المبحث الثاني

أَهَمُّ الأحداثِ في خلافةِ عُمَرَ بنِ الخطابِ  رضي الله عنه

مَوقعةُ القادسيَّة في مُحَرّمٍ (١٤هـ):

  عزم عُمَرُ علىٰ غزوِ العراقِ بنفسهِ، واستخلفَ علىٰ المدينةِ عَلِيَّ بنَ أبي طَالِبٍ، فقالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: إني أخشَىٰ إنْ كُسِرْتَ أنْ يَضْعفَ المُسْلِمونَ في سائرِ أقطارِ الأرضِ، وإني أَرىٰ أنْ تبعثَ رَجُلاً وترجعَ أنتَ إلىٰ المدينةِ.

  فاستصوبَ عُمَرُ وباقي الصَّحَابَةِ رأيَ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وقالَ عُمَرُ: فَمَنْ ترىٰ أنْ نبعثَ؟ فقالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: الأَسَدَ في بَراثِنهِ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ. فَرَضِيَ عُمَرُ، وخرجَ سَعدٌ إلىٰ العراقِ في أربعةِ آلافٍ، وقيل: ستة آلافٍ.

  وقالَ عُمَرُ: واللهِ لأَرْمِيَنَّ مُلُوكَ العَجَمِ بمُلوكِ العَرَبِ. وأمر سَعْداً أنْ يجعلَ الأُمَراءَ علىٰ القبائلِ، وأنْ يُواعِدَهمُ القادسيةَ.

  وكانَ في هذا الجيشِ مِنَ الصَّحَابَةِ ثلاثمئةُ وبضعةُ عشرَ، منهم سبعونَ بَدْرِيّاً، ومعهم أكثرُ مِن سبعمئةٍ مِن أبناءِ الصَّحَابَةِ، واجتمعَ رأيُ الفُرْسِ علىٰ رُسْتُمْ. فخرجَ ومعه ثمـانونَ ألفاً، وقيل: أكثرُ، ومعه ثَلاثةٌ وثلاثونَ فِيلاً، وبعثَ سعدٌ رِبْعِيَّ بنَ عَامِرٍ إلىٰ رُسْتُمْ، فدخلَ عليه وقدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بالنَّمَـارقِ المُذَهَّبةِ والزَّرَابِيِّ الحريرِ، وأظهروا اليواقيتَ واللآلئَ الثَّمينةَ، والزينةَ العظيمةَ، وعليه تَاجُهُ وغير ذلك مِنَ الأمتعةِ الثَّمينةِ، وقد جلسَ علىٰ سَريرٍ مِنْ ذَهَبٍ، ودخل رِبْعِيٌّ بثيابٍ صَفيقةٍ، وسَيْفٍ وتُرسٍ وفَرَسٍ قصيرةٍ، ولَـمْ يَزلْ راكبَها حتّىٰ دَاسَ بها طَرفَ البِسَاطِ، ثُمَّ نزلَ وربطَها ببعضِ تلك الوسائدِ، وأقبلَ وعليه سِلاحُهُ ودِرْعُهُ وبَيْضَتُهُ علىٰ رأسهِ، فقالوا له: ضَعْ سِلاحَكَ. فقالَ: إني لَـمْ آتِكُمْ، وإنّمـا جِئتُكم حين دَعوتموني، فإنْ تركتموني هكذا وإلا رجعتُ. فقالَ رُسْتُمْ: ائذنوا له. فأقبل يَتوكَّأُ علىٰ رُمْحِهِ فوقَ النَّمَـارقِ فخرقَ عامّتَها. فقالوا له: ما جَاءَ بكم؟ فقالَ:  اللهُ ابْتَعَثَنا لنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِن عِبادةِ العِبَادِ إلىٰ عبادةِ  اللهِ، ومِن ضِيقِ الدنيا إلىٰ سَعَتِها، ومِن جَوْرِ الأديانِ إلىٰ عَدْلِ الإسلامِ، فأرسلَنا بدينهِ إلىٰ خَلْقهِ لنَدْعُوَهم إليهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذلك قَبلْنَا منه ورجعْنَا عنه، ومَن أَبَىٰ قَاتلنَاهُ أَبَداً حتّىٰ نفضيَ إلىٰ مَوعودِ  اللهِ. قالوا: وما مَوعودُ  اللهِ؟ قالَ: الجَنَّةُ لِمَنْ ماتَ علىٰ قتالِ مَنْ أَبَىٰ، والظَّفَرُ لِمَنْ بقي. فقالَ رُسْتُمْ: قد سمعتُ مقالتَكم، فهل لكم أنْ تؤخِّروا هذا الأمرَ حتّىٰ ننظرَ فيه وتنظروا؟ قالَ: نَعَمْ! كَمْ أحبُّ إليكم: يوماً أو يومين؟ قالَ: لا، بل حتّىٰ نُكاتِبَ أهلَ رَأْيِنا ورؤساءَ قومِنا. فقالَ: ما سَنَّ لنا رَسُولُ  الله أنْ نُؤخِّرَ الأعداءَ عندَ اللقاءِ أكثرَ مِن ثلاثٍ، فانظرْ في أمرِكَ وأمرِهم واختَرْ واحدةً مِن ثَلاثٍ بعدَ الأجلِ. فقالَ: أسيُّدُهم أنتَ؟ قالَ: لا! ولكنَّ المُسْلِمينَ كالجسدِ الواحدِ يُجيرُ أدنَاهم علىٰ أعلاهم. فاجتمع رُسْتُمْ برؤساءِ قَومهِ فقالَ: هل رأيتم قَطُّ أعزَّ وأرجحَ مِن كَلامِ هذا الرجلِ؟ فقالوا: معاذَ  اللهِ أنْ تميلَ إلىٰ شيءٍ مِن هذا وتَدَعَ دينَكَ إلىٰ هذا الكَلْبِ، أما ترَىٰ إلىٰ ثيابهِ. فقالَ: ويلَكم! لا تنظروا إلىٰ الثيابِ، وانظروا إلىٰ الرأيِ والكلامِ والسِّيرةِ، إنَّ العَرَبَ يَستخفُّونَ بالثِّيابِ والمأكلِ، ويصونونَ الأحسابَ.

  قالَ ابنُ كَثيرٍ  رحمه الله: «كانت وقعةُ القادسيةِ وَقْعةً عظيمةً لَـمْ يكنْ بالعراقِ أعجبُ منها، وذلك أنه لما تَواجَهَ الصَّفَّانِ كانَ سعدٌ قد أصابهُ عِرْقُ النَّسَا، وخَرجتْ دماملُ في جَسَدهِ، فهو لا يستطيعُ الركوبَ وإنّمـا هو في قَصْرٍ مُتَّكِئٍ علىٰ صَدرهِ فوقَ وسادةٍ وهو يَنظرُ إلىٰ الجيشِ ويُدبّرُ أمرَهُ، وقد جعلَ أَمْرَ الحربِ إلىٰ خالدِ بنِ عُرْفُطَةَ»([1]).

  وبدأتِ المعركةُ وصارَ القوّادُ يَحثُّونَ الجنودَ علىٰ القتالِ، واقتتلَ الفريقانِ قِتَالاً شَدِيداً، وأَبْلَىٰ جماعةٌ مِنَ الشُّجعانِ بلاءً حَسَناً مثل: عَمْرِو ابنِ مَعْدِي كَرِبَ، القَعْقاعِ بنِ عَمْرٍو، جَريرِ بنِ عبدِ  الله البَجَليِّ، خالدِ بنِ عُرْفُطَةَ، ضِرَارِ بنِ الخَطَّابِ، طُليحةَ الأسَدِيِّ، واستمرَّ القتالُ ثلاثةَ أيامٍ بلياليها، وأباد المُسْلِمونَ الفِيَلةَ ومَنْ عليها، وهَبَّتْ رِياحٌ شَديدةٌ، فرفعتْ خِيامَ الفُرْسِ عن أماكنِها، وانتصرَ المُسْلِمونَ، فبادرَ رُسْتُمْ، فركبَ بغْلَتَهُ يُريدُ الهربَ، فأدركهُ المُسْلِمونَ وقَتلوهُ([2]).

 

([1])    «البداية والنهاية» (٧/٤٤).

([2])   «تاريخ الطبري» أحداث سنة ١٤هـ، و«البداية والنهاية» أحداث سنة ١٤هـ.