توبة كعب بن مالك رضي الله عنه
14-03-2023
أخرج البخاري ومسلم([1]) عن ابن شهاب أنه قال: ثم غزا رسول الله ﷺ تبوك وهو يريد الروم ونصارىٰ العرب بالشام، قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب كان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك.
قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلّف عنه، إنما خرج رسول الله ﷺ والمسلمون يريدون عير قريش حتىٰ جمع الله بينهم وبين عدوهم علىٰ غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة([2]) حين تواثقنا علىٰ الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوىٰ ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتىٰ جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها الرسول ﷺ في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلىٰ للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ([3])، وكل يعرف صاحبه.
قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفىٰ له، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله سبحانه وتعالى، وغزا الرسول ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر([4])، فتجهز الرسول ﷺ والمسلمون معه، وطفقت أغدو كي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر علىٰ ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادىٰ بي حتىٰ استمر بالناس الجِد، فأصبح رسول الله ﷺ غادياً والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئاً، ثم غدوت ــ أي لأتجهز ــ فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادىٰ بي حتىٰ أسرعوا وتفارق الغزو([5]).
وهذا يبين أن علىٰ الإنسان أن ينتبه إلىٰ قضية مهمة، ألا وهي أنه يجب أن يكون جاداً، فهذا التسويف يضعف الهمّة حتىٰ يترك الإنسانُ ما كان قد عزم عليه.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
قال: فهممتُ أن أرتحل فأُدرِكهم فياليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي ﷺ أني لا أرىٰ لي أسوَة، لا أرىٰ إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتىٰ بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم في تبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟». فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عِطفيه. فرد عليه معاذ بن جبل قائلاً: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً.
فبينما هو علىٰ ذلك رأىٰ رجلاً مبيضاً يزول به السراب ــ أي قادم من بعيد ــ، فقال رسول الله ﷺ: «كن أبا خيثمة»، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون.
فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً، حضرني بثِّي([6])، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين علىٰ ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله ﷺ قد أظل قادماً، زاح عني الباطل حتىٰ عرفت أني لن أنجو بشيء أبداً، فأجمعت صدقه.
وصبّح رسول الله ﷺ قادماً، وكان إذا قدم من السفر بدأ في المسجد وركع فيه ركعتين، ثم جلس إلىٰ الناس، فلما فعل ذلك وجلس جاءه المنافقون المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلىٰ الله، حتىٰ جئت فلما سلمت تبَسَّم تبسُّم المُغضب، ثم قال: «تعال»، فجئت أمشي حتىٰ جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك([7])؟». قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضىٰ به عني كما رضيت عن أولئك، ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجدُ عليّ فيه، إني لأرجو فيه عُقبىٰ الله، واللهِ ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوىٰ ولا أيسر منّي حين تخلفت عنك. فقال ﷺ: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتىٰ يقضي الله فيك».
فقمت، وثار رجالٌ من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن تكون اعتذرت إلىٰ رسول الله ﷺ بما اعتذر إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك.
قال كعب: فوالله مازالوا يؤنبونني حتىٰ كدت أن أرجع إلىٰ رسول الله ﷺ أُكَذِّب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية. فذكروا لي رجليْن صالحيْن فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهىٰ رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا، فاجتنبنا الناس.
وهنا يكمن الابتلاء، مع العلم أنه لم يَنْهَ عن كلام المنافقين، مع أن المنافقين جمعوا الشر من ثلاثة أوجه:
الأول: أنهم كهؤلاء تخلفوا بدون عذر.
الثاني: أنهم منافقون.
الثالث: أنهم كذبوا علىٰ النبي ﷺ.
قال أهل العلم: لأن الهجر علاج، والعلاج ينفع مع المؤمن ولا ينفع مع المنافق، فذنب المنافق أعظم من أن ينفع معه الهجر.
قال كعب: وتغيروا لنا حتىٰ تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا علىٰ ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان مما وقع، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج، وأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ وأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول: هل حرّك شفتيه وردّ السلام؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت علىٰ صلاتي نظر إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتىٰ إذا طال ذلك عليّ، مشيت حتىٰ تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام.
فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت. فعدتُ فناشدتُّه فسكت، فعدتُ فناشدتُّه فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتىٰ تسورت الجدار.
قال: بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل الشام([8])، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: مَنْ يدلُّ علىٰ كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون إليّ، حتىٰ جاءني، فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيَعة، فالحق بنا نواسك.
قال: وقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرتها.
وهذا فيه مبادرة إلىٰ إتلاف ما يُخشىٰ منه الإفساد والمضرة في الدين، فعلىٰ من كان عنده أفلام خليعة أو صور أو مواقع علىٰ الإنترنت أو غيرها أن يتخلص منها إذا تاب حتىٰ لا يرجع إليها إذا راودته نفسه والشيطان.
قال كعب: حتىٰ إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي([9])، وإذا رسولُ رسولِ الله ﷺ يأتيني فقال لي: إن رسول الله ﷺ يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنّها.
قال: فأرسل إلىٰ صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتىٰ يقضيَ الله في هذا الأمر.
فجاءت امرأة هلال بن أمية إلىٰ رسول الله ﷺ فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنّك. فقالت: فإنه والله ما به حركة إلىٰ شيء، ووالله مازال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان.
فقال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله ﷺ في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله ﷺ، وما يدريني ما يقول فيَّ رسول الله ﷺ إذا استأذنته فيها، فأنا رجل شاب.
فلبثت في ذلك عشر ليالٍ، فتمّت الخمسون، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهىٰ عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة علىٰ ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس علىٰ الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت؛ سمعت صوت صارخ أوفىٰ علىٰ سَلْعٍ([10])، وبأعلىٰ صوته: يا كعب بن مالك، أَبْشر. فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج.
وهذا فيه أن الإنسان إذا جاءه خبر يفرحه فإنه يسجد لله شكراً.
قال: فآذن رسول الله ﷺ الناس بتوبة الله علينا، حين صلىٰ صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون وركض رجلٌ إليّ فَرَساً([11])، وسعىٰ ساعٍ من أسلم قِبَلي وأوفىٰ الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله ﷺ.
وهذا يبين لنا مدىٰ حبهم لرسول الله، فهو يأمر بالعقوبة وهو أول من يأتيه.
قال: يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنك توبة الله عليك. حتىٰ دخلت المسجد، فإذا رسول الله ﷺ جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتىٰ صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. فكان كعب لا ينساها لطلحة.
فلما سلمت علىٰ رسول الله ﷺ، قال وهو يبرق من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك». فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: «لا، بل من عند الله». وكان رسول الله ﷺ إذا سُرّ استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلىٰ الله وإلىٰ رسوله ﷺ. فقال ﷺ: «أمسك بعض مالك، فهو خير لك». قال: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر فقط.
قال: قلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلىٰ يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدتُ كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله ﷺ إلىٰ يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
قال: فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿لَقَدْ تَابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلْأَنْصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى ٱلثَّلَاثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 117 ــ 118]، والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله ﷺ ألا أكون كذبت فأهلكُ كما هلك الذين كذبوا، إن الله تعالىٰ قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 95 ــ 96].
فلنتصور كعباً الآن يقرأ هذه الآيات في صلاته ويدري أن الله يتكلم عنه وعن صاحبيه، ويقرأ كذلك كلام الله عن المنافقين الذين كذبوا وكيف سلمه الله من الكذب، بالله كيف يكون شعوره؟ لاشك أنها سعادة لا توصف، بل هو كما قال النبي ﷺ: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك».
قال كعب: كنا خُلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله ﷺ حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجىٰ رسول الله ﷺ أمرنا حتىٰ قضىٰ الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلَاثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ ، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا.
([1]) «صحيح البخاري» (4418)، «صحيح مسلم» (2769).