ثالثاً: مَعْرَكةُ صِفّينَ([1]) (سنة ٣٧ هـ):

  كَانَ مُعَاويةُ  رضي الله عنه قَدِ امْتَنَعَ عَنِ المُبَايعةِ لِعَلِيٍّ حَتَّىٰ يَتِمَّ القِصَاصُ لِعُثمانَ، فَلَمَّا انْتَهَىٰ عَليٌّ من أَهْلِ الجَمَل قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يُبَايعَ مُعَاويةُ الآنَ، وجَهَّزَ الجيشَ لِمُقَاتلةِ مُعَاويةَ أَو يُبَايعُ، فَخَرَجَ عَليٌّ بجَيشٍ قَوَامُه مِئةُ ألفٍ إِلَىٰ صِفِّين في الشَّامِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُعَاويةُ بخُرُوجِ عليٍّ إِلَىٰ قِتَالِه صَعَدَ المِنْبرَ وَقَالَ: إِنَّ عَلِيّاً نَهدَ إِلَيكُم في أَهْلِ العِرَاقِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ فَضَرَبَ النَّاسُ بِأَذْقَانِهِم عَلىٰ صُدُورِهِم([2])، فَقَامَ ذُو الكلاعِ الحِمْيَريُّ. فَقَالَ: عَلَيكَ الرَّأْيُ وعَلَينا الفِعَالُ، والنَّاسُ سُكُوتٌ. أَمَّا عليٌّ فَقَدْ صَعَدَ المِنْبَرَ فِي الكُوفَةِ، فَقَالَ بعدَ أَنْ حَمِدَ  اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلِيه: إِنَّ مُعَاويةَ قَد نَهدَ إليكم في أَهْلِ الشَّامِ فَمَا الرَّأْيُ؟ فَأَضَبَّ أَهْلُ المسْجدِ([3])، يَقُولُونَ: يَا أَميرَ المُؤمنينَ الرَّأْيُ كَذَا... الرَّأْيُ كَذَا. فَلَم يَفْهَمْ عليٌّ كَلَامَهُم من كَثْرةِ مَن تَكَلَّمَ، وكَثُرَ اللَّغَطُ، فَنَزَلَ، وهو يَقُولُ: إنَّا للهِ وإنَّا إِلَيه رَاجِعُونَ([4]).

  فَذَاكَ حَالُ أَهْلِ الشَّامِ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ طَاعَةٍ وأَهْلَ جَلَدٍ، وأهلُ العراقِ كَانُوا أَهْلَ فَوْضَىٰ كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمُ الذين بعدَ ذَلِكَ قَاتَلُوا عَلِيّاً وَقَتَلُوه  رضي الله عنه.

  وَصَلَ عليٌّ  رضي الله عنه إِلَىٰ صِفِّينَ سنةَ سَبعٍ وثَلاثِينَ مِنَ الهِجْرةِ وذَلِكَ فِي صَفَرَ.

  وَكَانَ قِتَالُ عليٍّ  رضي الله عنه في صِفّينَ والجَمَلِ عن رَأْيٍ رَآه واجتهادٍ تَبَنَّاه.

  فَقَد أَخْرَجَ أَبُو دَاودَ في سُنَنِه عن قيسِ بنِ عبَّادِ قَالَ: قُلْتُ لعليٍّ  رضي الله عنه: أَخبِرْنا عن مَسِيرِكَ هذا، أَعَهدٌ عَهدَه إِليكَ رسولُ  الله أَم رَأيٌ رَأَيتَه؟

  قَالَ: ما عَهدِ إليَّ رسولُ  الله شيئاً، ولكِنَّه رَأيٌ رَأَيْتُه([5]).

 

([1])    صفين : قرب الرقة بجانب نهر الفرات. وهي حاليّاً في سوريا.

([2])   يعني: نزّلوا رُؤُوسهمْ لَـمْ يرفع إليه أحدٌ طَرْفَهُ.

([3])   يعني: ارتفعت أصواتُهم.

([4])   «تاريخ الإسلام» (ص٥٤٠) عهد الْخلفاء الراشدين.

([5])   أخرجه أبو داود (٤٦٦٦)، وصحح إسناده الألباني في «صحيح سنن أبي داود».