مِمَّ نحذِّرُ عندَ قراءةِ كُتبِ التاريخِ؟

عندما نَقرأُ كُتبَ التَّاريخِ نحذرُ مِن:

  •   أنْ نَميلَ مع رأيِ المؤلفِ.
  • لا بُدَّ أنْ ننظرَ إلىٰ أصلِ الروايةِ لا إلىٰ رَأيهِ.
  • أنْ نتوخَّىٰ الإنصافَ عندَ القراءةِ.

 

  وعِنْدَ قِراءَةِ تاريخِ أصحَابِ رَسُولِ  الله لا بُدَّ أنْ نَتَنَبَّهَ إلىٰ أمرينِ اثنين:

  الأمر الأول: أنْ نعتقدَ أنَّ أصحابَ النَّبِيِّ هُم خَيْرُ البَشَرِ بعدَ أنبياءِ  الله صلواتُ  الله وسلامُه عليهم؛ وذلك لأنَّ  اللهَ تباركَ وتعالىٰ مَدَحَهُم والنَّبِيُّ كذلك مَدَحَهُم، وبَيّنَ في أكثر مِن حَديثٍ أنّهم أفضلُ البَشَرِ بعدَ أنبياءِ  اللهِ صلواتُ  اللهِ وسلامُه عليهم.

  الأمر الثاني: أنْ نعلمَ أنَّ أصحَابَ رَسُولِ  الله غيرُ مَعصُومينَ، نَعَمْ نحن نعتقدُ العِصْمَةَ في إجماعِهم؛ لأنَّ النَّبِيَّ أخبرَنا أنّ هذه الأُمَّـةَ لا تجتمعُ علىٰ ضَلالةٍ([1])، فهم مَعصومون مِن أنْ يجتمعوا علىٰ ضَلالةٍ، ولكنهم كأفرادٍ غير معصومين، فالعِصْمَةُ لأنبياءِ  الله وملائكتهِ، أما غيرُ الأنبياءِ والملائكةِ؛ فلا نعتقدُ عِصْمَةَ أَحدٍ.

  ونحن في كتابِنا هذا نسعَىٰ جاهدينَ إلىٰ التفريقِ بين الحقائقِ والرقائقِ، فحبُّنا لأصحابِ النبيِّ لمْ ولن يكونَ أبداً سبباً لطمسِ الحقائقِ وإغفالِها ولا نرىٰ عيباً في ذلك، بعد استشارتِنا مَنْ نثقُ به من علمائِنا ومشايخِنا.

  أقولُ: لا نرىٰ عيباً في الخوضِ في هذا الموضوعِ علىٰ إِطلاقِهِ، بل العيبُ في أن يخوضَ الإنسانُ بجهلٍ أو سوءِ نيَّةٍ أو هما معاً. أما إذا كان الخوضُ بعلمٍ وعدلٍ وإنصافٍ وتقوىٰ فالذي ظهرَ لي أنه لا مانعَ منه.

  إذاً: لا بدَّ أنْ نَعتقِدَ أنَّ الصَّحَابَةَ خيرُ البَشَرِ، وأنْ نعتقدَ أنّهم غيرُ معصومينَ، وأنَّ ما وقعَ من بعضِهم خطأٌ لا خطيئةً وشتان بين الأمرين. فإذا جاءتكَ روايةٌ فيها طَعْنٌ في صَحابيٍّ فلا تُقْدمْ علىٰ رَدِّها ولا تَقبلْها حتّىٰ تنظرَ فيها، فإنْ وجدتَّ السَّندَ صحيحاً؛ فهذا مِنَ الأشياءِ التي هُم غيرُ معصومين فيها، فهم يخطئونَ كسائرِ البَشَرِ وإنْ وجدتَ السَّندَ ضَعِيفاً؛ فابْقَ علىٰ الأصلِ، وهو أنّهم خيرُ البَشَرِ بعدَ أنبياءِ  الله صلواتُ  الله وسلامُهُ عليهم بدَلِيلِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ.

  أما مَدْحُ  الله تباركَ وتعالىٰ لأصحَابِ رَسُولِ  الله، فهو في قول  الله  : ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٢٩﴾ [الفَتْح: ٢٩]، في هذه الآيةِ مَدَحَ  الله تباركَ وتعالىٰ جُملةَ أصحابِ رَسُولِ، إذاً الأصلُ فيهمُ المدحُ، وقد ثبتَ عَنِ النَّبِيِّ أنه قالَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»([2]).

  فهذا مَدحٌ مِن رَسُولِ  الله لأصحابهِ  رضي الله عنهم، وسيأتي تفصيلُ ذلك في الكلامِ عَن عَدَالةِ الصَّحَابَةِ في بَابٍ مُستقلٍّ من هذا الكِتَاب.

  قالَ أبو مُحَمّدٍ القحطانيُّ في «نُونيتهِ»:

لا تَقبلَنَّ مِـنَ التوارخِ كُـلَّ مَــا

جـمـعَ الرُّواةُ وخَطَّ كُـلُّ بَنَـانِ

ارْوِ الحديثَ المنتقَىٰ عَـن أَهـلـهِ

سيمـا ذوي الأحلامِ والأَسنانِ

كابنِ المسيّبِ والعـلاءِ ومَالـكٍ

واللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ أو سُفْيَانِ([3])

  أي: إذا أردتَ تاريخاً صَحِيحاً، فهو الذي يرويه هؤلاءِ وأمثالُهم مِنَ الثِّقَاتِ لا كما يقولُ الكثيرونَ ممّن يطعنونَ في سِيرةِ أَصحابِ الرَّسُولِ: «إنَّ تاريخَنا أسودُ مظلمٌ قاتم»!!

  لا؛ بل تاريخُنا ناصعٌ، جميلٌ، طَيّبٌ، يستمتعُ الإنسانُ بقراءتهِ.

ومَن أرادَ التَّوَسُّعَ؛ فليرجعْ إلىٰ كُتبِ التَّاريخِ:

  كــــ«تاريخ الأُمَمِ والملوكِ» المشهورِ «بتاريخ الطَّبَرِيِّ».

  أو «البدايةِ والنهاية» لابن كثير.

  أو «تَاريخِ الإسلامِ» لِلذَّهَبِيِّ.

  أو غيرِها من كُتبِ التَّاريخِ المعتمَدةِ.

  ويعتبرُ «تاريخُ الإمامِ الطَّبَرِيِّ»؛ أهمَّ كَتابٍ في التَّاريخِ الإسلاميِّ، وَكَثِيراً ما ينقلُ النَّاسُ عنه، فأهلُ السُّنَّةِ وأهلُ البدعةِ ينقلون ويَحتجُّونَ بــــ«تَاريخِ الطَّبَرِيِّ»، ولماذا يا تُرىٰ يُقدّمُونه علىٰ غيرهِ مِنَ التواريخِ؟

  يُقدّمُ «تَاريخُ الطَّبَرِيِّ»؛ علىٰ غيرهِ لأمورٍ كثيرة منها:

  • قُرْبُ عَهدِ الإمامِ الطَّبَرِيِّ مِن تلكَ الحوادثِ.
  • أنَّ الإمامَ الطَّبَرِيَّ يروي بالأسانيدِ.
  • جلالةُ الإمامِ الطَّبَرِيِّ  رحمه الله([4])، ومَنزلتُهُ العلميةُ.
  • أنَّ أكثرَ كُتبِ التَّاريخِ تنقلُ عنه.

 

  وإذا كانَ الأمرُ كذلك فنحن إذا أردنا أنْ نقرأَ فلنذهبْ مباشرةً إلىٰ الإمامِ الطَّبَرِيِّ، ولكن كما ذكرتُ فأهلُ السُّنَّةِ يأخذون مِن «تَاريخِ الطَّبَرِيِّ»، وأهلُ البِدَعِ كذلك يأخذون ما يوافقُ مذهبَهم منه، فكيف نوفّقُ بين هذا وذاك؟

  «تاريخ الطَّبَرِيِّ» كما ذكرنا مِن ميزاتهِ أنه لا يُحدّثُ إِلَّا بالأسانيدِ، وأهلُ السُّنَّةِ يأخذون الصَّحيحَ مِن أسانيدِ الطَّبَرِيِّ، بينما أهلُ البِدَعِ يأخذونَ الصَّحيحَ والغَثَّ والسَّمينَ، المهم أنْ يُوافقَ أهواءَهم.

  وإذا كانَ الأمرُ كذلك؛ كانَ مِنَ الواجبِ علينا أنْ نتعرفَ علىٰ مَنهجِ الإمامِ الطَّبَرِيِّ في «تاريخهِ».

 

([1])    أخرجه أحـمد (٢٦٦٨٢)، وابنُ مَاجَهْ (٣٩٥٠)، وابنُ أبي عاصم في «السُّنَّة (٨٠) من حديثِ أنس بن مالكٍ، وصححه الشيخ الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه».

([2])   أخرجه البُخَارِيّ (٣٦٧٣)، ومسلم (٢٥٤١).

([3])   «نونية القحطاني» (الأبيات ١٧٩ ــــ ١٨١).

([4])   الطَّبَرِيُّ: هو مُحَمَّدُ بنُ جَريرِ بنِ يَزِيدَ أبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، مُفَسِّرٌ، وَمُحَدِّثٌ، ومُؤرِّخٌ، وفَقِيهٌ، وأُصُولِيٌّ، إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ. وُلِدَ بآمل طبرستانَ سنة (٢٢٤هـ) وتوفي سنة (٣١٠هـ)، مِنْ تصانيفه: «تاريخُ الأُمَمِ والمُلُوكِ» و«جَامِعُ البَيَانِ في تَأْويلِ آي القُرْآنِ». قال الإمامُ الذّهبيُّ: «كانَ ثِـقَـةً حافظاً، رأساً في التّفسيرِ إماماً في الفقهِ والإجماعِ والاختلافِ، علَّامةً في التّاريخِ وأيّامِ النَّاسِ، عارفاً بالقراءاتِ وغيرِ ذلكَ» اهـ «سير أعلام النبلاء» (١٤/٢٧٠).