الدروس المستفادة من حادثة الإفك
13-03-2023
في قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاؤُوا بِٱلْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾ ، تُتهم عائشة في عرضها، والرسول ﷺ يُتهم في عرضه، ويحزن ﷺ، ويبقون شهراً كاملاً، ويتكلم الناس فيها، ويفرح المنافقون بهذا، فأين الخير هنا؟
ذكر أهل العلم أموراً كثيرة ظهرت فيها الخيرية في هذه القضية، منها:
أولاً: الابتلاء، حيث ابتلىٰ اللهُ رسولَه ﷺ كما ابتلىٰ عائشة، وابتلىٰ صفوان بن المعطل، فخرجوا من البلاء كالذهب الخالص، والابتلاء ثمراته طيبة لأن فيه رفع درجات.
ثانياً: تنقية الصفوف، فلو لم تحدث هذه الحادثة لما تَميَّز المؤمنون من المنافقين، فمثل هذه الحوادث يظهر فيها المنافقون رؤوسهم، ويتكلمون، ويظهرون تبجحهم وهزأهم وسخريتهم بالمؤمنين.
ثالثاً: فضل عائشة رضي الله عنها، ومحبة الله لها، حيث أنزل فيها قرآناً يُتلىٰ.
رابعاً: مدافعة الله تبارك وتعالىٰ عن عباده المؤمنين، ولذلك قال في الحديث القدسي: «من عادىٰ لي ولياً فقد آذنته بالحرب»([1])، فظهر من هذه القصة أن عائشة رضي الله عنها من أولياء الله تبارك وتعالىٰ، فلذلك دافع الله عنها سبحانه وتعالى، وهذا يعطي الولي التقي اطمئناناً أن الله سبحانه وتعالى سيدافع عنه، ولذلك قالت عائشة: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18]، فلجأت إلىٰ الله، فما خيبها ربها سبحانه وتعالى.
خامساً: إظهار حُكم شرعي في قوله جل وعلا: ﴿لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِٱلشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13]، وما كان سيظهر هذا الحكم لولا أن وقعت هذه الحادثة، فإذا حدثت حوادث أخرىٰ فإننا سنعرف كيف نتعامل معها.
سادساً: وضع القواعد العامة لمثل هذه القضايا، مثل: أن الأصل في المسلم العدالة، والأصل فيه أنه بريء حتىٰ تثبت التهمة، فهذه القواعد العامة ما كنّا لنعرفها لولا أن وقعت هذه الحادثة.
سابعاً: فضْحُ المنافقين وتعريتهم أمام المؤمنين.
ثامناً: فضْل صفوان بن المعطّل رضي الله عنه، وأن الله تبارك وتعالىٰ دافع عنه كما دافع عن عائشة رضي الله عنها.
تاسعاً: بيان حكم القذف.
وهنا مسائل ذكرها ابن القيّم رحمه الله، وهي عبارة عن فوائد طيبة جداً ذكرها في كتابه «زاد المعاد»، نذكرها لعل الله تبارك وتعالىٰ أن ينفعنا بها:
أولاً: فإن قيل: فما بال رسول الله ﷺ توقف في أمرها، وسأل عنها وبحث واستشار، وهو أعرف بالله وبمنـزلته عنده وبما يليق به، وهلّا قال: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ كما قاله فضلاء الصحابة؟
والجواب: أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعلت هذه القصة سبباً لها وامتحاناً وابتلاءً لرسول الله ﷺ ولجميع الأمّة إلىٰ يوم القيامة؛ ليرفع بهذه القصة أقواماً ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدىٰ وإيماناً، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، واقتضىٰ تمام الامتحان والابتلاء أن حُبس الوحي عن الرسول ﷺ شهراً في شأنها لا يوحىٰ إليه في ذلك شيء؛ لتتم حكمته التي قدّرها وقضاها، وتظهر علىٰ أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً علىٰ العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة من الصدّيقة وأبويها، لما قالت: ﴿ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ﴾ ، والافتقار إلىٰ الله، والذل إليه، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصرة والفرج علىٰ يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقام حقه لما قال لها أبواها: قومي إليه. وقد أنزل الله عليه براءتها فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي.
وأيضاً فكان من حكمة حبس الوحي شهراً أن القضية مَحّصت وتمحّضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلىٰ ما يوحي الله إلىٰ رسوله فيها، وتطلّعت إلىٰ ذلك غاية التطلّع، فوافىٰ الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله ﷺ وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون، فورد الوحي عليهم ورود الغيث علىٰ الأرض أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه، وسُرّوا به أتم السرور وحصل لهم غاية الهناء بهذا الوحي، فلو أطلع الله رسوله علىٰ حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي علىٰ الفور بذلك لفاتت هذه الحكم وأضعافها، بل أضعاف أضعافها.
ثانياً: إن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولىٰ هو بنفسه جل وعلا الدفاع والمنافحة عنه والرد علىٰ أعدائه وذمهم وعيبهم، وبأمر لا يكون له فيه عمل، أي ليس الرسول ﷺ هو الذي يدافع عن زوجه، بل الله يدافع عن رسوله وعن أهل بيته، ولا يُنسب إلىٰ الرسول ﷺ بل يكون هو وحده أي الله جل وعلا المتولي لذلك، الثائر لرسوله وأهل بيته.
ثالثاً: إن رسول الله ﷺ هو المقصود بالأذىٰ والتي رُميت زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه، فهذا لا يكفي أو ظنّه الظن المقارب للعلم ببراءتها ولا يظن بها سوءاً قط وحاشاه وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال: من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت في أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل علىٰ أهلي إلا معي، فكان عنده ﷺ من القرائن التي تشهد ببراءة الصدّيقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به وفّىٰ مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه، حتىٰ جاءه الوحي بما أقر عينه وسرّ قلبه وعظّم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه.
رابعاً: من تأمل قول الصدّيقة لمّا قال لها أبواها: قومي إلىٰ رسول الله ﷺ، فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله.
من نظر إلىٰ قولها ذلك وتأمله عَلِمَ معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها لربها وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجريدها التوحيد، وقوة جأشها، وإدلالها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له، وثقتها بمحبة رسول الله لها قالت ما قالت إدلالاً لحبيب علىٰ حبيبه، ولاسيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال فوضعته موضعه، ولله ما كان أحبّها إليه حين قالت: لا أحمد إلا الله، فإنه هو الذي أنزل براءتي. ولله ذلك الثبات والرزانة منها وهو أحب شيء إليها ولا صبر لها عنه وقد تنكر قلب حبيبها لها شهراً ثم صادفت منه الرضا والإقبال، فلم تبادر إلىٰ القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له وهذا غاية الثبات والقوة. انتهىٰ([2]).