المَأخَذُ الأَوَّلُ: ولَّىٰ أَقَارِبَهُ:

  مَنْ أَقَارِبُ عُثْمانَ الذين وَلّاهُمْ  رضي الله عنه؟

  أوَّلُهم: مُعَاويةُ بنُ أبي سُفيان، وهو مِنْ كتَّابِ الوَحي، كان قَدْ ولَّاهُ عُمَرُ علىٰ الشَّامِ قَبْلَ عُثْمانَ.

  الثَّاني: عبدُ  اللهِ بنُ سعدِ بن أبي السَّرحِ، أَخو عُثْمانَ مِنَ الرَّضاعَةِ، وهو الذي فَتَحَ إفْريقية، قال الذَّهبي رحمه الله: «وقيلَ: إِن عَبد الله أَسلم يَومَ الفَتحِ، ولم يَتَعَدَّ، ولا فَعَل ما يُنقَمُ عليهِ بعدها وكان أحدَ عُقَلَاءِ الرِّجالِ، وأجَوادِهِم»([1]).

  الثَّالِث: الوليدُ بنُ عُقْبةَ، وهو أخو عُثمانَ لأمّهِ، تَولَّىٰ الكوفَةَ خمسَ سنين، عَزَلَهُ عُثْمانُ بَعْدَ ما أَخَذَ عليه، واعَتَزَلَ الفِتْنَة.

  الرَّابِعُ: سعيدُ بنُ العاصِ، عُزِلَ مِنَ الكوفةِ قَبْلَ وَفاةِ عُثْمانَ وكانَ مِنْ خِيرَةِ الصَّحابَةِ، واعْتَزَلَ الفِتْنَةَ. قال الذَّهبيُ: «وكانَ أَميراً، شَريفاً، جَواداً، مُمَدَّحاً، حَليماً، وقوراً، ذا حَزمٍ وعَقلٍ، يَصلُحُ لِلخِلَافَةِ».

  الخامس: عبدُ  اللهِ بنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْز، وهو ابْنُ عمَّة النَّبي ﷺ، وابْنُ خالِ عُثمانَ، وهو الذي فَتحَ بِلادَ كِسْرىٰ، قال الذَّهبي: «وكانَ مِن كِبارِ مُلوكِ العَرَبِ وشُجعانِهِم، وأجَوادِهِم، وكانَ فيهِ رِفقٌ وحِلمٌ»([2]).

  قال أَبو موسَىٰ: قَد أَتاكُم فَتَىٰ مِن قُرَيشٍ، كَريمُ الأُمَّهاتِ والعَمّاتِ والخالَاتِ، يَقولُ بِالمالِ فيكُم هَكَذا وهَكَذا. وهو الَّذي افتَتَحَ خُراسانَ، وقُتِلَ كِسرَىٰ في وِلَايَتِهِ، واحرَمَ مِن نَيسابورَ شُكراً للهِ، وعَمِلَ السِّقاياتِ بِعَرَفَةَ، وكانَ سَخياً كَريماً([3]).

  هؤلاء خمسةٌ وَلّاهُمْ عُثْمانُ، وَهُم من أَقَارِبِه، وهذا في زَعْمِهِم مَطْعَنٌ عليه، فَلْنَنْظُرْ إلىٰ بَاقي وُلَاةِ عُثْمانَ  رضي الله عنه:

  أَبُو مُوسَىٰ الأَشْعَريُّ، القَعْقَاعُ بنُ عَمْرٍو، جَابِرٌ المُزَنيٌّ، حبيبُ بنُ مَسْلَمةَ، عبد الرَّحمَنِ بنُ خَالِد بنِ الوَلِيدِ، أَبُو الأَعْوَرِ السُّلمِيُّ، حَكِيمُ بنُ سَلَامةَ، الأَشْعَثُ بنُ قَيسٍ، جَرِيرُ بنُ عبدِ  اللهِ البَجَلِيُّ، عُتَيبةُ بنُ النَّهاسِ، مَالِكُ بنُ حَبِيبٍ، النّسيرُ العَجَليُّ، السَّائِبُ بنُ الأَقْرعِ، سعيدُ بنُ قَيسٍ، سَلْمَانُ بنُ رَبِيعةَ، خنيسُ بنُ خبيشٍ.

  هؤلاء هُم ولَاة عثمانَ  رضي الله عنه، وبنظرةٍ سريعةٍ نَجِدُ أنَّ عددَ الولاةِ من أقاربِ عثمانَ أقلُّ بكثيرٍ من غيرِهم، وبخاصَّةٍ إذا عَلِمْنا أنَّ النَّبيَّ كان يُولِّي بني أُميَّةَ أكثرَ مِنْ غيرِهم.

  قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ  رحمه الله: «لا نعرفُ قبيلةً من قَبَائلِ قُرَيشٍ فيها عُمَّالٌ لرسولِ  اللهِ أكثرَ مِنْ بني أُمَيَّةَ؛ لأنّهم كانوا كثيرينَ، وفيهم شَرَفٌ وسُؤْدُدٌ»([4]).

  والولاةُ الذين وَلّاهُمُ النّبيُّ واسْتَعْمَلَهُم من بني أُمَيَّةَ هُم عَتّابُ ابنُ أُسيدٍ، أبو سُفيانَ بنُ حَرْبٍ، خَالِد بنُ سَعيدٍ، عُثمانُ بنُ سَعيدٍ، أبانُ ابنُ سعيدٍ. هؤلاء خمسةٌ كعددِ الذين وَلّاهُمْ عثمانُ  رضي الله عنه.

  ثمَّ يقالُ بعدَ ذلك: إنَّ هؤلاء الولاةَ لم يَتَوَلَّوا كلُّهم في وقتٍ واحدٍ بل كان عثمانُ  رضي الله عنه قد وَلَّىٰ الوليدَ بنَ عقبةَ ثمَّ عَزَلَه فَوَلَّىٰ مكانَهُ سعيدَ بنَ العاصِ فلم يكونوا خمسةً في وقتٍ واحدٍ.

  وأيضاً لم يُتوفَّ عثمانُ إلا وقد عَزَلَ أيضاً سعيدَ بنَ العاصِ([5]).

  فعندما تُوفِّي عثمانُ لم يكن من بني عبدِ شمس مِنَ الولاةِ إلا ثلاثة، وهم: معاويةُ، وعبدُ  اللهِ بن سعدِ بنُ أبي السَّرحِ، وعبدُ  الله بنُ عَامرِ بن كريزٍ فقط([6]).

  وهنا أمرٌ يجبُ التَّنَبُّهُ إليه: وهو أن عثمانَ عَزَلَ الوليدَ بنَ عقبةَ وسعيدَ بنَ العاصِ من الكوفةِ! الكوفةُ التي عَزَلَ منها عُمَرُ الفاروقُ سَعْدَ ابنَ أبي وقَاصٍ وعزلَ ابنَ مسعودٍ. وعزل عثمانُ منها أبا موسىٰ والوليدَ وغيرهما.

  الكوفةُ التي دعا عليٌّ علىٰ أهلِها.

  الكوفةُ التي غدرَ أهلُها بالحسنِ بنِ عليٍّ.

  الكوفةُ التي نقضَ أهلُها العهدَ مع مسلم بنِ عقيلٍ.

  وأخيراً وليس آخراً الكوفةُ التي قَتَلَ أهلُها الحُسَيْنَ بنَ عليٍّ!

  الكوفةُ التي لم تَرْضَ بِوَالٍ أبداً.

  إذاً عَزْلُ عثمانَ  رضي الله عنه لأولئك الولاةِ لا يعتبرُ مطعناً فيهم بل مطعناً في المدينةِ التي وُلُّوا عليها، ثمَّ هل أَثْبَتَ هؤلاءِ الولاةُ كفاءَتَهم أو لا؟ ستأتي شهاداتُ أَهْلِ العِلْمِ في أولئك الولاةِ الذين وَلّاهُمْ عثمانُ  رضي الله عنه.

  ثم يُقالُ كذلك : إنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ  رضي الله عنه وَلَّىٰ أقاربَه([7])، ولم يَنقمْ عليه أحدٌ ولا نَنقمُ عليه نحن أَيْضاً؛ لأنَّ هذا الأمرَ ــــ وهو توليةُ عثمانَ لأقاربِه  ــــ الذي يَنقِمُه علىٰ عثمانَ اثنانِ إمَّا سُنِّيٌّ وإمَّا شِيعيٌّ.

  فأمَّا الشِّيعيُّ فَيُرَدُّ عليه بأنَّ: عليَّ بنَ أبي طالبٍ وَلَّىٰ أقاربَه أيضاً، فالأمرُ سواءٌ؛ فإذا كانت توليةُ عثمانَ لأَقارِبِه تُعَدُّ مطعناً عليه، فكذلك توليةُ عليٍّ لأَقارِبِه لا بدَّ أن تكونَ مطعناً عليه، وإن لم تكنْ مَطعناً علىٰ عليٍّ فليسَتْ بمطعنٍ علىٰ عُثمانَ.

  وأمَّا إذا كانَ الذي يُنكِــرُ علىٰ عُثمانَ  رضي الله عنه سُنّيّاً؛ فيقالُ له: أنتَ بين أَمْرين اثنين:

  أحدهما: أنْ يكونَ عثمانُ  رضي الله عنه وَلَّاهُمْ محاباةً لهم، ولم يَكُونُوا أهلاً للولايةِ.

  وثانيهما: أن تقولَ: إنَّ عثمانَ كان يَظُنُّ أَنَّهم يَسْتَحِقُّونَ الولايةَ ولذلك وَلّاهُمْ، والأصلُ إِحسانُ الظَّنِّ في أمثالِ عُثمانَ  رضي الله عنه، ثمَّ بعدَ ذلك كُلِّه نَنْظرُ في سِيَرِ أولئك الولَاةِ الذين وَلّاهُمْ عثمانُ  رضي الله عنه.

  وَنَستَعرِضُ أحْوالَهمْ في وِلايَتِهمْ بِشكلٍ مُجْملٍ:

الأول: معاويةُ بنُ أبي سفيانَ:

  لا يختلفُ أحدٌ مِنَ المسلمين في أنَّ معاويةَ بنَ أبي سُفْيانَ كانَ من خيرِ الولَاةِ، بل إنَّ أهلَ الشَّامِ كَانُوا يُحِبُّونَه حُبّاً شَدِيداً  رضي الله عنه، وكانَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ قَد ولَّاهُ عليها، وكلُّ الذي فَعَلَه عُثْمانُ أَنَّه أَبْقَاه علىٰ تلك الولايةِ، وزَادَه ولَاياتٍ أُخْرَىٰ. ثمَّ هو كَاتِبٌ لِلْوَحْي زَمَنَ رَسُولِ  اللهِ، وقد قَالَ النَّبيُّ: «خِيارُ أَئِمَّتِكُم مَنْ تُحِبُّونَهم ويُحِبُّونَكُم، وتُصَلُّونَ عَلِيهم ويُصَلُّونَ عَلَيكم»([8]) وكانَ مُعَاويةُ كذلك  رضي الله عنه.

الثاني: عبدُ  اللهِ بنُ سعدِ بنِ أبي السَّرحِ:

  كانَ مِن أَصْحابِ رَسُولِ  الله ثمَّ ارْتَدَّ عن دِينِ  اللهِ تباركَ وتعالىٰ ثُمَّ بعدَ ذلك تابَ إلىٰ  اللهِ جلَّ وعَلَا، ورَجَعَ لِيُبَايعَ النَّبيَّ، فَقَالَ عُثمانُ: يا رَسُولَ  اللهِ بَايعْه، فَإِنَّه جَاءَ تَائِباً، فَلَم يُبَايعْهُ النَّبيُّ، ثُمَّ كَلَّمَ النَّبيَّ الثَّانيةَ والثَّالثةَ، فمدَّ رَسُولُ  اللهِ يدَه فَبَايعَه([9])، فَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عليه، وتَابَ إلىٰ  اللهِ تَبَاركَ وتَعَالىٰ، وكان مِن خيرِ الولاةِ، وهو الذي فتحَ إِفريقيةَ. قَالَ الذَّهَبيُّ عنه: «لم يَتَعَدَّ، ولا فَعَلَ مَا يُنقَمُ عليه بعدَ أن أَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ، وكانَ أحدَ عقلاءِ الرِّجَالِ وأَجْوَادِهم»([10]).

  والفُتُوحَاتُ الكَثِيرةُ في إِفريقيةَ كُلُّها كانت علىٰ يَدِه  رضي الله عنه.

الثَّالث: سعيدُ بنُ العاصِ:

  كانَ من خِيارِ أصحابِ رَسُولِ  اللهِ، حتىٰ قَالَ الذَّهَبيُّ عنه: «كانَ أميراً شَرِيفاً جَوَاداً، مَمْدُوحاً، حَلِيماً، وَقُوراً، ذَا حَزْمٍ وعَقْلٍ يَصْلُحُ لِلْخِلَافةِ»([11]).

الرَّابع: عبدُ  اللهِ بنُ عَامرِ بنِ كريزٍ:

  هو الذي فَتَحَ بِلَادَ كِسْرَىٰ وخُرَاسَانَ، وانْتَهَتْ دَولَةُ فَارسَ في زَمَنِ عثمانَ علىٰ يَدِه، وفَتَحَ سَجِسْتَانَ وكَرْمَانَ وغيرَهُما من البلادِ، قال عنه الذَّهبيُّ: «كانَ من كبارِ مُلُوكِ العَرَبِ وشُجْعَانهِم وأَجْوَادِهم»([12]).

الخامس: الوليدُ بنُ عُقبةَ:

  ذُكِرَ عندَ الشَّعبيِّ حبيبُ بنُ مَسْلَمَةَ وجِهَادُه، وما كانَ من فُتُوحَاتِه فَقَالَ: لَو أَدْرَكْتُمُ الوَلِيدَ، وغَزْوَه وإِمَارَتَه!!([13]) وقد بقي الوليدُ بنُ عقبةَ أميراً علىٰ الكوفةِ خمسَ سنينَ ليسَ علىٰ بيتهِ بَابٌ، مَن يُريدُه يَأْتِي ويُكَلِّمُه، وكانَ الناسُ يُحِبُّونَه، ولَكِنَّهُم أهلُ الكُوفةِ كما يُقالُ.

  وقد نُقِمَ علىٰ الوَلِيدِ بنِ عُقبةَ أمْرَان اثْنانِ:

  الأَوَّل: قالوا: نَزَلَ فيه قولُ  اللهِ تباركَ وتعالىٰ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ٦﴾ [الحجرات: ٦].

  علىٰ المَشْهُورِ في كُتُبِ التَّفْسيرِ أنَّ هذه الآيةَ نَزَلَت عِنْدَمَا أَرْسَلَ النَّبيُّ الوليدَ بنَ عُقبةَ ليجْبِي صَدَقاتِ بني المُصْطَلِقِ، فَلَمَّا انطلقَ وَجَدَهُم قَد قَدِمُوا عَلِيه فَخَافَ وَرَجَعَ إلىٰ النَّبيِّ، وقال: إِنَّهُم أَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ النَّبيُّ عَلِيهِم، وأَرْسَلَ خالدَ بنَ الوَلِيدِ، ثمَّ أَمَرَ النَّبيُّ بالتَّثَبُّتِ مِنَ الأَمْرِ عِنْدَما أَنْزَلَ  اللهُ تَبَاركَ وتَعَالىٰ هذه الآيةَ، فَلَمَّا تَبَيَّنُوا الأمرَ قَالُوا: لم نَأْتِ لِنُقَاتِلَ، وإِنَّمَا جِئْنَا بِصَدَقَاتِنَا لَمَّا تَأَخَّرَ عَلِينَا رَسُولُ رسولِ  اللهِ.

  الثاني: قالُوا: كانَ يُصَلِّي الفَجرَ وهو سَكْرَانُ، وصَلَّىٰ بهم الفَجْرَ أربعَ ركعاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وقال: أَزِيدُكُم؟

  فقالُوا لَه: أنتَ منذُ اليوم في زِيادةٍ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلىٰ عُثمانَ واشْتكُوه فَجَلَدَه عثمانُ حدَّ الخَمْرِ. وقد ثَبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» أنَّ عُثمانَ جَلَدَه في حَدِّ الخَمْرِ([14]).

  أمَّا الأمرُ الأوَّلُ: فهو المَشْهورُ عندَ أهلِ التَّفسيرِ([15]) أنَّ الوليدَ بنَ عُقبةَ هو الذي نَزَلَت فيه هذه الآيةُ، وإنْ صَحَّ أنَّ  اللهُ تَبَاركَ وتعالىٰ سَمَّاه فَاسِقاً فهل يَعْنِي هذا أنْ يَظَلَّ فَاسِقاً طَوَال عُمُرِه؟ فاللهُ تباركَ وتعالىٰ قال: ﴿وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ٤﴾  [النور: ٤، ٥] .

  ولو فَرَضْنا أنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ في الوليدِ بنِ عُقبةَ، أليسَتْ له توبةٌ؟!

  أمَّا شُرْبُه الخَمْرَ فهذه أوَّلاً عِلْمُهَا عندَ  اللهِ تَبَاركَ وتَعَالىٰ، لا تَكْذيباً لصحيحِ مُسْلِمٍ، فهو قَدْ جُلِدَ علىٰ الخَمْرِ، ولكِنْ هَلْ ثَبَتَ عنه أنَّه شَرِبَ الخَمْرَ أو لَا؟ هذا أَمْرٌ آخرُ. فالوليدُ بنُ عُقبةَ لمَّا كان والياً علىٰ الكوفةِ، خَرَجَ اثنانِ من أهلِ الكُوفةِ إلىٰ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ في المدينةِ، وقَالَا له: رأيْنَا الوليدَ بنَ عُقْبةَ صَلَّىٰ بنا الفَجْرَ وهو سَكْرانُ، قَالَ أَحدُهما: رأيْتُه سَكْرَانَ وقالَ الآخرُ: رأيْتُه يَتَقَيَّأُهَا.

  فقالَ عُثمانُ: ما تَقَيَّأَهَا إلَّا بعدَ أن شَرِبَها.

  وكانَ عليٌّ حاضراً، ومعه الحسنُ بنُ عليِّ، وعبدُ  اللهِ بنُ جعفرٍ، رضي  اللهُ تَبَاركَ وتعالىٰ عنهم أَجْمعينَ، فأَمَرَ عُثمانُ بجلدِ الوليدِ بنِ عُقبةَ، ثمَّ عَزَلَه عَنِ الكوفةِ، ولكن شَكَّكَ بعضُ أهلِ العلمِ في شَهَادةِ الشَّاهِدَيْنِ، لَا فِي صِحَّةِ القِصَّةِ، نَعَم لقد جُلِدَ كما في «صحيحِ مسلمٍ»، ولكن هَلْ كَانَ الشَّاهِدَانِ صَادِقَيْنِ أو لَا؟

  ومَنْ أَرَادَ التَّوسُّعَ في هذه المسألةِ فَلْيَرجِعْ إلىٰ كِتابِ «العَوَاصِم من القَوَاصِم» بتحقيق مُحبّ الدِّين الخطيب فإِنَّه طَعَنَ في شَهَادةِ الشَّاهِدَيْنِ وبَيَّنَ أَنَّهُما ليسَا مِنَ الثِّقاتِ([16]). وإِنْ ثَبَتَتْ فهذه لَيسَتْ بمطعنٍ علىٰ عُثمانَ، فقد ثَبَتَ عندَه بشهادة مسلميْن أنَّه شَرِبَ الخَمْرَ فَجَلَدَه وعَزَلَه. فهل أخْطَأَ عُثمانُ؟ وَاقِعُ الأمرِ أَنَّه لم يُخْطِئْ، بلْ هَذِه مَنْقَبةٌ له  رضي الله عنه، فَقَد عَزَلَ وجَلَدَ قَرِيبَه وَوَالِيه ولم يُحَابِهِ، وهل الوليدُ بنُ عُقبةَ مَعْصومٌ؟ ونحن قد ذَكَرْنَا في بِدَايةِ كتابِنا أَنَّنَا لَا نَدَّعِي العِصْمةَ في أَصْحابِ النَّبيِّ، وقد وَقَعَ في زَمَنِ عُمَرَ  رضي الله عنه شَيءٌ من هذا حين شَرِبَ ابنُ مَظْعُون الخَمْرَ وتَأَوَّلَ قَولَ  اللهِ تَبَاركَ وتعالىٰ: ﴿لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا ٱتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ ثُمَّ ٱتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ ٱتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ٩٣﴾ [المائدة: ٩٣].

  فَبَيَّنَ له عُمَرُ الصَّوَابَ، ثُمَّ عَزَلَه  رضي الله عنه، فَهَؤلَاءِ هم وُلَاةُ عُثمانَ، الوحيدُ الذي يُمْكِنُ أن يُطْعَنَ فيه هو الوَلِيدُ بنُ عُقبةَ، وليس فيه مَطْعنٌ علىٰ عُثمانَ، وإن كانَ هناك مَطْعَنٌ، فهو علىٰ الوليدِ بنِ عُقبةَ نَفْسِه.

 

([1])    «سير أعلام النبلاء» (٣/٣٤).

([2])   «سير أعلام النبلاء» (٣/٢١).

([3])   «تاريخ الأمم والملوك» (٢/٥٩٥)، «تاريخ الإسلام» للذهبي (٣/٣١٥).

([4])   «منهاج السُّنَّة» (٦/١٩٢).

([5])   «تاريخ الطبري» (٣/٤٤٥).

([6])   المصدر السابق.

([7])   وَلَّـىٰ: (عبد  الله) و(عبيد  الله) و(قثم) و(تمام) أبناء العَبَّاس، و(ربيبه مُحَمَّد بن أبي بَكْرٍ)، و(عبد الرحمـٰـن بن هبيرة ابن أخته أم هانئ). «تاريخ خليفة بن الْخياط» (ص٢٠٠ ــــ ٢٠١).

([8])   أخرجه مُسْلم (١٨٥٥).

([9])   أخرجه أبو داود (٤٣٥٩)، وصححه الألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود».

([10]) «سير أعلام النبلاء» (٣/٣٤).

([11]) المصدر السابق (٣/٤٤٥).

([12]) المصدر نفسه (٣/٢١).

([13]) «تاريخ الطبري» (٢/٦١٠).

([14]) أخرجه مُسْلم (١٧٠٧).

([15]) انظر: «مسند أحمد» (٤/٢٧٩).

([16]) «العواصم مِنَ القواصم» (ص١٠٧ ــــ ١٠٨) الحاشية.