وَقْعةُ اليَرْمُوكِ
19-03-2023
وَقْعةُ اليَرْمُوكِ:
كانَ عددُ جَيشِ المُسْلِمين سبعةً وعشرين ألفاً، وعدد جيش النصارىٰ عشرين ومئة ألفاً. وأرسل الأمراءُ إلىٰ أبي بَكْرٍ يُعلِمُونه بمـا وقع مِنَ الأمرِ العظيمِ، وطلبوا منه مَدَداً، فكتبَ إليهم: أنِ اجتمعوا وكونوا جُنداً وَاحِداً، فأنتم أنصارُ الله، واللهُ يَنصرُ مَنْ يَنصُرُهُ، ويَخذلُ مَنْ يَكفرهُ، ولنْ يُؤتَىٰ مثلُكم عن قِلَّةٍ، ولكن مِنْ تلقاءِ الذنوبِ، فاحترسوا منها.
ثُمَّ قالَ أبو بَكْرٍ: والله لأشغلنَّ النصارَىٰ عن وَساوسِ الشيطانِ بخَالِدِ بنِ الوليدِ. وبعثَ إليه بالعراقِ لِيَقْدُمَ إلىٰ الشَّامِ، وإنْ وصلَ إلىٰ الشَّامِ فهو الأميرُ علىٰ الجميعِ، فاستنابَ خالدٌ المُثَنَّىٰ بنَ حارثةَ وتوجّهَ إلىٰ الشَّامِ مُسْرِعاً في تسعةِ آلافٍ وخمسمئة، وسلك طُرقاً لَـمْ يسْلُكْها أحدٌ قَبْلَهُ اخْتِصَاراً للطَّريقِ، فاجتابَ البَرارِيَ والقِفَارَ، وقطعَ الأوديةَ، وأخذ معه دَلِيلاً، وهو نافعُ بنُ عُميرةَ الطَّائيُّ. وكانت أَرْضاً معطشةً([1]) فَلمَّـا فقدوا الماءَ نحروا الإبلَ، وسقوا ما في أجوافِها للخيلِ، ووصلَ في خمسةِ أيامٍ، وكانَ قد قالَ له أحدُ الأعرابِ قبلَ مَسيرِهِ: إنْ أنت أصبحتَ عندَ الشجرةِ الفلانية في يومِ كذا، نجوتَ أنت ومَنْ مَعكَ، وإنْ لَـمْ تُدْركْها هلكتَ أنت ومَن معكَ. فأصبحوا عندها فقالَ: «عندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القومُ السُّرىٰ»([2]). فصارت مَثَلاً. وخرجَ رجلٌ مِن نصارىٰ العَرَبِ يَجسُّ أمرَ الصَّحَابَةِ فقالَ: وجدتُ قَوْماً رُهْبَاناً بالليلِ، فُرْسَاناً بالنهارِ، والله لو سَرَقَ فيهمُ ابنُ مَلِكِهم لقطعوهُ، أو زَنَىٰ لَرَجَموهُ. فقالَ له قائدُ الرومِ: والله لئنْ كنتَ صَادِقاً، لبطنُ الأرضِ خيرٌ مِن ظهرِها. ولما أقبل خالدٌ مِنَ العراقِ لقيه رَجلٌ من نصارىٰ العَرَبِ فقالَ له: ما أكثرَ الرومِ وأقلَّ المُسْلِمينَ.
فقالَ خالدٌ: وَيْلكَ أَتُخوِّفُني بالرومِ؟ إنّما تكثرُ الجنودُ بالنصرِ وتقلُّ بالخذلانِ لا بعدَدِ الرجالِ، والله لوددتُ أنَّ الأشقرَ برأَ مِن وَجَعهِ وأنّهم أضعفوا العددَ([3]).
وطلب ماهان قائدُ الرومِ أنْ يقابلَ خَالِدَ بنَ الوليدِ فخرجَ إليه خالدٌ فقالَ ماهان: إنّا قد علِمْنا أنَّ الذي أخرجَكم مِن بلادِكم الجهدُ والجوعُ، فهلموا إليَّ أعطي كُلَّ رجلٍ منكم عشرةَ دنانير وكسوةً وَطَعَاماً وترجعون إلىٰ بلادِكم، فإذا كانَ العامُ المقبلُ بعثنا لكم بمثلِها. فقالَ خالدٌ: إنه لَـمْ يخرجْنا مِن بلادِنا ما ذكرتَ، غير أَنَّا قومٌ نَشربُ الدماءَ، وأنه بلغَنا أنْ لا دمَ أطيب مِن دمِ الرومِ فجئنا لذلك. ثُمَّ تفارقا وتنازلَ الأبطالُ، وتجاولوا في الحربِ، وقامتِ الحربُ علىٰ سَاقٍ. وأقبلتِ الرومُ رافعةً صُلبانَها، ولهم أصواتٌ مزعجةٌ كالرعدِ، والقساوسةُ والبطارقةُ تحرّضُهم علىٰ القتالِ، وهم في عَدَدٍ وعُدّةٍ لَـمْ يُرَ مثلُها، وحمل المُسْلِمون علىٰ الرومِ حملةَ رجلٍ واحدٍ، فانكشفَ الرومُ وفرّوا وانتهتِ المعركةُ بنصرٍ سَاحقٍ للمُسْلِمين.
([2]) السُّرىٰ: هو المشي ليلاً.
([3]) وكانَ اسمُ فرسهِ (الأشقرُ) وقد اشتكىٰ في مجيئهِ مِنَ العراقِ.