحُسَينِ، وقَتلَ عُثمانَ قَبلَهُ كانا من أَعظَمِ أَسباب الفِتَنِ في هذه الأمةِ، وقتلَتُهُما مِن شِرارِ الخلقِ عند الله.

  ولَمّا قَدِمَ أَهلُهُم علىٰ يزيدَ بنِ مُعاويةَ أَكرَمَهُم وسَيَّرَهُم إلَىٰ المَدينةِ، وروي عنه أَنَّه لَعن ابنَ زيادٍ علىٰ قَتلِهِ، وقال: كُنت أَرضَىٰ مِن طاعَةِ أَهلِ العِراقِ بِدونِ قَتلِ الحُسَينِ، لكِنَّهُ مع هذا لم يَظهَر مِنهُ إنكارُ قَتلِهِ، والانتِصارُ لَهُ والأَخذُ بِثأره؛ كان هو الواجِبَ عليهِ، فَصارَ أَهلُ الحَقِّ يَلومونَهُ علىٰ تَركِهِ لِلواجِبِ مُضافاً إلىٰ أمورٍ أخرَىٰ.

  ولهذا كان الذي علَيهِ معتَقَدُ أَهلِ السُّنَّةِ وأئمَّةِ الأمَّةِ أنهُ لا يُسَبُّ ولا  يُحَبُّ، قال صالِحُ بنُ أَحمَدَ بنِ حَنبَلٍ: قُلت لأبي: إنَّ قَوماً يَقولونَ: إنهُم يحِبّونَ يَزيدَ. قال: يا بُنَيَّ وهَل يُحِبُّ يَزيدَ أَحَدٌ يُؤمِنُ بِالله واليومِ الآخِرِ؟ فَقُلت: يا أَبَتِ فَلِماذا لا تلعنه؟ قال: يا بُنَيَّ ومَتَىٰ رأيت أَباك يَلعن أَحَداً؟ وقيلَ لَهُ: أَتَكتُبُ الحَديثَ عن يَزيدَ بنِ مُعاويةَ؟ فَقال: لا، ولا كَرامَةَ، أَولَيسَ هو الذي فعَلَ بِأَهلِ المَدينَةِ ما فَعَل؟ فَيَزيدُ عندَ عُلَماءِ أَئِمَّةِ المُسلِمينَ مَلِكٌ مِن المُلوكِ، لا يُحِبّونَهُ مَحَبَّةَ الصّالِحينَ وأولياءِ الله؛ ولا يَسُبّونَهُ، فإنَّهُم لا يُحِبّونَ لَعنةَ المُسلِمِ المُعينِ»([13]).

  فَخًلَاصةُ القَولِ: أَنَّ أَمْرَه إِلَىٰ  اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ، وَهُو كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ  رحمه الله: «لَا نَسُبُّه وَلَا نُحِبُّه»([14]).

 

([1])    وذلك لما خرج أهلُ المدينةِ علىٰ يَزيدَ فاستباحَ المدينةَ ثلاثةَ أيامٍ.

([2])   أخرجه البخاري (١٣٩٣).

([3])   أخرجه البُخَارِيّ (٤٨)، ومسلم (٦٤).

([4])   أخرجه البخاري (٢٩٢٤).

([5])   «البداية والنهاية» (٨/٢٢٥).

([6])   «إحياء علوم الدين» (٤/٢٠٦).

([7])   فتاوى ابن الصلاح (١/٢١٥).

([8])   «تاريخ الإسلام» (٣/٦٥٤).

([9])   أخرجه البخاري (٦٧٨٠).

([10]) أخرجه البخاري (٦١٠٥)، ومسلم (١١٠)، من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.

([11]) أخرجه أحمد (٢٨٩٧)، وأبو داود (٣٦٧٤)، والترمذي (١٢٩٥)، وابن ماجه (٣٣٨٠).

([12]) «مجموع الفتاوى» (٤/٤٨٣ ــــ ٤٨٥).

([13]) «مجموع الفتاوى» (٣/٤١٠ ــــ ٤١٢).

([14]) «سير أعلام النبلاء» (٤/٣٦).