إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ بِاللهِ مِن شُرورِ أَنفُسِنَا، ومِن سَيِّئَاتِ أعمَالِنَا، مَنْ يَهدِهِ  اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَن يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشهَدُ أنْ لَا إِلـٰــهَ إِلَّا  اللهُ وَحدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه ورَسُولُه.

  أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ أَصدقَ الحَديثِ كِتابُ  الله  ، وخَيْرَ الهَديِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأُمورِ مُحدثَاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.

  ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: فإنّي كنتُ أقدِّمُ رِجْلاً وأُؤَخِّرُ أخرَىٰ بَعْدَما خطرَ في بالي أنْ أَكتُبَ في هذا الموضوعِ؛ وذلكَ لكثْرَةِ مَن خاضَ فيهِ قَديماً وحَديثاً، سَواءٌ بِالحَقِّ أمِ الباطِلِ ـــ وهو الغالِبُ ــ، ولا شكَّ أنّه مِنَ الموضوعاتِ الحَيَّةِ.

  إنَّ كِتابَةَ تَاريخِ هذهِ الْحِقْبَةِ وما وَقَعَ فِيها مِنْ أَحْداثٍ، ودِراسَتَها على ضَوءِ الثَّابِتِ مِنَ الأخْبَارِ لَمَنِ المَوضوعاتِ الْجَديرَةِ بِالتَّصْنيفِ، وإنْ كانَ مَضَى عَلَيْها وَقْتٌ طَويلٌ؛ لكنَّها حيةٌ في نفوسِنا وماضينا وحاضِرِنا ومُسْتَقْبَلِنا، وإكباراً وإجلالاً لذلك الجيلِ النَّبَويِّ الفريدِ، وتلكَ الكَوكبةِ العظيمةِ مِنَ الْمصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، أصحابِ رَسُولِ  الله ورضي الله عنهم.

  ولمّا كانتْ كَلِمةُ الحَقِّ نُوراً يُهْتَدَىٰ بهِ، ولِمَا لذلك الجيلِ المُباركِ مِن مَكانَةٍ وفَضْلٍ علينَا؛ كان لِزَاماً أنْ نُؤَدِّيَ بعضَ ما لَهم علينا مِن حُقُوقٍ، فشأنُهم ليسَ كشأْنِ غيرِهم، وعِلْمُهم وعَمَلُهم لَم يُسبقوا إليهما، ولَنْ يُلحقُوا فيهما؛ فبهؤلاءِ أَعَزَّ  اللهُ الدِّينَ وأَظْهرَهُ.

  ونحنُ وإِنْ كُنَّا نَلْهَجُ بفضَائلِ أَصحابِ رَسُولِ  الله؛ إِلَّا أننا لا ندَّعِي لَهمُ العِصْمَةَ، فمـا جعلَ  اللهُ   العِصْمَةَ إِلَّا لأَنبيائهِ وملائكتهِ  عليهم السلام.

  نَعَمْ، لقد أخطأَ بَعضُ الصّحابةِ في حَياةِ النَّبِيِّ وبعدَ وفاتِهِ؛ لأنهم بشرٌ، وغير معصومينَ مثلهم مثل باقي البشرِ، لكنّ ما تَحمَّلُوهُ مِنَ الأَذَىٰ، والقَهْرِ، والتَّنكيلِ في سَبيلِ الإيمانِ باللهِ ورَسُولِهِ والدَّعوةِ إلىٰ الدِّينِ القويمِ ومِلَّةِ إبراهيمَ، وما بَذَلُوهُ مِنْ هجرِ الأهلِ والأَوطَانِ، وجِهَادِهم المُشْركينَ وَالكُفَّارَ بأموالِهم وأنفسِهم في سَبيلِ  الله ، وذَبِّهم عن رَسُولِ  الله بِكُلِّ ما يملكونَ؛ إنَّ أحْوالَهُمْ هذه تجعلُ هذه الأخطاءَ في جَانبِ هذه الحَسَنَاتِ العظيمةِ والأعمالِ الصَّالحةِ كَحبَّاتِ رَملٍ في جِبَالٍ، وقَطَراتِ مَاءٍ في عُبابٍ([1]).

  ولا شَكَّ أنَّ أمرَ التَّاريخِ مهمٌ جدّاً في حَياةِ الأُمَمِ والشُّعوبِ، فهو يُشكِّلُ عِمَادَ وجودِها، ويُحدِّدُ لها منهجَها، وحاضرَها، ومُستقبَلها، وما مِن أُمَّةٍ تسعَىٰ إلىٰ الرِّيَادَةِ والسُّؤدُدِ إلَّا وقد وجبَ عليها إِحْكَامُ الصِّلَةِ بينها وبين ماضيها، لِتستمِدَّ منه القُوَّةَ ومقوماتِ بناءِ حاضرِها واستشرافِ مُستقبلِها.

  وأُمَّةٌ مثل أُمَّةِ الإسلامِ أَوْلَىٰ مِن غيرِها بذلك، لِمَا يحملُهُ تاريخُها مِن أمجادٍ وبطولاتٍ وانتصاراتٍ وإنجازاتٍ علميّةٍ وحضاريّةٍ يَصغرُ عندَهُ تاريخُ أيِّ أُمَّةٍ منَ الأُمَمِ الأُخرَىٰ، ولكن في ظِلِّ ضَعْفِ أُمَّتِنَا في وقتِها الحاضرِ بمـا كسبتْ أيدي أبنائِها؛ سَلَّطَ  اللهُ علينَا وَرَثَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ الْعَليِّ الْعَظِيمِ.

مَنْ يَـهُـنْ يَسْهُلِ الـهَـوانُ عَلَـيـهِ

مــا لِـجُــرحٍ بِـمَـيِّـتٍ إِيـلامُ([2])

  أقولُ: فإنْ أَرَدْنا الخُروجَ مِنْ هذا الضّعْفِ والذُّلِّ إلى القُوَّةِ والعِزَّةِ؛ فلا بدَّ منَ العودةِ إلى الله أولاً ثم لتاريخِ أُمَّتِنَا المجيدِ المُشْرقِ؛ كي يسْهلَ علينا تَأمُّلُ ذاتِنَا، والإبصارُ مِن حولَنا، وتلمّسُ الخُطىٰ لمستقبلِنا، وهذا لا يَتِمُّ إلَّا برُجُوعِنَا وتدبُّرِنا لتاريخِنا الصَّحيحِ، ولا شيءَ غير الصَّحيحِ.

  ولو أمْعَنَّا النَّظَرَ في تاريخِنا؛ لوجدنا أنَّ أنصعَ الحُقُبِ بياضاً هي الحِقْبَةُ([3]) التي عاشَها رَسُولُ  الله وأَصحابُهُ، ذلك الجيلُ الذي حملَ علىٰ عَاتقِهِ نشرَ رِسَالةِ الإسلامِ، فهم صَفوةُ خَلْقِ  الله بعدَ الأنبياءِ والمُرسلينَ  عليهم السلام.

  وقدِ اعتَرَىٰ تاريخَ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ كثيرٌ مِنَ التَّشْوِيهِ والدَّسِّ والتَّحْرِيفِ، بِسَببِ الفِرَقِ التي ظَهرتْ في حَاضرةِ الإسلامِ؛ إذْ حاوَلَتْ كلُّ فِرْقَةٍ أنْ تَضَعَ مِن شَأْنِ الأُخرَىٰ، وتَرفعَ مِن شَأْنِ ذاتِها، وبذا حدثَتْ ثَغَراتٌ في تَاريخِ العُظماءِ من أمَّتِنَا.

  فظهر في الأُمَّةِ مَنْ تَعَدَّىٰ الحدَّ الشَّرْعِيَّ في مَحَبَّةِ الأشخاصِ، أَعْني بِذلِكَ تِلْكَ الْفِرْقَةَ التي أَحَبَّتْ الصَّحابِيَّ الجليلَ عَلِيَّ بنَ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه حُبّاً أَفْسَدَ عليهِا أمرَها كُلَّهُ فنسبَتْ إليهِ ما لا يُقْبَلُ مِنَ الحوادثِ والأخبارِ، وفي الوقتِ ذاتِهِ حاولت أنْ تضعَ من شَأْنِ غيرِهِ مِنْ أَصْحابِ النَّبي ﷺ، وعَدَّ الآخرينَ مُعتدينَ علىٰ حَقِّهِ، ظالمينَ له ولأنفسِهم، بل زادَهم الغُلُوُّ في مَحَبَّةِ عَلِيٍّ حتَّىٰ تَعَدَّاهُ إلىٰ بعضِ أولادهِ وأَحفَادِهِ، وهُمْ أَحَدَ عَشَرَ نَفْساً، فَزَعَمَتْ أنّهم أئِمَّةٌ منصوصٌ عليهم، وأنّهم معصومون، مُشَبِّهين لهم بالأنبياء، عليهم السلام بَلْ جَعَلوهم فَوْقَ الأَنْبِياءِ!([4]).

  وهذا عَلِيٌّ  رضي الله عنه يقولُ: «لَيُحِبُّنِي قَومٌ حتَّىٰ يَدخلوا النَّارَ فيَّ، ولَيَبغضُنِي قَومٌ حتَّىٰ يَدخلوا النَّارَ في بُغْضِي»([5])، وقال أيضاً  رضي الله عنه: «يِهْلِكُ فيَّ رَجُلانِ: مُفرِطٌ في حُبِّي، ومُفرِطٌ في بُغْضِي»([6]).

  وهذه المزَاعمُ وصُوَرُ الغُلُوِّ المنحرفةُ المُنَظَّمَةُ إنما وُجِدَتْ بعدَ مُنتَصَفِ القرنِ الثّالثِ الهجريِّ علىٰ الصَّحيحِ، وإنْ كانَ ابْنُ سَبَأ الْيَهوديُ الذي ادَّعى الإسْلامَ كانَ قَدْ وَضَعَ لَبِنَاتِ هذا الْفِكْرِ المُنْحَرِفِ في الْقَرْنِ الأوّلِ الْهِجْريِّ.

  ومما يؤكِّدُ هذه الحقيقةَ: أننا لا نَجِدُ في الرواياتِ الصَّحيحةِ المتعلقةِ بتاريخِ وأحوالِ الصَّحابةِ ما يَدُلُّ علىٰ وجودِ الكراهيةِ المزعومةِ بين عَلِيٍّ وغيرِهِ من كبارِ الصَّحابةِ، بل وجدنا ما يَدُلُّ علىٰ عَظيمِ مَحبَّتِهم لبعضِهم بعضاً، وصُوراً مُشرقةً مِنَ الإيثارِ والإخاءِ والمَودَّةِ والنُّصحِ والمُصَاهَرَةِ الشَّيْءَ الكثيرَ، الذي يقطعُ معه المُنصِفُ الباحثُ عَنِ الحَقِّ؛ بكذبِ ما يُرَوَّجُ من أباطيلِ العَداوةِ والشَّحناءِ والتَّباغضِ.

من صور المحبة المشرقة بين آل البيت والصحابة:

  •   الخُلفاءُ الرَّاشِدونَ الثَّلاثَةُ: أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، يَحثُّونَ عَلِيّاً علىٰ الزَّواجِ مِن فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسولِ اللهِ ﷺ، ويُسْهمونَ في جِهازهِ والشَّهادةِ عليه:

  قال عَلِيٌّ  رضي الله عنه: «أتاني أبو بَكْرٍ وعُمَرُ، فَقَالا: لوْ أَتَيْتَ رَسُولَ  الله فَذَكَرتَ له فَاطِمَةَ»([7]).

  وقال أيضاً  رضي الله عنه: قال لي رَسُولُ  الله: «انطلقِ الآنَ فَبِـــعْ دِرْعَكَ وائتِني بِثَمنهِ حتَّىٰ أهيئَ (لكَ) ولابنتي (فَاطِمَةَ) ما يُصْلِحُكُمَا» قال عَلِيٌّ: فانطلقتُ وبِعْتُهُ بأربعمئةِ دِرْهَمٍ سُودٍ هجريِّة مِنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ. فَلمَّـا قَبضتُ الدَّرَاهِمَ منه وقبضَ الدِّرْعَ مني، قال [عثمانُ]: ألستُ أَوْلَىٰ بالدِّرْعِ منكَ، وأنتَ أولىٰ بالدَّرَاهِمِ مني؟ فقلتُ: بَلَىٰ. قال [عثمانُ]: فإنَّ الدِّرْعَ هَدِيَّةٌ مني إليكَ.

  فأخذتُ الدِّرْعَ والدَّرَاهِمَ وأقبلتُ إلىٰ رَسُولِ  الله، فَطَرَحتُ الدِّرْعَ والدَّرَاهِمَ بين يَديْهِ وأخبرتُهُ بما كانَ من أَمْرِ عُثْمَانَ، فدعَا له بخيرٍ، وقبضَ رَسُولُ  الله قبضةً مِنَ الدَّرَاهِمِ، ودَعَا بأبي بَكْرٍ فدفعَها إليه، وقال: «يا  أبا  بَكْر، اشْتَرِ بهذه الدَّرَاهِمِ لابنتي ما يُصْلحُ لها في بيتِها»([8]).

  قال أنَسٌ  رضي الله عنه: قال لي النبيُّ: «انطلقْ فادعُ لي أبا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، وعَلِيّاً، وطَلْحَةَ، والزُّبَيْرَ، وبعدَدِهم مِنَ الأنصارِ». قال: فانطلقتُ فدعَوْتُهم له، فَلمَّـا أخذوا مَجالِسَهُم، قال: «.. إنِّي أُشهِدُكُمْ أنّي قد زَوَّجْتُ فَاطِمَةَ مِن عَلِيٍّ علىٰ أربعمئةِ مِثقالٍ مِن فِضَّةٍ»([9]).

  •   عَلِيٌّ  رضي الله عنه يُزَوِّجُ ابنتَهُ أُمَّ كُلثومٍ بنتَ فَاطِمَةَ مِنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ  رضي الله عنهم جميعاً([10]).
  •   عَلِيٌّ  رضي الله عنه يُسَمِّي أولادَهُ بأسماءِ إخوانه وأَحبَّتهِ في  الله تعالىٰ: مِنَ الصَّحابَةِ: أبي  بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ([11]). ولِعَليٍّ من الوَلَد: أبو بكر، وعُمَرُ، وعثمانُ، وأما أبو بكر، وعثمانُ فقد قُتلا مع أخيهم الحُسينِ في «الطَّفِّ» رضي الله عنهم أَجْمَعينَ، وعُمرُ مِنَ المعمّرينَ([12]).

  ويُثْنِي عليهم  رضي الله عنهم جميعاً:

  قال عَلِيٌّ  رضي الله عنه: «لقد رأيتُ أصحابَ رسولِ  الله فما أرىٰ أحداً منكم يُشْبهُهُم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سُجّداً وقياماً، يُراوحون بين جِبَاههم وجنوبهِم، ويقفون علىٰ مثل الجمرِ مِن ذكرِ معادِهم كأنّ بين أعينهِم ركب المعزىٰ من طولِ سُجُودِهم، إذا ذكروا  الله هَمَلتْ أعينُهم، وَمَادُوا كما يميدُ الشَّجَرُ يومَ الريِح العاصفِ»([13]).

دعوىٰ عداوة بين بني هاشم وبني أمية

عبد مناف هاشم عبد شمس (والد أمية) المطلب نوفل إخوة أشقاء أخ لأب.

  قَالَ الإمَامُ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ: «فَكَانوا أولَّ مَنْ أَخَذَ لِقُريشٍ العصم، فَانْتَشَروا في الحرَمِ، أَخَذَ لهُمْ هاشِمٌ حَبْلاً ــــ أي: عَهْداً ــــ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ، وَأخَذَ لَهُمْ عَبْدُ شَمْسٍ حَبْلاً مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأكْبَرِ...، وَأكَمَلَ أخَواهُما نَوْفَلُ وَالمُطَّلِبُ الْعَمَل، فأخَذَا عَهْدَيْنِ مِنَ الْأَكَاسِرَةِ مُلُوكِ حِمْيَر، فَجَبَرَ  اللهُ بِهِمِ قُرَيْشاً فَسُمّوا المُجبرينَ، بَلْ كَانَ الْإخْوةُ الأرْبَعَةُ حُلَفَاءَ عَلىٰ مَنْ عاداهُم([14]).

  قالَ ابْنُ سَعْدٍ: «إنَّ هاشِماً وَعَبْدَ  شَمْسٍ والمطلب ونَوْفَلَ بِني عَبْدِ مَنَافٍ أجْمعوا أنْ يأخُذوا بِأيْدي بَني عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَي»([15]).

  والمشْهورُ أنَّ هاشِماً وَالمُطَّلِبَ كانا يُلَقَّبانِ البَدْرَانِ، وَعَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً كانا يُلَقَّبانِ الأَبْهرانِ، وَلَكِنْ هذا لا يَعْنِي وجودَ عَداواتٍ، فَما كانَتِ العَدَاوَةُ قَدِيمَةً ولا دَمَوِيَّةً، بَلْ لا وجودَ لها، واسْتَمَرَّ هذا الأَمْرُ بَعْدَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ  ﷺ وإلىٰ يوْمِنا هذا.

  فإذا كانَ النَّبيُّ قَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّكْذيبِ مِنْ بَعْضِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أمثال: عُتْبَةَ وشَيْبَةَ ابْني رَبيعَةَ، والوَليدَ بْنَ عُتْبَةَ، وأبي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ، وعُقْبَةَ ابْنِ أبي مُعَيْطٍ، وأمِ جَميلٍ زَوْجَةِ أبي لَهَبٍ؛ فَقَدْ تَعَرَّضَ كَذلكَ لِأَذَىٰ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، مِنْ أمْثالِ: عَمِّهِ أبي لَهَبٍ، وَعَقيلِ بْنِ أبي طالِبٍ، ونَوْفَلَ بْنِ الحارِثِ، وعُتْبَةَ وعُتَيْبَةَ ابْنَيْ أبي لَهَبٍ، وأبي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ ابْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمِنْ غَيرِهِمْ كأبي جَهْلٍ، وأُمَيَّةَ وأُبي ابني خَلَفٍ، والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وغَيْرِهِمْ كَثِير.

  وكَما تابَعَ النَّبِيَّ كثيرٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، أمْثَال: حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ  المُطَّلِبِ، وعَلِيٍ وجَعْفَرَ وَأُمِّ هَانئٍ أولادِ أَبي طَالِبٍ؛ فَقَدْ تَابَعَهُ كَذلِكَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ كُثُرٌ مِنْ أَمْثَالِ: عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعاصِ، وأَبي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، وأَبي الْعاصِ بْنِ الرَّبيعِ، وأُمِّ كُلْثومَ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أبي مُعَيط، وَكَانَ أبو سُفْيانَ صَدِيقاً مُقَرَّباً جِدّاً مِنَ الْعَبَّاسِ.

  وإني كمـا ذكرتُ في أوّلِ الكتابِ كنتُ أقدِّمُ رِجْلاً وأؤخرُ أخرَىٰ، حتَّىٰ رأيتُ أنَّ مِنَ المصلحةِ أنْ أكتبَ في هذا الموضوعِ بمـا يسَّر  اللهُ تعالىٰ لـي، وذلكَ بعد استشارةِ مَنْ أَثِقُ به مِن أهلِ العلمِ فمـا كانَ في هذا الكتابِ من حقٍّ فمِنَ  الله تعالىٰ، وإن كانَ فيه غير ذلك فمِنْ نفسي والشيطانِ.

  وسأتناولُ في هذا الكتابِ فترةً زمنيّةً مِن أَهَمِّ الفتراتِ في تاريخِنا الطويلِ، وهي ما بين وفاةِ الرَّسُولِ إلىٰ سنةِ إحدىٰ وستينَ مِنَ الهجرةِ النبويةِ المباركةِ.

  وقد قسَّمتُ الكِتَابَ إلىٰ مقدمةٍ، وثلاثةِ أبوابٍ.

  أما المقدمةُ: فذكرتُ فيها ثلاثةَ مقاصدَ مهمةٍ بَيْنَ يَدَيِ التَّاريخِ:

  المقصدُ الأوّلُ: كَيْفَ نَقْرَأُ التّاريخ.

  المقصد الثاني: لمَنْ نقرأُ مِنَ المُؤرّخِينَ؟

  المقصد الثالث: وسائلُ الإخباريينَ في تشويهِ التَّاريخِ.

  وأما البابُ الأوّلُ: فسَردتُ فيه الأحداثَ التَاريخيةَ مِن وفاةِ النَّبِيِّ إلىٰ سنةِ إحدىٰ وستينَ مِنَ الهجرةِ النبويّةِ، مُعْتَمِداً في ذَلِكَ على الأَسانيدِ، مع التنبيهِ علىٰ الأخْبارِ والقصَصِ المزوّرةِ والأباطيلِ.

  أما الباب الثاني: فتناولتُ فيه موضوعَ عَدَالةِ الصَّحَابَةِ، مستدلّاً بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، مع ذكرِ أهمِّ الشُّبهاتِ التي أُثيرتْ حولَهم وبيانِ الحقِّ في ذلك.

  وأما الباب الثالث: فتناولتُ فيه قضيةَ الخِلَافَةِ.

  فذكرتُ أدلّةَ الشيعةِ بالتفصيِل علىٰ أحقيّةِ عَلِيِّ بنِ أبي طَالبٍ بالخلافةِ مِنْ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، وناقشتُها نِقَاشاً عِلْمِيّاً دَقِيقاً قد لا  تجدُهُ في غيرِ هذا الكِتَابِ، ولا أقولُ هذا من بابِ الإعجابِ بلْ من بابِ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ١١﴾ .

  هذا؛ وأسألُ  اللهَ العَليَّ القديرَ أنْ يجعلَ هذا العملَ خَالِصاً لوجههِ الكريمِ، إنَّه وَلِـيُّ ذلك والقادرُ عليه، وآخرُ دعوانا أَنِ الحمدُ لله ربِّ العالمينَ.

وكتبه
 عثمان بن محمد الخميس

غفر  الله له ولوالديه وللمسلمين

مَقَاصِدُ مُهِمَّةٌ بَيْنَ يَدَيِّ الكِتَاب

  المَقْصِدُ الأَوَّلُ: كَيْفَ نَقْرَأُ التَّارِيخَ؟

  المَقْصِدُ الثَّانِي: لِمَنْ نَقْرَأ مِنَ المُؤرّخِينَ

  المَقْصِدُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ المُؤرّخينَ الإِخبارِيِّينَ فِي تَشْويهِ التَّاريخِ

بالله يا قارئاً كتبي وَسَامِعَهَا

   أسبل عَليهَا رِداءِ الحُكم والكرَمِ

واستُر بلطفكَ ما تلقَاهُ من خطأ

أو أصَلِحَنْه تُثَبْ إِن كُنتَ ذَا فهَمِ

فكم جَوَادٍ كبَا وَالسَّبقُ عَادَتُه

         وَكم حُسامٍ نَبَا أَو عَادَ ذُو ثَلَمِ

وَكلُّنَا يَا أَخي خَطَّاءُ ذُو زَلَلٍ

والعُذرُ يقبَلْهُ ذُو الفَضل والشّيمِ

«موارد الظمآن (١/١٧)»

 

([1])    الماء العُبَاب: أي: الكثير أو المُتَدَفق.

([2])   «ديوان أبي الطّيّبِ المُتَنَبّي».

([3])   الحُقُبُ أو الحُقْبُ: المُدَّةُ الطويلةُ مِنَ الدَّهرِ. والحِقْبَةُ: المُدَّةُ لا وقتَ لها، أو السَّنَةُ. انظر: «لسان العرب» لابن منظور (٣/٢٥٣) مادة (حقب).

([4])   بل وجدنا في «بحار الأنوار» للمجلسي (ج ٢٣ ــــ ٢٧) وغيره من كتب الشيعة من صُورِ الغُلُوِّ ما هو أكثر من ذلك.

([5])   أخرجهُ ابنُ أبي عَاصِمٍ في «السُّنَّةِ» (٩٨٣)، وقال العَلَّامةُ ناصرُ الدينِ الألبانِيُّ: «إسنادُه صَحيحٌ علىٰ شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ». وانظر: «نهج البلاغة» (٤٦٩) ٤/١٠٨، و«مناقب الإمام أمير المؤمنين» (محمد بن سليمان الكوفي) (٢/٢٨٣)، و«الأمالي» للطوسي (ص ٢٥٦).

([6])   المصدر السابق: برقم (٩٨٤)، وقال العَلَّامةُ الألبانِيُّ: «إسنادُه حَسَنٌ».

([7])   «أمالي الطُّوسيّ» (ص٣٩)، «بحار الأنوارِ» (٤٣/٩٣)، وهي مصادر شيعية.

([8])   «كشف الغمة» (١/٣٦٩)، «بحار الأنوارِ» (٤٣/١٣٠)، وهي مصادر شيعية.

([9])   «كشف الغمة» (١/٣٥٨)، «بحار الأنوارِ» (٤٣/١١٩).

([10]) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٦/١٦٣)، والبيهقي في «السنن الكبرىٰ» (٧/٦٣).
وانظر: «فروع الكافي» (٥/٣٤٦)، (٦/١٢١)، وهو مصدر شيعي.

([11]) انظر: كتب الأنساب كـ «عمدة الطالب» لابن عنبة، و«الأنساب» للسمعاني.

([12]) «نهج البلاغة» الشيعي خطبة رقم (٩٧)، وكتاب «نهج البلاغة» وإن كنا لا نعتقدُ صحّةَ نسبته إلىٰ عليٍّ  رضي الله عنه إلا أن هذا من إلزام الشيعة بما في كتبهم.
أما كتبُ أهلِ السنةِ؛ فهي مليئةٌ من ذكرِ ثناءِ عليٍّ علىٰ أصــحــابِ رسُولِ  اللهِ خاصةً الشيخينِ، وانظر مثالاً علىٰ ذلك: ما ذكره عليٌ عن أبي بكرٍ وعمرَ في ترجمتيهما في كتب أهل السنة.

([13]) «بحار الأنوار» (٤٢/٧٤)، «الشجرة الزكية في الأنساب» (٤١٣).

([14]) «تاريخ الطبري» (٢/٢٥٢).

([15]) «الطبقات الكبرىٰ» (١/٧٧).