المأخذُ الثاني: نَفْيُ أبي ذَرٍّ إلىٰ الرَّبذةِ
20-03-2023
المأخذُ الثاني: نَفْيُ أبي ذَرٍّ إلىٰ الرَّبذةِ:
الرِّوايةُ التي عندَ الطَّبريِّ وغيرِه من روايةِ سَيفِ بنِ عُمَرَ: أنَّ معاويةَ وَقَعَ بينه وبين أبي ذَرٍّ كَلَامٌ فَأَرْسَلَ إلىٰ عُثمانَ أنَّ أَبَا ذَرٍّ قد أَفْسدَ النَّاسَ عَلَينا، فَقَالَ له عُثمانُ: أَرْسِلْهُ إليَّ، فأَرْسَلَه معاويةُ إلىٰ عُثمانَ، فَأَنَّبَه عثمانُ ثمَّ خَرَجَ إلىٰ الرَّبذةِ([1]).
هذه روايةُ سيفِ بنِ عُمَرَ. ولقد ذَكَرْنا مِن قَبْلُ أنَّ لدينا روايتنا الصَّحيحة التي نَقْبَلُها، وهي ما أَخْرَجَه البُخَاريُّ في «صحيحِهِ» في هذه المَسْألةِ.
عن زيدِ بنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بالرَّبذةِ، فإِذَا أَنَا بأبي ذَرٍّ قُلْتُ: ما أَنْزَلَكَ هذا المَنزلَ؟ قال: كُنْتُ بالشَّامِ فاخْتَلَفْتُ أنا ومعاويةُ في الذين يَكْنِزُونَ الذَّهبَ والفِضَّةَ، فقال معاويةُ: نَزَلَتْ في أهلِ الكِتَابِ. وقُلْتُ أنا: نَزَلَتْ فِينا وفِيْهم([2])، وكانَ بيني وبينه في ذَلِك، فَكَتَبَ إلىٰ عُثمانَ يَشْكُوني أَنِّي أَتَكَلَّمُ في هذه المَسَائلِ وأُثِيرُ النَّاسَ، فَكَتَبَ إليَّ عُثمانُ أن أَقْدِمَ إلىٰ المَدِينةِ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عليَّ النَّاسُ حتىٰ كَأَنَّهم لم يَرَوني قَبْلَ ذلك فَذَكَرْتُ ذلك لعُثمانَ، فَقَالَ عُثمانُ: إن شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قريباً. فَذَاكَ الذي أَنْزَلَني ذَاكَ المَنْزلَ، ولو أمَّرُوا عليَّ حَبَشياً لَسَمِعْتُ إذاً وأَطَعْتُ([3]).
فَعثمانُ بنُ عَفَّانَ لم يَطْرُدْ أبا ذَرٍّ إلىٰ الرَّبذةِ، ولم يُرسِلْه معاويةُ مُهَاناً من الشَّامِ إلىٰ المَدِينةِ، وكلُّ هذا من الكَذِبِ عليهم، فهذه قِصَّةُ أبي ذَرِّ عندَ البُخَاريِّ، بل قَدْ وَرَدَ أنه لما خَرَجَ إلىٰ الرَّبذةِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقولُ: «إِذَا بَلَغَ البِناءُ سلعاً فَاخْرُجْ مِنْهَا»([4]). فإنْ صحَّ فهو أَمْرٌ من نبيِّ الله، وجاء عَنِ النَّبيِّ أنه قَال: «رَحِمَ اللهُ أبا ذَرِّ، يَمشِي وَحْدَه، ويَمُوتُ وَحْدَه، ويُبْعَثُ يومَ القيامةِ وَحْدَه»([5]) رضي الله عنه.
([1]) «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (٣/٣٣٥).
([2]) مذهبُ أبي ذرٍ في مسألةِ الذهبِ والفضةِ معلومٌ، إذ أنّه لا يرىٰ أنْ يبقي الإنسانُ عندَه شيئاً فوقَ حاجتهِ، وخالفه جماهيرُ الصَّحَابَةِ، والْمسألةُ الآن فيها شبهُ إجماعٍ بين الْمُسْلِمين، بأنه يجوزُ للإنسانِ أنْ يكونَ عندَه ما شاء مِنَ الذهبِ والفضةِ إذا أخرجَ زكاتَها، ولذلك بوّبَ البُخَارِيُّ: (باب: ما أخرج زكاته فليس بكنز)، وذكر هذه الروايةَ في ذلك البابِ. وهذا هو الْمشهورُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ وغيرِه مِنَ الصَّحَابَةِ. الْمهمُّ في هذا أنَّ مذهبَ أبي ذرٍ: أنَّ الإنسانَ لا بُدَّ له أنْ يتصدقَ بكلِّ ما زاد عن حاجتهِ ولا يجوزُ له أنْ يبقي عنده ذهباً ولا فضةً زيادةً علىٰ حاجتهِ وإنْ كانَ قد أخرجَ زكاتَها وخالفهُ في هذا مُعَاوِيَةُ .
([3]) أخرجه البُخَارِيّ (١٤٠٦).
([4]) «الطبقات» لابن سعد (٤/٢٢٦).
([5]) أخرجه الحاكم (٣/٥٠) وصَحَّحهُ، وقالَ الذَّهَبِيُّ: «فيه إِرْسَالٌ، وفيه بريدُ بنُ سُفْيَانَ وهو ضعيفٌ جدّاً».