وفيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد، فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل قومي عليَّ فأكرمهم، فإني حديث الجرح فيهم. أي أنه قبل أن يسلم عدا علىٰ بعض قومه فقتلهم، ثم أقبل بأموالهم إلىٰ النبي ﷺ وأسلم، فقال النبي ﷺ: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء».

فقال رسول الله ﷺ: «لا أمنعك أن تكرم قومك، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن».

ثم أمره بعد أن أكرمهم أن ينزل وفد ثقيف في المسجد، وبنىٰ لهم خياماً لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، وكان رسول الله ﷺ إذا خطب لا يذكر نفسه([1])، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه قولهم قال: «فإني أول من شهد أني رسول الله».

وكانوا يغدون إلىٰ رسول الله ﷺ كل يوم، ويُخلّفون عثمان بن أبي العاص علىٰ رحالهم لأنه صغير، فكان عثمان إذا رجع القوم في الهاجرة([2]) وناموا، ذهب إلىٰ رسولَ الله ﷺ فسأله عن الدين وسمع منه القرآن، فاختلف إليه مراراً حتىٰ فقُه في الدين والعلم، وكان إذا وجد رسول الله نائماً ذهب إلىٰ أبي بكر، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله ﷺ وأحبه.

فمكث الوفد يختلفون إلىٰ رسول الله ﷺ وهو يدعوهم إلىٰ الإسلام ويبين لهم مزاياه، فأسلموا.

فقال كنانة بن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا([3]) حتىٰ نرجع إلىٰ قومنا؟ قال: «نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم».

قال كنانة: أرأيت الزنا؟ فإنّا قوم نغترب فلا بد لنا منه. فقال ﷺ: «هو عليكم حرام، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا ٱلزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلًا﴾  [الإسرَاء: 32]».

قالوا: أفرأيت الربا؟ فإن أموالنا كلها ربا. قال ﷺ: «لكم رؤوس أموالكم، فإن الله يقول: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾  [البَقَرَة: 278]».

قالوا: أفرأيت الخمر؟ فإنه عصير أرضنا لابد لنا منها. قال: «إن الله قد حرمها فقرأ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البَقَرَة: 278]

فقام القوم عن رسول الله ﷺ وخلا بعضهم ببعض، قالوا: ويحكم، إنّا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه عما سألناه. فأتوْا رسول الله ﷺ فقالوا: نعم لك ما سألت. أرأيت الرّبّة([4]) ما نصنع فيها؟ قال: «اهدموها». قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها([5]).

فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أجهلك إنما الرّبّة حجر، فقالوا: إنّا لم نأتك يا ابن الخطاب. وقالوا لرسول الله ﷺ: تولّ أنت هدمها، فأمّا نحن فإنّا لا نهدمها أبداً. فقال ﷺ: «سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها». فكاتبوه علىٰ هذا، فقال كنانة: ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في آثارنا، إنّا أعلم بقومنا. فأذن لهم رسول الله ﷺ وأكرمهم وحباهم وقالوا: يا رسول الله، أمِّر علينا رجلاً يؤمنا من قومنا، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأىٰ من حرصه علىٰ الإسلام.

فلما خرجوا من عند رسول الله ﷺ قال كنانة: أنا أعلم الناس بثقيف، فاكتموهم القضية، وخوّفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أموراً أبيناها عليه. سألنا أن نهدم اللات والعزىٰ، وأن نحرم الخمر، والزنا، وأن نبطل أموالنا في الربا.

فخرجت ثقيف وحين دنا منهم الوفد يتلقونهم، ساروا العَنَق([6])، وقَطَروا الإبل، وتغشوْا ثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا.

فقال بعضهم لبعض: ما جاء وفدكم بخير ولا رجعوا به فترجل الوفد([7])، وذهبوا إلىٰ اللات([8]) ونزلوا عندها، فقال ناس من ثقيف: إنهم لا عهد لهم برؤيتها. ثم رجع كل رجل منهم إلىٰ أهله، وجاء منهم خاصته من ثقيف. فسألوهم: ماذا جئتم به؟ وماذا رجعتم به؟ قالوا: أتينا رجلاً فظاً غليظاً يأخذ من أمره ما يشاء، قد ظهر بالسيف، وداخله العرب، ودان له الناس، فعرض علينا أموراً شداداً: هدم اللات والعزىٰ، وترك الأموال في الربا إلا رؤوس أموالكم، وحرّم الخمر والزنا. فقالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبداً. فقال الوفد: أصلحوا السلاح إذاً وتهيؤوا للقتال، وتعبؤوا له، ورُمّوا حصنكم([9]).

فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يتجهزون للقتال، ثم ألقىٰ الله عز وجل في قلوبهم الرعب، وقالوا: والله ما لنا به طاقة، وقد داخله العرب كلهم فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل. فلما رأىٰ الوفد أنهم رغبوا واختاروا الأمان علىٰ الخوف والحرب، قال الوفد: فإنّا قد قاضيناه وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقىٰ الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله.

فقالت ثقيف: فلمَ كتمتمونا هذا الحديث، وغممتمونا أشد الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانكم، فأسلموا. ثم مكثوا أياماً، ثم قدم عليهم رسل رسول الله ﷺ، قد أمّر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة.

فلما قدموا عمدوا إلىٰ اللات ليهدموها واستكفّت([10]) ثقيف كلها ــ الرجال والنساء والصبيان ــ واجتمعوا لينظروا كيف ستفعل اللات بمن أراد هدمها؟ حتىٰ خرج العواتق من الحِجال، لا ترىٰ عامة ثقيف أنها مهدومة يظنون أنها ممتنعة.

فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين([11]) وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف. فقام وضرب بالفأس، ثم سقط يركض كأنه أصيب بسبب ضربه للصنم، فصاح أهل الطائف كلهم ضجة واحدة فقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الرَّبَّة. وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا: من شاء منكم فليقرب منها، وليجتهد علىٰ هدمها، فوالله لا تُستَطع. عندها قام المغيرة وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هي لكاع، حجارة ومَدَر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتىٰ ساووها بالأرض. فكان صاحب المفتاح يقول: ليغضبنّ عليكم الأساس، وليخسفنّ بكم، فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفروا حتىٰ أخرجوا ترابها، فبُهِتت ثقيف، وقالت عجوز منهم: أسلمها الربّاع، وتركوا المِصاع([12]).

ثم أقبل الوفد علىٰ رسول الله ﷺ وأعطوْه الكسوة والحلية والذهب الذي وجدوه عند هذا الصنم، فحمد رسول الله ﷺ الله عز وجل علىٰ نصره وإعزاز دينه([13]).

 

([1])             أي يحمد الله فقط.

([2])            أي عند الظهيرة.

([3])            أن يكون بيننا وبينك صلح.

([4])            فعلىٰ الإنسان أن لا يساوم، ولا يجامل في دين الله تبارك وتعالىٰ، ولا يحل ما حرم الله عز وجل أو يحرم ما أحل الله من أجل الدعوة «زعموا».

([5])            صنمهم اللات.

([6])            وذلك أنهم إلىٰ الآن لم يسلموا.

([7])            ببطئٍ.

([8])            أي نزلوا عن خيولهم.

([9])            اللات: صنم كان بين ظهراني الطائف، يهدىٰ له الهدي كما يهدىٰ لبيت الله الحرام.

([10])          أصلحوه.

([11])           امتنعت.

([12])          الفأس.

([13])          لم يدافع اللئام عن هذا الصنم.