مفاوضاتٌ قُبَيْلَ القتالِ
20-03-2023
مفاوضاتٌ قُبَيْلَ القتالِ:
وأَرْسلَ عليٌّ المقدادَ بنَ الأَسودِ والقَعْقَاعَ بنَ عَمروٍ لِيَتَكَلَّمَا مع طَلحةَ والزُّبيرِ، واتَّفَقَ المِقْدادُ وَالقَعْقَاعُ من جِهةٍ، وطَلحةُ والزبيرُ من جِهةٍ أُخْرَىٰ عَلَىٰ عَدَمِ القِتَالِ، وبَيَّنَ كلُّ فريقٍ وجهةَ نظرِه. فطلحةُ والزُّبيرُ يَرَيَانِ أَنَّه لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتَلَةِ عُثمانَ، وَعَليٌّ يَرَىٰ أَنَّه لَيسَ مِنَ المَصْلَحَةِ تَتَبُّعُ قَتَلَةِ عُثمانَ الآنَ، بل حَتَّىٰ تَسْتَتِبَّ الأُمُورُ، فَقَتْلُ قَتَلَةِ عُثمانَ مُتَّفَقٌ عَلِيه، والاخْتِلَافُ إِنَّمَا هو في الوقت.
عَنْ عليٍّ رضي الله عنه أنه لما نزل بِذي قارٍ دَعا القَعقاعَ بنَ عَمرٍو وأرسَلَهُ إلىٰ أهلِ البَصرَةِ، وقال لَهُ : الْقَ هَذَينِ الرَّجُلَينِ ـــــ طَلحَةَ والزُّبَيرَ ــــ يا ابنَ الحنظَليَّةِ فادعُهُما إلىٰ الأُلفَةِ والجَماعَةِ، وعَظِّمَ الفُرقَةَ.. فَخَرَجَ القَعقاعُ حَتىٰ قَدِمَ البَصرَةَ فَبَدأ بِعائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيها، وقال: أي أُمَّه ما أشخَصَكِ وما أقدَمَكِ هَذِهِ البَلدَةَ؟
قالت: أي بُنَيَّ إصلاحٌ بَينَ النّاسِ، قال : فابعَثي إلىٰ طَلحَةَ والزُّبَيرِ حتىٰ تَسمَعي كلامي وكلامَهُما، فَبَعَثَت إليهِما فَجاءا فقال : إنّي سألتُ أُمَّ المُؤمِنينَ ما أشخَصَها وأقدَمَها هَذِه البِلادَ؟ فقالت : إصلاحٌ بَينَ النّاسِ، فَما تَقولانِ أنتُما؟ أمُتابِعانِ أم مُخالِفانِ؟ قالا: مُتابِعانِ، قال : فأخبِراني ما وجهُ هذا الإصلاحِ؟ فَوالله لَئِن عَرَفناهُ لَنُصلِحَنَّ، ولإن أنكَرناهُ لا نُصلِحُ. قالا : قَتَلَةُ عُثمانَ رضي الله عنه، فإنَّ هذا إن تُرِكَ كان تَركاً للقُرآنِ. فلمّا رَجَعَ القَعقاعُ بنُ عَمرٍو إلىٰ عَلي رضي الله عنه أخبَرَهُ أنَّ أصحابَ الجَمَلِ استَجابوا إلىٰ ما بَعَثَهُ بِهِ إلَيهِم ــــ فأذعن عَلي لِذَلِكَ وبَعَثَ إلىٰ طَلحَةَ والزُّبَيرِ يَقولُ : «إن كُنتُم عَلَىٰ ما فارَقتُم عَلَيهِ القَعقاعَ ابنَ عَمرٍو فَكُفّوا حتَّىٰ نَنزِلَ فَنَنظُرَ في هذا الأمرِ، فأرسَلا إلَيهِ : إنّا علىٰ ما فارَقنا عَلَيهِ القَعقاعَ بنَ عَمرٍو مِن الصُّلحِ بَينَ النّاسِ([1]).
ولمّا رَجَعَ القَعقاعُ بنُ عَمرٍو مِن عندِ أُمِّ المُؤمِنينَ وطَلحَةَ والزُّبَيرِ بِمِثلِ رأيِهِم؛ جَمَعَ عَلي النّاسَ ثمَّ قام خَطيباً فيهِم فَحَمِدَ الله عز وجل وأثنَىٰ عَلَيهِ وصَلَّىٰ عَلَىٰ النَبي ﷺ وذَكَرَ الجاهِليةَ وشَقاءها، والإسلامَ والسَّعادَةَ وإنعامَ الله علىٰ الأمَّةِ بالجَماعَةِ بالخَليفَةِ بَعدَ رَسولِ الله ﷺ، ثمَّ الَّذي يَليهِ، ثمَّ حَدَثَ هذا الحَدَثُ الَّذي جَرَّهُ علىٰ هَذِهِ الأمَّةِ أقوامٌ طَلَبوا هذه الدُّنيا، حَسَدوا مَن أفاءها الله عَلَيهِ عَلَىٰ الفَضيلَةِ، وأرادوا رَدَّ الأشياءِ علىٰ أدبارِها، والله بالِغٌ أمرَهُ، ومُصيبٌ ما أرادَ؛ ألا وإنّي راحِلٌ غَداً فارتَحِلوا، ألا ولا يَرتَحِلَنَّ مَعي أحَدٌ أعانَ علىٰ قَتلِ عُثمانَ في شَيءٍ مِن أُمورِ النّاسِ([2]).
وبعدَ الاتفاقِ نَامَ الجَيشَانِ بِخَيرِ لَيلةٍ، وبَاتَ السَّبَئِيةُ ــــ وَهُم قَتَلَةُ عُثمانَ ــ بِشَرِّ لَيلَةٍ؛ لأنَّه تَمَّ الاتفاقُ عليهم، وَهَذا ما ذَكَرَه المُؤَرِّخُون الذين أَرَّخُوا لِهذِه المَعْركةِ أَمثَالَ: الطَّبريِّ([3])، وابنِ كثيرٍ([4])، وابنِ الأثيرِ([5])، وابنِ حَزْمٍ([6])، وغيرِهم.
عندَ ذلك أَجْمعَ السَّبَئيُّونَ رَأْيَهُم علىٰ أَنْ لا يَتِمَّ هذا الاتفاقُ، وفي السَّحَرِ والقَومُ نَائِمونَ، هَاجَمَ مَجْموعةٌ من السَّبَئيِّينَ جَيشَ طَلحةَ والزُّبيرِ وقَتَلُوا بعضَ أَفْرادِ الجَيشِ وفَرُّوا، فَظَنَّ جيشُ طلحةَ أنَّ جيشَ عَليٍّ غَدَرَ بهم، فَنَاوشُوا جيشَ عَلِيٍّ في الصَّباحِ، فَظَنَّ جيشُ عَلِيٍّ أَنَّ جيشَ طلحةَ والزُّبيرِ قَدْ غَدَرَ، فاسْتَمَرَّتِ المُنَاوشَاتُ بين الفَرِيقَينِ حتىٰ كانتِ الظَّهيرِةُ، فَاشْتَعلتِ المَعْرَكةُ.
([1]) «تاريخ الأمم والملوك» (٤/٤٤٨)، «البداية والنهاية» (٧/٢٥٩).
([2]) «تاريخ الأمم والملوك» (٤/٤٩٣)، «البداية والنهاية» (٧/٢٦٠).
([3]) «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٣/٥١٧).
([4]) «البداية والنهاية» (٧/ ٥٠٩).