المبحث السادس

مَقْتلُ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ  رضي الله عنه

  بعد أن أُثيرَتْ هذه الأمورُ علىٰ عُثْمانَ خَرَج أُناسٌ من أَهْلِ البَصْرَةِ وأُنَاسٌ من أهلِ الكُوفةِ، وأُناسٌ من أهلِ مِصرَ إلىٰ المدينةِ في السَّنَةِ الخَامسةِ والثَّلاثين من هِجْرةِ النَّبيِّ يُظْهِرْون أَنَّهُم يُرِيدُون الحَجَّ، وَقَد أَبْطَنُوا الخُروجَ علىٰ عُثمانَ  رضي الله عنه، واخْتُلِفَ في أَعْدَادِهم، فقيل: إِنَّهُم أَلْفَانِ من أهْلِ مِصْرَ، وأَلْفَانِ من أَهْلِ الكُوفةِ، وأَلْفَانِ من أهلِ البصْرَةِ، وقيل: إنَّ الكلَّ أَلْفَانِ، وقيل غير ذلك، وليسَتْ هناك إِحْصَائِيَّةً دَقِيقَة، ولكِنَّهُم لا يَقِلُّون عن أَلْفينِ ولَا يَزِيدُونَ عن سِتَّةِ آلَافٍ بأيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ. دَخَلُوا مدينةَ رَسُولِ  اللهِ، وكَانَ أُولئكَ القَومُ من فُرْسانِ قَبَائِلِهم جَاؤُوا لِعَزلِ عُثمانَ إمَّا بالتَّهديدِ وإمَّا بالقُوَّةِ، وحَاصَرُوا بيتَ عُثمانَ  رضي الله عنه في أَوَاخِرِ ذِي القِعْدَةِ، وَأَمَرُوه أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَه مِنَ الخِلافةِ، واسْتَمَرَّ الحِصَارُ إلىٰ الثَّامنَ عشرَ من ذِي الحِجَّةِ، وهو يومُ مَقْتلِ عُثمانَ  رضي الله عنه.

  وقيل: إِنَّ الحِصَارَ اسْتَمَرَّ أربعين يوماً، وقيل غير ذلك، ولكِنَّه لَا يَزِيدُ عن الواحدِ والأَربعين يوماً.

  لَمَّا حُوصِرَ عُثمانُ  رضي الله عنه في بَيتِه ومُنِعَ مِنَ الصَّلاةِ بل ومِنَ المَاءِ، فكان يُصلِّي بالناسِ رجلٌ من أئمةِ الفتنةِ حتىٰ إنّ عُبيدَ  الله بنَ عديِّ بنِ الخيارِ دخل علىٰ عثمانَ فقال: يُصلي بالناس إمَامُ فتنةٍ فما تأمرُنا؟ قال: «الصلاةُ أحسنُ ما يعملُ الناسُ، فإذا أحسنَ الناسُ فأحسنْ معهم، وإذا أساؤُوا فاجتنبْ إساءتَهم!»([1]).

  وقد دَخَلَ بعضُ أصحابِ رسولِ  اللهِ، بيتَ عثمانَ كلُّهم يريدُ الدِّفاعَ عنه وكَانَ من أَشْهرِ الذين جَلَسُوا عندَه في بَيتِه الحَسَنُ بنُ عليٍّ، الحُسينُ بنُ عَلِيِّ، عَبدُ  اللهِ بنُ الزُّبيرِ، أبو هُرَيرةَ، مُحَمَّدُ بنُ طَلْحةَ بنِ عبيدِ  اللهِ (السَّجَّادُ)، وعبدُ  اللهِ بنُ عُمَرَ، وقد شَهَرُوا سُيُوفَهُم في وَجْهِ أولئك البغاةِ الذين أَرَادُوا قَتْلَ عُثمانَ  رضي الله عنه([2]).

  وجَاءَت أُمُّ المُؤْمِنينَ صفيةُ علىٰ بَغْلةٍ يَقُودُهَا مَولَاهَا كِنَانةُ فَلَقِيها الأَشْترُ فَضَرَبَ وَجْهَ بَغْلَتِها. فَقَالَت: رُدُّوني، لَا يَفْضَحْني هذا الكلبُ([3]). ولكنَّ عُثمانَ أَمَرَ الصَّحابةَ بعدمِ القِتَالِ، بل إنَّه جَاءَ في بعضِ الرِّوَاياتِ أنَّ الذين جَاؤُوا للدِّفَاعِ عن عُثمانَ أكثر من سَبْعُمئةٍ من أَبْناءِ الصَّحابةِ، ولكن حتىٰ هؤلاء السَّبعمئة لا يَصِلُون إلىٰ عَدَدِ أولئك البُغَاةِ علىٰ القَولِ بأنه كان يُقدّرُ عددُهم بالألفيْنِ علىٰ الأقلِّ.

  عن عبدِ  الله بنِ عَامرِ بنِ ربيعةَ قال: كنتُ مع عُثمانَ في الدّارِ، فَقَالَ: أَعْزِمُ علىٰ كلِّ مَنْ رَأَىٰ أَنّ عليه سَمْعاً وطاعةً إلا كَفَّ يَدَه وسِلَاحَه([4]).

  وعَنِ ابنِ سِيرينَ قَالَ: جَاءَ زيدُ بنُ ثَابتٍ إلىٰ عُثمانَ  رضي الله عنه فَقَالَ: هذه الأَنْصَارُ بالبابِ قَالُوا: إنْ شِئْتَ أَن نَكُونَ أنصارَ  اللهِ مرتين كما كُنَّا مع النَّبيِّ نَكُونُ معك.

  فَقَالَ عُثمانُ: أمَّا قِتَالٌ فَلَا([5]).

  ودَخَلَ ابنُ عُمَرَ علىٰ عُثمانَ، فَقَالَ عُثمانُ: يا ابنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا يَقُولُ هؤلاءِ يَقُولُونَ: اخْلَعْهَا، وَلَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ. فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: إِذَا خَلَعْتَها أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ في الدُّنْيَا؟ فَقَالَ عُثمانُ: لا. قَالَ عبدُ  اللهِ بنُ عُمَرَ: فَلَا أَرَىٰ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصاً قَمَّصَكَه  اللهُ فَتكُون سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَومٌ خَلِيفَتَهم، أو إمَامَهم خَلَعُوه([6]).

  وقَالَ عُثمانُ لِعَبِيدِهِ: كلُّ مَنْ وَضَعَ سِلَاحَه فَهو حُرٌّ لِوَجْهِ  اللهِ. فهو الذي مَنَعَ النَّاسَ مِنَ القِتَالِ. ومع هذا فقد حُمِلَ أربعةٌ مِنْ شُبَّانِ قُريشٍ مُلطَّخينَ بالدماءِ، كانوا يدافعون عن عثمانَ وهم: الحسنُ بنُ عليٍّ، وعبدُ  اللهِ بنُ الزبيرِ، ومَرْوانُ بنُ الحَكَمِ، ومحمدُ بنُ حاطبٍ([7]).

  عن أبي سَعيدٍ مَولىٰ أَبي أُسيدٍ الأنْصاريِ قال: سَمعَ عثمانُ أنّ وفدَ أَهلِ مِصرَ قَدْ أقْبلوا، فاسْتَقْبلهمْ، فلما سَمعوا به أقْبلوا نحوَهُ إلىٰ المكان الذي هو فيه، فقالوا لَهُ: ادعُ المُصحفَ، فدَعا بالمصْحفِ، فقالوا له: افتحِ السَّابعَةَ. قال: وكانوا يُسمّونَ سورةَ يونس السّابعةَ، فقَرأَها حتىٰ أتىٰ علىٰ هذهِ الآيةِ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩﴾ ، قالوا له: قِفْ، أرأيتَ ما حميتَ من الحمىٰ، الله أذنَ لكَ بهِ أمْ علىٰ الله تَفتَري؟ فقال: أمْضِهِ، نَزَلتْ في كذا وكذا.

  وأما الحِمىٰ لإبلِ الصَّدَقةِ فلمَّا وَلدتْ، زادَتْ إبلُ الصَّدقةِ، فزِدْتُ في الحِمىٰ لما زادَ في إبِلِ الصَّدقةِ، أمْضِه. قالوا: فجعلوا يأخذونه بآيةٍ آية، فيقول: أمْضِه نَزَلتْ في كذا وكذا. فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: ميثاقَكَ. قال: فكَتبوا عليهِ شرْطاً، فأخَذَ عليهم أن لا يَشُقّوا عصاً، ولا يُفارقوا جماعةً ما قام لهم بِشَرْطهم، وقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريدُ أن لا يأخذَ أهلُ المدينةِ عطاءً. قال: لا، إنّما هذا المالُ لمنْ قاتلَ عليهِ، ولهؤلاء الشّيوخِ منْ أصحابِ محمّد ﷺ. قال: فَرَضوا وأقْبَلوا معه إلىٰ المدينة راضين.

  قال: فقامَ فَخَطبَ، فقال: ألا مَنْ كانَ له زرعٌ فلْيلْحَقْ بزَرعِه، ومَنْ كانَ له ضَرْعٌ فلْيَحتَلبْه، ألا إنّه لا مالَ لكم عندنا، إنما هذا المالُ لمنْ قاتلَ عليه، ولهؤلاء الشيوخِ مِنْ أصحابِ محمد ﷺ. قال: فغضبَ الناسُ. وقالوا: هذا مَكْرُ بني أميَّةَ. قال: ثم رجعَ المصْريونَ، فبيْنما هم في الطريقِ إذا هم براكبٍ يتعرض لهم ثم يفارقُهُمْ ثمَّ يرجعُ إليهم ثم يفارقهُم ويَسُبُّهمْ، قالوا: مالك؟! إن لك الأمانَ، ما شأنُك؟

  قال: أنا رسولُ أميرِ المؤْمنينَ إلىٰ عامِلِهِ بمِصرَ، قال: فَفتّشوهُ، فإذا هُمْ بالكتابِ علىٰ لسانِ عثمانَ عليهِ خاتَمُه إلىٰ عامِلِهِ بِمِصْرَ أن يُصَلّبَهمْ أو يقتلهُمْ، أو يُقطّعَ أيديَهم وأرجلَهمْ، فأقْبَلوا حتىٰ قَدِموا المدينةَ، فأتوا علياً، فقالوا: ألَمْ ترَ إلىٰ عدوِ الله! كتبَ فينا بكذا وكذا، وإنَّ الله قَدْ أحلَّ دمَهُ، قُمْ معنا إليهِ. قال: والله لا أقومُ مَعَكُمْ. قالوا: فَلِمَ كتبتَ إلينا؟ قال: والله ما كَتَبْتُ إليكمْ كتاباً قَط، فنَظَرَ بعضُهم إلىٰ بَعْضٍ، ثم قال بَعضُهم لبَعضٍ: ألهذا تقاتِلونَ أو لهذا تَغْضَبون. فانطلق عليٌ فخرجَ من المدينةِ إلىٰ قريةٍ، وانطلقوا حتىٰ دخلوا علىٰ عثمانَ، فقالوا: كتبتَ بكذا وكذا؟

  فقال: إنَّما هما اثنتانِ: أنْ تُقيموا عليَّ رَجُلينِ مِنَ المسْلمينَ، أو يَميني بالله الذي لا إلهَ إلا الله ما كَتبتُ ولا أمليتُ ولا عَلمتُ، وقد تَعلمونَ أن الكتابَ يُكتبُ علىٰ لسانِ الرَّجلِ وقد يُنْقَشُ الخاتَمُ علىٰ الخاتمِ. فقالوا: والله أحَلَّ الله دمكَ، ونقضوا العَهدَ والميثاقَ فحاصَروه، فأشْرَفَ عليهم ذاتَ يومٍ فقال: السّلامُ عليْكُم. فما أسْمَعُ أحداً مِنَ الناسِ رَدَّ عليهِ السلامَ، إلا أنْ يَردَّ رجلٌ في نَفْسِه، فقال: أنْشدُكم الله، هلْ علمتُم أنّي اشْتَريتُ رومَة([8]) مِنْ مالي، فجعلتُ رشائي([9]) فيها كرِشاءِ رَجلٍ من المسْلِمين؟ قيل: نعم. قال: فعَلامَ تَمْنعوني أنْ أشربَ منها حتىٰ أفْطِرَ علىٰ ماء البَحر؟! أنْشُدكم الله هل علمتمْ أني اشْتريتُ كذا وكذا مِن الأرضِ فَزِدْتُه في المَسْجِدِ؟ قيل: نعم. قال: فَهلْ علِمْتُم أن أحداً من النّاس مُنعَ أن يُصلي فيه قِبَلي؟ أنشدكم الله، هلْ سَمعتُمْ نبيَ الله يَذْكر كذا وكذا؟ أشياء في شأنِهِ عدَّدَها.

قال: ورَأيتُه أَشْرَفَ عليهم مرّةً أخرىٰ، فوَعظَهمْ وذكَّرهُمْ، فلمْ تَأخُذْ منهم الموعِظَةُ، وكان الناسُ تأخُذُ منهم الموعِظةُ في أول ما يَسمعونَها، فإذا أُعيدَتْ عليهم لم تَأخذْ مُنهم، فقال لامْرأتِهِ: افْتحي البابَ، ووضَعَ المُصْحفَ بَيْنَ يدَيْهِ، وذلك أنه رَأىٰ مِنَ الليلِ أنَّ نَبيَّ الله ِ ﷺ يقول له: أَفْطِرْ عندنا اللَّيلةَ، فَدخلَ عليهِ رَجلٌ فقال: بَيْني وبينَكَ كتابُ الله، فَخَرَجَ وتَرَكهُ، ثمَّ دخلَ عليهِ آخرُ فقال: بيني وبينَكَ كتابُ الله، والمصْحفُ بينَ يديْه، قال: فأهوىٰ له بالسَّيف، فاتَّقاهُ بيدِهِ فَقَطَعَها، فلا أدري أقَطعَها ولم يُبِنْها، أمْ أبانها؟ قال عثمان: أما والله إنها لأول كَفٍ خطتِ المُفَصَّل ــــ وفي غير حديثِ أبي سَعيدٍ: فَدخَلَ عليه التَّجيبيُّ فَضربَهُ مُشقِصاً، فَنضَحَ الدَّمُ علىٰ هذهِ الآيةِ ﴿.. فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ١٣٧﴾ ، قال: وإنَّها في المُصْحَفِ ما حُكَّتْ([10]).

  وهذا يدلُّ علىٰ أنَّ مُشْعلي الفِتْنَةِ لا يريدونَ الاتفاقَ، وقصةُ الرسولِ هذه إما دعوىٰ كاذِبةٌ منهم، وإما مِنْ طرفٍ ثالثٍ لا يُريدُ الاتِّفاق، وكانَ يَخْرُجُ للصَّلاةِ أولَّ ثلاثينَ يَوْماً ثُمَّ مُنِعَ منها.

 

([1])    أخرجه البخاري (٦٩٥).

([2])   «البداية والنهاية» (٧/١٨٤).

([3])   أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (٨/١٢٨٠)، وإسناده حسن.

([4])   أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٩٥٠٨) بِسَنَدٍ صَحيحٍ.

([5])   أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٩٥٠٩) بِسَنَدٍ صَحيحٍ.

([6])   أخرجه أحـمد في «فضائل الصَّحَابَة» (٧٦٧) بإِسْنَادٍ صحيح.

([7])   «الاستيعاب» لابن عبد البر بحاشية «الإصابة» (٣/٧٨).

([8])   بئر رومة: اشتراها عثمان من يهودي زمن النبي? وجعلها وقفاً للمسلمين.

([9])   الرشاء: هي الدلو.

([10]) أخرجه ابن حبان (١٥/٣٦١)، ورجاله ثقات، غير أبي سعيد مولى'٣f أبي أسيد، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (٤/٢٨٣ ـ ٢٨٤)، وقال: «رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض».