معركةُ الجَمَلِ
20-03-2023
ثانياً: معركةُ الجَمَلِ (سنةَ ٣٦هـ):
لمَّا بُويعَ عليُّ بنُ أبي طَالبٍ رضي الله عنه، اسْتَأْذَنَ طلحةُ والزبيرُ عَلِيّاً رضي الله عنه في الذِّهابِ إلىٰ مَكَّةَ فَأَذنَ لهما، فَالتَقَيَا هناك بأمِّ المُؤْمنينَ عَائِشةَ ، وكَانَ الخَبَرُ قد وَصَلَ إليها أَنَّ عُثمانَ قد قُتِلَ رضي الله عنه، فَاجْتَمَعُوا هناك في مَكَّةَ وعَزَموا علىٰ الأَخذِ بِثَأْرِ عُثمانَ. فَجَاءَ يَعْلَىٰ بنُ مُنيةَ من البَصرةِ، وجَاءَ عبدُ اللهِ بنُ عَامِرٍ مِنَ الكُوفةِ، واجْتَمَعوا في مَكَّةَ علىٰ الأَخذِ بِثأرِ عُثمانَ رضي الله عنه. فَخَرَجُوا مِن مَكَّةَ بمَنْ تَابَعَهُم إلىٰ البَصْرةِ يُريدُونَ قَتَلَةَ عُثمانَ، وَذَلِكَ أَنَّهم يَرَونَ أَنَّهُم قد قَصَّرُوا في الدِّفَاعِ عن عُثْمانَ رضي الله عنه. وكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه في المَدينةِ، وكَانَ عُثمانُ بنُ حُنيفٍ رضي الله عنه وَالِياً علىٰ البصرةِ من قِبَلِ عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ. فَلَمَّا وَصَلُوا إلىٰ البَصْرةِ أَرْسَلَ إليهم عُثمانَ بنُ حُنَيف: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُريدُ قَتَلَةَ عُثمانَ. فَقال لهم: حتىٰ يَأْتيَ عَلِيٌّ، ومَنَعَهُم من الدُّخُولِ.
ثُمَّ خَرَجَ إليهم جَبَلَةُ، وهو أَحَدُ الذين شَارَكُوا في قَتْلِ عُثمانَ فَقَاتَلَهُم في سبعمئةِ رَجُلٍ فَانْتَصُروا عليه، وقَتَلُوا كَثِيراً مِمَّن كَانَ مَعَه، وانضمَّ كثيرٌ من أهلِ البصرةِ إلىٰ جيشِ طلحةَ والزُّبيرِ وعَائِشةَ رضي اللهُ تَبَاركَ وتَعَالَىٰ عنهم أجمعين، ثُمَّ حَصَلَ قِتالٌ بَيْنَهم وبَيْنَ عُثْمانَ بنِ حنَيف.
خَرَجَ عليٌّ رضي الله عنه مِنَ المَدينةِ إلىٰ الكُوفةِ وذلك لمّا سَمِعَ أنَّه وَقَعَ هناك قِتَالٌ بين عُثمانَ بنِ حُنَيف ــــ وهو والي عَلِيٍّ عَلَىٰ البصرةِ ــــ وبين طلحةَ والزبيرِ وعَائِشةَ ومَنْ مَعَهُم، فَخَرَجَ عليٌّ رضي الله عنه وجَهَّزَ جَيشاً قِوَامُه عشرة آلافِ لمقاتلةِ طلحةَ والزُّبير.
وهنا يَظهرُ لنا جَلِيّاً أنَّ عليَّ بنَ أبي طَالِبٍ هو الذي خَرَجَ إليهم ولم يَخْرُجُوا عليه، ولم يَقْصِدُوا قِتَالَه كما يَدَّعِي البعضُ، ولو كَانُوا يُرِيدُونَ الخُرُوجَ علىٰ عَلِيٍّ لَذَهَبُوا إلىٰ المَدِينةِ مباشرةً وليس إلىٰ البصرةِ.
فطلحةُ، والزبيرُ، وعائشةُ ومَن كان معهم لم يَحْدُث قط أنَّهم أَبْطَلُوا خِلَافةَ عَليٍّ، وَلا طَعَنُوا عليه، وَلَا ذَكَرُوا فيه جرْحاً، وَلَا بَايَعُوا غَيرَهُ، وَلَا خَرَجُوا لِقِتَالِه إلىٰ البصرةِ، فإِنَّه لم يكنْ بالبصرةِ يَومَئذٍ.
وَلِذلكَ قَالَ الأَحْنفُ بنُ قيسٍ: لَقيْتُ طلحةَ والزبيرَ بعدَ حَصرِ عُثمانَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرَاني فإِنّي أراه مَقْتُولاً؟ قَالَا: عَليك بعَلِيٍّ. قَالَ: وَلِقيْتُ عائشةَ بعدَ قَتْلِ عُثمانَ في مكّةَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرِيني؟ قَالَتْ: عَلَيك بِعَليٍّ([1]).
قال ابنُ حَزمٍ: «وأمّا أُمُّ المُؤمِنينَ والزُّبَيرُ وطَلحَةُ رضي الله عنهم، ومَن مَعَهُم فَما أبطَلوا قَطُّ إمامَةَ عَلي، ولا طَعنوا فيها، ولا ذَكَروا فيهِ جَرحَةً تَحُطُّهُ عن الإمامَةِ، ولا أحدَثوا إمامَةً أُخرَىٰ، ولا حَدَّدوا بَيعَةً لِغَيرِهِ هذا ما لا يَقدِرُ أن يَدَّعيهِ أحَدٌ بِوجهٍ مِنَ الوُجوهِ، بَل يَقطَعُ كُلُّ ذي عِلمٍ علىٰ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَم يَكُن، إذ لا شَكَّ في كُلِّ هذا فَقَد صَحَّ صِحَّةً ضَروريةً لا إشكالَ فيها أنَّهُم لَم يَمضوا إلىٰ البَصرَةِ لِحَربِ عَلي، ولا خِلافاً عَلَيهِ، ولا نَقضاً لِبَيعَتِهِ، ولَو أرادوا ذَلِكَ لأحدَثوا بَيعَةً غَيرَ بَيعَتِهِ، هذا ممّا لا يَشُكُّ فيهِ أحَدٌ، ولا يُنكِرُه أحَدٌ، فَصَحَّ أنَّهُم إنَّما نَهَضوا إلىٰ البَصرَةِ لِسَدِّ الفَتقِ الحادِثِ في الإسلامِ مِن قَتلِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ رضي الله عنه ظُلماً، وبُرهانُ ذَلِكَ أنَّهُم اجتَمَعوا ولَم يَقتَتِلوا ولا تَحارَبواــ!، فَلَمّا كان اللَّيلُ عَرَفَ قَتَلَةُ عُثمانَ أنَّ الإراغَةَ (أي : الطَّلَبَ)، والتَّدبيرَ عَلَيهِم فَبَيَّتوا عَسكَرَ طَلحَةَ والزُّبَيرِ، وبَذَلوا السَّيفَ فيهِم فَدَفَعَ القَومُ عن أنفُسِهِمُ في دَعوىٰ حَتَّىٰ خالَطوا عَسكَرَ عَلي فَدَفَعَ أهلُهُ عن أنفُسِهِم، وكُلُّ طائِفَةٍ تَظُنُّ ولا شَكَّ أنَّ الأخرَىٰ بُدِئَ بِها بالقِتالِ، واختَلَطَ الأمرُ اختِلاطاً لَم يَقدِر أحَدٌ عَلىٰ أكثَرِ مِنَ الدِّفاعِ عن نَفسِهِ، والفَسَقَةُ مِن قَتَلَةِ عُثمانَ لا يَفتَرونَ مِن شَنِّ الحَربِ وإضرامِهِ، فَكِلتا الطّائِفَتَينِ مُصيبَةٌ في غَرَضِها ومَقصَدِها مُدافِعَةٌ عن نَفسِها»([2]).
([1]) «فتح الباري» (١٣/٣٨) وقال: «أخرجه الطبري بإسناد صحيح».