كل ابن آدم خطاء
14-03-2023
حاطب بن أبي بلتعة أحد أصحاب النبي ﷺ وقع منه خطأ كبير، كتب إلىٰ قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ إليهم، ثمّ أعطاه امرأة يقال لها: سارة، وجعل لها جُعلاً([1]) علىٰ أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها([2])، وأتىٰ رسولَ الله ﷺ الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث الرسول ﷺ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن عمرو خلف هذه المرأة، وقال لهم: «انطلقوا حتىٰ تأتوا روضة خاخ([3])، فإن بها ظعينة معها كتاب إلىٰ قريش»، فانطلقوا حتىٰ وجدوا المرأة بذلك المكان الذي أخبر به النبي ﷺ، فأوقفوها وقالوا لها: أمعك كتاب؟ قالت: ما معي كتاب. ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً، فقال لها علي رضي الله عنه: أحلف بالله ما كُذب رسول الله ﷺ ولا كُذبنا، والله لتخرجنّ الكتاب أو لَنُجَرِّدَنَّك الثياب.
وهذا الفعل جائز؛ وذلك أن الأمر إذا كان بهذه الخطورة وعلموا يقيناً كما هو الخبر من النبي ﷺ، جاز لهم أن يجردوها من ملابسها إذا تحتّم الأمر. وإن كانت هذه مفسدة ولكن المفسدة التي تأتي من أخذها الكتاب أعظم. ومن القواعد الشرعية: دفع أعظم المفسدتين إذا كان لابد من الوقوع في إحداهما.
فلما رأت الجِد من علي قالت: أعرض([4])، فأعرض فحلّت قرون رأسها وأخرجت الكتاب، فدفعته إليه.
فأتىٰ به النبي ﷺ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلىٰ قريش يخبرهم بمسير الرسول ﷺ، فدعا رسول الله ﷺ حاطباً فقال: «ما هذا يا حاطب؟!». فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت وما بدلت، ولكني كنت امرءً ملصقاً في قريش ولست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي.
اعتذر حاطب، قال: لي أولاد وأقارب في مكة وأنا لست من أهل مكة، فأخشىٰ علىٰ أولادي وقرابتي الذين هم هناك، فإذا علمت قريش أني أرسلت هذا الكتاب قد لا يضرون قرابتي ولا يؤذونهم.
وفي رواية: قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره([5]). أي إن هذا الكتاب لا يقدم ولا يؤخر.
عند ذلك قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وفي رواية قال: يا رسول الله، إن حاطباً قد نافق. فقال رسول الله ﷺ: «إنه قد شهِد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع علىٰ أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». فذرفت عينا عمر رضي الله عنه فقال: الله ورسوله أعلم([6]).
فحاطب بن أبي بلتعة شفع له ماضيه؛ لأنه كان ذا سابقة مع رسول الله ﷺ، فقد شهد بدراً وأحداً والخندق وغيرها من المشاهد مع النبي ﷺ، وهاجر وترك الأهل والأولاد في سبيل الله، فهذه الغلطة مما غفر الله له مقابل ذلك الأمر العظيم الذي قدمه لله ورسوله.
وفي قول عمر رضي الله عنه إنه قد نافق يقول ابن القيّم رحمه الله: «إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه، لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر»([7]).
وفي حاطب نزل قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الممتحنة: 1 ــ 3] بيّن الله تبارك وتعالىٰ الحق الذي يجب أن يلتزمه المسلمون في حياتهم.
([3]) موضع قريب من المدينة، يبعد 15كم جنوباً.