خلافته:

  لمَّا اشْتَدَّ المرضُ بأبي بكرٍ جَمَعَ الناسَ إليه، فقالَ: إِنَّه قَدْ نَزلَ بِي ما قد ترون، ولا أَظُنني إلَا ميِّتٌ لما بي، وقد أطلق  اللهُ أيْمانَكُمْ مِن بَيعتي، وحلَّ عنكم عُقْدَتي، وَرَدَّ عليكم أَمركم، فَأَمِّروا عليكم مَن أَحْبَبتم، فإِنكم إن أَمَّرْتم في حياتي كان أَجْدَر أن لا تختلفوا بعدي، وَتَشَاور الصحابةُ  رضي الله عنهم، وكُلٌّ يحاول أن يَدْفَع الأمر عن نفسه وَيَطلبَهُ لأخيه، فقالَوا: رأيُنا يا خليفةَ رسولِ  الله رَأْيُكَ، قالَ: فَأَمْهلوني حتىٰ أنظر  لله ولدينه ولعباده.

  فدعا أبو بكر عبدَ  الرحمٰن  بنَ عوف فقالَ له: أخبرني عن عمرَ  بن الخطاب؟ فقالَ له: ما تسألني عن أمرٍ إلا وأنتَ أعلمُ بهِ مني، فقالَ أبو بكر: وإِنْ. فقالَ عبدُ  الرحمٰن: هو والله أفضلُ من رأيكِ فيه.

  ثم دعا عثمانَ  بن عفان، فقالَ: أخبرني عن عمرَ  بن الخطاب، فقالَ: أنت أخبر به، فقالَ: علىٰ ذلك يا أبا عبد  الله، فقالَ عثمانُ: اللَّهُمَّ عِلْمي به أن سَرِيرَتَهُ خيرٌ من علانِيَّتِهِ، وأَنَّه ليس فينا مثلَه.

  وسأل عدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم برأي واحد في عمر إلا طلحةَ  بنَ عبيدِ  الله قالَ: ما أنت قائلٌ لربكَ إذا سألك عن استخلافك عمرَ علينا وقد ترىٰ غِلْظَتَه؟

  فقالَ أبو بكر: أجلسوني أباللهِ تُخوفونني؟ خَابَ من تَزَوَّدَ من أمرِكم بِظُلمٍ، أقول: اللَّهُمَّ اسْتَخْلَفْتُ عليهم خيرَ أهلكَ، ثم كَتَبَ عهداً مكتوباً يُقرأ علىٰ الناسِ في المدينةِ وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجنادِ فكان نَصُّ العهدِ:

  «بسم  الله الرحمٰن الرحيم، هذا ما عَهِدَ أبو بكرِ  بنُ أبي قُحافة في آخر عَهْدهِ بالدنيا خارجاً منها، وعندَ أَوَّلِ عَهْدِهِ بالآخرةِ داخلاً فيها، حيثُ يُؤمِنُ الكافرُ، ويُوقِنُ الفاجِرُ، ويَصْدُقُ الكاذبُ، إنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُم بَعْدي عُمرَ  بْنَ الخطَّابِ، فاسْمَعوا له وأطيعوا، وإِنَّي لم آلُ  اللهَ ورسولَه ودينَه ونفسِي وإيِاكم خيراً، فإِن عَدَلَ فذلك ظَنَّي به وعِلْمي فيه، وإن بَدَّلَ فلكل امرئٍ ما اكْتَسَبَ، والخيرَ أردتُ ولا أعلمُ الغيب ﴿.. وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ٢٢٧﴾ [الشعراء: ٢٢٧]»([1]).

  وعن عبدِ  اللهِ  بنِ مسعودٍ  رضي الله عنه قالَ: أَفْرَسُ الناسِ ثلاثةٌ: العزيزُ حين  قالَ لامرأته: ﴿.. أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا... ٢١﴾ [يوسف: ٢١]، والتي قالَت: ﴿.. يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ ٢٦﴾ [القصص: ٢٦]، وأبو بكرٍ حِينَ تَفَرَّسَ في عمرَ  ([2]).

 

([1])    «أمير المؤمنين عمر  بن الخطاب» للصلابي (١/٩٧).

([2])   أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٠٥٨)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٨٨٢٩)، والحاكم في «المستدرك» (٣٣٢٠)، وقالَ: «صحيح علىٰ شرط الشيخين ولم يخرجاه».