إنَّ مِن أَعظمِ أكاذيبِ التَّاريخِ زَعْمَ الزَّاعمينَ أنَّ أصحَابَ رَسُولِ  الله كانوا يُضمرونَ العَدَاوةَ لبعضِهم بعضاً!! وزَعْمُهم هذا بَاطلٌ، وبَعيدٌ كُلَّ البُعدِ عمّـا يُفصِحُ به قَولُ  الله تعالىٰ لهم وعنهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ... ١١٠﴾  [آل  عِمْرَانَ: ١١٠]، وقولُ رَسُولِهِ:«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي»([1]).

  وإنَّ مِن غُرْبَةِ الإسلامِ بعدَ القرونِ الثلاثةِ المفضَّلةِ: أنْ ظهرَ كُتَّابٌ شَوَّهُوا التَّاريخَ وحرَّفُوهُ، وخَالفوا الحقَّ وعَادَوْهُ، فزعَموا أنَّ أصحَابَ رَسُولِ  الله لَـمْ يكونوا إِخْوَاناً في  الله تعالىٰ، ولَـمْ يكونوا رُحَـمَـاءَ بينَهم، وإنمـا كانوا أعداءً يَلْعَنُ بعضُهم بعضاً، ويَمكُرُ بعضُهم ببعضٍ، ويُنافِقُ بعضُهم بعضاً، ويَتآمَرُ بعضُهم علىٰ بعضٍ؛ بغياً وعُدْوَاناً واتّباعاً للدنيا والهوىٰ. ولَعمْر  الله: كذَبُوا وجاؤوا بإفْكٍ عَظيمٍ، وبُهتانٍ مُبينٍ.

  لقد كانَ أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمَـانُ، وعَلِيٌّ، وطَلْحَةُ، والزُّبَـيْـرُ، وأبو عُبَيْدَةَ، وعَائِشَةُ، وفَاطِمَةُ، وغيرُهم مِنَ السَّابقينَ، والصَّحَابَةِ الميامينَ؛ أَنْـبَلَ وأطهرَ مَنْ أنْ يقعَ منهم شيءٌ مِن ذلك، وكان بنو هَاشمٍ وبنو أُمَيَّةَ أَوْفَىٰ مِن ذلك لإسلامِهمـا وقرابتِهمـا، وأوْثَقَ صِلَةً وأعظمَ تعاوناً علىٰ الخيرِ، وهم مَنْ فُتِحَتْ أَقطارُ الأرضِ علىٰ أيديهم، ودخلتِ الأُمَمُ بسعيهم ودَعوتِهم في دينِ  الله أفواجاً، وكذا سائر قريش فما منهم مِن أحدٍ إلَّا ويتَّصلُ ببني هَاشمٍ بالخؤولةِ، أَوِ الرَّحِمِ، أوِ المُصَاهَرَةِ.

  واعلمْ أخي القارئ أنَّ الأخبارَ الصحيحةَ التي يرويها أهلُ الصِّدْقِ والعَدَالةِ؛ هي التي تُثْبِتُ أنَّ أصحَابَ رَسُولِ  الله كانوا كلُّهم مِن خِيرةِ مَنْ عَرفتِ الإنسانيةُ بعدَ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السلام.

  وأنَّ الأخبارَ التي تُشَوِّهُ سِيرَةَ الصَّحَابَةِ، وتُوهِمُ أنهم كانوا صِغَارَ النفوسِ؛ هي التي رَواها الكَذَبَةُ الوضّاعونَ.

  إنَّ تاريخَ المُسْلِمينَ يحتاج إلىٰ كتابةٍ جديدةٍ، وذلك بِأخْذِهِ مِن يَنابيعهِ الصَّافيةِ لا سيمـا في المواطنِ التي شَوَّهَها أهلُ الذِّمَمِ الخَرِبَةِ مِن مُلَفِّقي الأخبارِ، علمًـا بأنَّ أُمّتَنا الإسلاميةَ هي أَغنَىٰ الأُمَمِ بمـادّةِ تاريخِها الذي حَفِظَتْهُ بالأسانيدِ الثَّابتةِ.

  ولقد تَداركَ سَلفُنُا الصَّالحُ مِنَ المؤرخينَ الأخبارَ قَبْلَ ضياعِها، فجمعوا كُلَّ ما وَصَلَتْ إليه أيديهم مِنْ غَثٍّ وسَمينٍ، مُنبِّهينَ علىٰ مصادرِ الأخبارِ وأسمـاءِ رواتِها؛ ليكونَ القارئُ علىٰ بَـيِّـنَـةٍ مِن صَحيحِها وسقيمِها.

  والآنَ يأتي دَورُنا ــــ نحنُ الخلفُ ــــ كي نسيرَ علىٰ خُطَىٰ سلفِنا الصَّالحِ، ونُصَفِّيَ هذه الكُتُبَ، بتَمييزِ صحيحِها مِن سَقيمِها، وسَمينِها مِن غَثِّها، فنكون بذلك خيرَ خَلفٍ لخيرِ سَلَفٍ، وحتىٰ يعلمَ الجميعُ أنَّ صحائفَ أصحابِ مُحَمَّدٍ كانت كقُلوبِهم نقاءً وسلامةً وطُهراً.

  لقد بَاتَتِ الأُمَّـةُ الإسلاميةُ محرومةً مِن أَغْزَرِ يَنابيعِ قُوَّتِها، ألا وهو الإيمـانُ بِعَظَمَةِ مَاضِيها، في حينِ أنها سَليلةُ سَلَفٍ لَـمْ يَـرَ التَّاريخُ سِيرةً أطهرَ ولا أبهرَ ولا أزهرَ من سيرتهِ.

  ومَنْ أرادَ أنْ يَكْتُبَ في التَّاريخِ؛ فعليه أنْ يكونَ سَليمَ الطَّويةِ لأهلِ الحقِّ والخيرِ، عارفاً بِهم، ولما لَهم مِنَ الحقِّ والمكانةِ، بَارعاً في التّمييزِ بينَ حـملةِ الأخبارِ، وتمييز الصَّحيحِ مِنَ السَّقيمِ أميناً صادقاً مُتحرّياً للحقِّ.

 

([1])    أخرجه البخاري (٣٦٥١).