قِتالُ المرتدينَ ومانعي الزَّكَاةِ:

  بعد وفاة رسول  الله  ﷺ ارْتَدَّ كَثيرٌ مِنَ العَرَبِ ممنْ لم يُخالِطِ الإيمانُ بَشاشَةَ قُلوبِهِمْ وَنَكَصوا عَلىٰ أَعْقابِهِمْ، وَثَبَتَ آخَرونَ كَما قالَ تعالىٰ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ ١٤٤﴾ [آل عِمْرَانَ: ١٤٤].

  وقالَ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٥٤﴾ [المائدة: ٥٤]، وَقَدْ قَامَ لِنُصْرَةِ دِينِ  اللهِ وَمُحارَبَةِ المُرْتَدِّينَ ثُلّةٌ مُبارَكَةٌ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ  ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، وَكَانَ عَلَىٰ رَأْسِهِمْ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.

  قالتْ عَائِشَةُ  : «لمّا توفِّيَ رَسُولُ  الله نَجَمَ النِّفاقُ، وارتَدَّتِ العَرَبُ، واشرأبَّتِ اليهوديّةُ والنَّصرانيّةُ، وصارَ المسلمونَ كالغَنَمِ المَطِيرةِ في اللّيلةِ الشَّاتَيةِ! لِفَقْدِ نَبِيِّهم، حتَّىٰ جَمَعَهمُ  اللهُ علىٰ أبي بَكْرٍ، فلقدْ نزلَ بأبي ما لو نَزَلَ بالجبالِ الرّاسياتِ لهَاضها! فوالله ما اختلفُوا فيه مِن أَمرٍ إلَّا طارَ أبي بعلائهِ وغنائهِ، وكان مَنْ رأي ابن الخَطَّابِ عَلِمَ أنه خُلِقَ عوناً للإسلامِ! كان واللهِ أحوذيّاً، نسيجاً وحدَه! قد أعدَّ للأُمُورِ أقرانَها!»([1]).

  عزمَ أبو بَكْرٍ علىٰ قِتالِ المرتدينَ ومانعي الزَّكَاةِ، وقد تكلّمَ الصَّحَابَةُ مع الصِّدِّيقِ في هذا، وطلبوا منه أنْ يتركَ قِتالَ المرتدّينَ خوفاً علىٰ المدينةِ وأهلِها، فأبىٰ، وكلَّمُوه أنْ يتركَ مانعي الزَّكَاةِ وما هم عليه مِن مَنْعِ الزَّكَاةِ ويتأَلَّفَهم حتّىٰ يتمكنَ الإيمـانُ في قلوبِهم، ثُمَّ هُمْ بعدَ ذلك يُزكّونَ، فامتنعَ الصِّدِّيقُ من ذلك وأبَاهُ.

  عَنْ أبي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قال لأبي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قالَ رَسُولُ  الله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّىٰ يَقُولُوا: لَا إِلـٰــهَ إِلَّا  اللهُ وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ  الله، فإذا قالوهــا عَصَمُوا مِنِّي دمــــاءَهم وأمـــوالَهم، إِلَّا بِحَقِّها»، فقالَ أبو بَكْرٍ: «والله لو مَنَعُونِي عناقاً ــــ وفي روايةٍ: عِقَالاً([2]) ــــ كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَىٰ رَسُولِ  الله لأُقَاتِلَنَّهم علىٰ مَنْعِها؛ إِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، والله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ». قالَ عُمَرُ: «فمَـا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ  اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أبي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ»([3]).

  قلتُ: وقد قالَ  اللهُ تعالىٰ: ﴿فَإِذَا ٱنْسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُوا ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا ٱلصَّلَاةَ وَآتَوُا ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥﴾ [التوبة: ٥].

  ولقدِ ارتدَّ كثيرٌ مِنَ العَرَبِ عندَ وَفَاةِ رَسُولِ  الله:

  ــــ فارتدَّتْ أسَدٌ وغطفانُ، وعليهم طُليحةُ الأَسَدِيُّ.

  ــــ وارتدَّتْ كِندةُ ومَن يليها، وعليهمُ الأشعثُ بنُ قيسٍ الكِنْديُّ.

  ــــ وارتدَّتْ مذحجٌ ومَن يليها، وعليهمُ الأسودُ العنسيُّ.

  ــــ وارتدَّتْ بنو  حنيفةَ، وعليهم مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ.

  ــــ وارتدَّتْ سليمٌ، وعليهمُ الفجاءةُ.

  ــــ وارتدَّتْ بنو تميمٍ مع سجاحَ اَلتَّغْلِبيةِ (وقِيلَ: التَّمِيمِيَّة).

  ــــ وهناك مَنْ مَنعَ الزَّكَاةَ ولَـمْ يرتدَّ حتّىٰ قالَ قائِلُهم:

أطعنا رَسُولَ  الله ما كانَ وسطنا

فـيـا لـعبـاد  الله مَا بَال أَبِي بَكْرِ

أيورثهـا بكـراً إذا مَـاتَ بَـعْـدَهُ

وتلك لَعَمْرُ  الله قَاصِمَةُ الظَّهـر

  ــــ وعقدَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لخَالِدِ بنِ الوليدِ الرَّايةَ، وأمره بطُليحةَ بنِ خُويلدٍ الأسَدِيِّ فإذا فرغَ منه سارَ إلىٰ مَالِكِ بنِ نويرةَ بالبطاح إنْ أقامَ له.

  ــــ وعقد لعِكْرِمَةَ بنِ أبي جَهلٍ وأمرَهُ بمُسيلمةَ الكَذَّابِ، ثُمَّ أتبعهُ بِشُرَحْبِيلَ بنِ حَسَنةَ في أثرهِ.

  ــــ وعقد لخالدِ بنِ سعيدِ بنِ العَاصِ إلىٰ مَشارفِ الشَّامِ.

  ــــ وعقدَ لعَمْرِو بنِ العَاصِ إلىٰ قضاعةَ ووديعةَ والحارثِ.

  ــــ وعقد للعلاءِ بنِ الحضرميِّ، وأمرَهُ بالبحرينِ([4]).

  ــــ وعقد لحُذَيْفَةَ بنِ مِحْصَنٍ الغطفانيِّ، وأمرهُ بأهلِ دبا، وبعرفجةَ، وهرثمةَ.

  ــــ ولطرفةَ بنِ حاجبٍ، وأمره ببني سليمٍ ومَنْ معهم مِن هَوازنَ.

  ــــ ولسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وأمره بتهامةَ اليمنِ.

 

([1])    أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (٦٨)، وإسناده صحيح، والطبراني في «المعجم الصغير» (٢/١٠١).

([2])   العناق: هي السخلة الصغيرة، والعقال: هو الحبل الذي يجر به الجمل.

([3])   أخرجه البُخَارِيّ (٧٢٨٤، ٧٢٨٥)، ومسلم (٢٠).

([4])   «البداية والنهاية» لابن كثير (٦/٣٢٠ ــــ ٣٢١).