منهجُ الإمامِ الطَّبَرِيِّ في تاريخهِ:

  لقد أراحنا الإمامُ الطَّبَرِيُّ  رحمه الله في هذه المسألةِ بمقدمةٍ كتَبَها في أوّلِ كتابهِ، وليتَ الذين يقرؤون هذا التَّاريخَ يقرؤون هذه المقدمةَ([1]). يقول الإمامُ الطَّـبَرِيُّ  رحمه الله في مُقدمةِ تاريخهِ: «وليعلمِ الناظرُ في كَتابِنا هذا أنَّ اعْتِمَادِي في كُلِّ ما أحضرتُ ذكرَهُ فيه مما شرطتُ أني راسمُهُ فيه، إنّمـا هو علىٰ ما رُوّيتُ مِنَ الأخبارِ التي أنا ذاكرُها فيه والآثارِ التي أنا مُسْندُها إلىٰ رُواتِها، فمـا يَكُنْ في كِتَابي هذا مِنْ خَبَرٍ ذَكرنَاه عَنْ بعضِ الماضينَ، مما يَستنكِرُهُ قَارئُهُ، أو يَستشنِعُهُ سَامِعُهُ مِنْ أجْلِ أنه لم يَعرفْ له وجهاً في الصِّحَّةِ، ولا معنًىٰ في الحقيقةِ؛ فليعلمْ أنه لم يُؤتَ في ذلك مِنْ قِبَلِنَا، وإنما أُتي مِنْ قِبَلِ بعضِ نَاقليهِ، وأنا إنما أَدَّيْنَا ذلك علىٰ نَحوِ ما أُدِّيَ إلينا»([2]).

  أظنُّ أنَّ الإمامَ الطَّبَرِيَّ بِهذه المقدمةِ التي قدَّمَ لكتابهِ بها ألقَىٰ العهدةَ عليك أنتَ أيها القارئ!!

  فهو يقولُ لكَ: إذا وجدتَ في كِتَابِي هذا خبراً تَستشنعُهُ، ولا تَقبلُهُ، فانظرْ عمّنْ رويناه، والعهدةُ عليه، وعَلَيَّ أنْ أذكرَ مَنْ حَدَّثَنِي بِهذا، فإنْ كانَ ثقةً فاقبلْ، وإنْ لَـمْ يكنْ ثقةً فلا تَقبلْ.

  وهذا الأمرُ قامَ به أكثرُ المحدّثينَ، فحين ترجعُ إلىٰ كُتبِ الحديثِ غيرِ «الصحيحين» اللَّذَيْنِ تعهّدا بإخراجِ الصَّحيحِ فقط؛ كأنْ ترجعَ إلىٰ «جامع التِّرمذِيِّ»، أو «سنن أبي داود»، أو «سنن الدارقطني»، أو «سنن اَلدَّارِمِي»، أو «مسند أحـمد»، أو غَيْرِها مِنَ الكُتُبِ تجدُهم يذكرونَ لك الإسنادَ، ولَـمْ يَتعهّدوا بذكرِ الصَّحيحِ فقط، وإنّمـا ذكروا لك الإسنادَ، وواجبُكَ أنت أنْ تنظرَ إلىٰ الإسنادِ، فإذا كانَ السَّنَدُ صَحِيحاً فاقبلْ، وإنْ لَـمْ يكن صَحِيحاً فردّه.

  وَالطَّبَرِيُّ هنا لَـمْ يَتعهّدْ بأنْ ينقلَ الصَّحيحَ فقط، إنّمـا تَعَهَّدَ أنْ يذكرَ اسمَ مَنْ نقلَ عنه. وقد أشارَ إلىٰ هذا المنهجِ ابنُ حجرٍ  رحمه الله مُبيناً طريقةَ ومنهجَ أكثرِ الأقدمينَ حيثُ قال: «أكثر المحدثينَ في الأعصارِ الماضيةِ من سنةِ مائتين وهلمَّ جرّا إذا ساقوا الحديثَ بإسنادِه، اعتقدوا أنهم تبرَّئوا من عُهدتهِ»([3]).

  فإذا كانَ الأمرُ كذلك فلا عُهدةَ علىٰ الإمامِ الطَّبَرِيِّ  رحمه الله.

  وقد أكثرَ الإمامُ الطَّبَرِيُّ في كتابهِ «التَّاريخ» النَّقْلَ عن رَجُلٍ اسمُه (لُوطُ بنُ يَحْيَىٰ) ويُكنّىٰ بأبي مِخْنَفٍ، و(لوطُ بنُ يحيىٰ) وقد روىٰ عنه الطَّبَرِيُّ([4]) سبعاً وثمانين وخمسمئة رواية  (٥٨٧).

  وهذه الرواياتُ تبدأُ مِن وفاةِ النَّبِيِّ، وإلىٰ خِلَافَةِ يَزِيدَ، وهي الفترةُ التي سنتكلّمُ عنها في كتابِنا هذا، ومن أهمِّها:

  •   سقيفةُ بني ساعدةَ.
  • قصّة الشورىٰ.
  • الأمورُ التي من أجلها قام الخوارجُ علىٰ عُثْمَانَ.
  • مقتل عثمانَ.
  • خِلَافَةُ عَلِيٍّ  رضي الله عنه.
  • معركةُ الجملِ.
  • معركةُ صِفّينَ.
  • التحكيمُ.
  • معركةُ النهروانِ.
  • خِلَافَةُ مُعَاوِيَةَ  رضي الله عنه.
  • قتلُ الحُسَيْنِ  رضي الله عنه.

  وفِي كُلِّ هذه المرويّاتِ نَجِدُ أبا مِخْنَفٍ، وهِيَ التي يعتمدُها أهلُ البِدَعِ، ويحرصون عليها.

  وأبو مِخْنَفٍ هذا، قالَ عنه ابنُ مَعِينٍ: «ليسَ بشيءٍ».

  وقالَ أبو حَاتمٍ: «مَتروكُ الحديثِ».

  وسُئِلَ عنه مرةً فنفضَ يَدَهُ، وقالَ: «أحدٌ يَسألُ عن هذا».

  وقالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: «ضَعيفٌ».

  وقال ابنُ حِبَّانَ: «يَروي الموضوعاتِ عَنِ الثِّقَاتِ».

  وقال الذَّهَبِيُّ: «إِخْبَارِيٌّ تَالِفٌ لا يُوثقُ به»([5]).

  فأنتَ إذا فتحتَ «تاريخَ الطَّبَرِيِّ» ووجدتَ روايةً فيها مَطْعَنٌ علىٰ أصحابِ الرَّسُولِ، فوجدتَ أنَّ الطَّبَرِيَّ إنّمـا رواها عن أبي مِخْنَفٍ؛ فعليك أنْ تلقيَها جَانِباً.

  لماذا؟ لأنّها مِن رِوايةِ أبي مِخْنَفٍ.

  وأبو مِخْنَفٍ هذا جمعَ بين البدعةِ والكَذِبِ وكثرةِ الروايةِ.

  مبتدعٌ، كَذَّابٌ، مُكثرٌ مِنَ الروايةِ!!

  وليس أبو مِخْنَفٍ وحده، بل أبو مِخْنَفٍ هو أشهرُهم، وإلا فهناك غيره كالواقديِّ([6]) مَثَلاً، وهو مَتروكٌ مُتَّهَمٌ بالكَذِبِ، ولا شكَّ أنه مؤرِّخٌ كبيرٌ حافظٌ عالمٌ بالتَّاريخِ ولكنّه غيرُ ثِقَةٍ.

  والثالث: سَيفُ بنُ عُمَرَ اَلتَّمِيمِيُّ([7])، وهو أيضاً مُؤرّخٌ معروفٌ، ولكنّه مَتروكٌ مُتَّهَمٌ أيضاً.

  وكذلك الكلبيّ([8]) وهو كَذَّابٌ مشهورٌ، فإذاً لا بدَّ أنْ يتثبتَ المرءُ مِن رِوايةِ هؤلاء وأمثالِهم.

 

([1])    بل يَنْبَغِي لكلِّ إنسانٍ إذا أرادَ أنْ يقرأَ كتاباً مِنَ الكُتُبِ أنْ يقرأَ مقدمةَ الكِتَابِ حتّىٰ يعرفَ منهجَ المؤلفِ.

([2])   مقدمة «تَاريخ الطَّبَرِيِّ» (ص٥).

([3])   «لسان الميزان» (٤/١٢٨) ترجمة: الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة.

([4])   كما ذكر ذلك الدكتور يحيىٰ اليحيىٰ في كتابه «مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري».

([5])   «الجرح والتعديل» (٧/١٨٢)، «ميزان الاعتِدَال» (٣/٤١٩)، «لسان الميزان» (٤/٤٩٢).

([6])   «سير أعلام النبلاء» (٩/١٧٢).

([7])   انظر ترجمته في: «ميزان الاعتِدَال» (٢/٢٥٥)، و«تهذيب التهذيب» (٤/٢٩٥).

([8])   ترجمته «مُحَمَّد بن السائب الكلبي» في: «ميزان الاعتِدَال» (٣/٥٥٦).