وبعد هذه الهزيمة المنكرة لقريش في بدر؛ جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر، وكان لعمير ولد يقال له: وهب، وهو ممن أسر في بدر، فتذاكرا المصيبة التي وقعت لأهل مكة بهذه الهزيمة، فقال صفوان بن أمية لعمير: والله إنْ في العيش بعدهم خير. أي ليس في العيش بعدهم خير، و«إن» هنا هي النافية، كما في قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217]. أي لن يستطيعوا.

فقال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشىٰ عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلىٰ محمد حتىٰ أقتله، فإن لي قبلهم علة ابني أسير في أيديهم.

فقال صفوان: دينك عليّ أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي ولا يسعني شيء ويعجز عنهم.

فقال عمير ــ وقد أُلزم بما قال ــ: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أخذ عمير سيفه وانطلق حتىٰ قدم المدينة، فبينما هو علىٰ باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب وهو في نفر من المسلمين، فقال عمر: هذا عدو الله عمير ما جاء إلا لشر. ثمّ دخل علىٰ النبي ﷺ وقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه. فقال النبي ﷺ: «فأدخله عليَّ»، فأقبل عمير فلببه عمر في حمالة سيفه. أي ضمه ضماً بحيث إنه لا يستطيع أن يمسك سيفه. وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا علىٰ رسول الله ﷺ فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون.

فلما رآه رسول الله ﷺ وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عمير». فقال عمير: انعموا صباحاً. فقال النبي ﷺ: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة»([1]).

ثمّ قال له النبي ﷺ: «ما جاء بك يا عمير؟»، قال: جئت لهذا الأسير الذي بين أيديكم فأحسنوا فيه. فقال: «فما بال السيف في عنقك؟». قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنّا شيئاً؟! قال: «اصدقني ما الذي جئت له؟». قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثمّ قلت أنت: لولا دين عليَّ وعيال عندي؛ لخرجت حتىٰ أقتل محمداً، فتحمّل صفوان بدينك، وعيالك علىٰ أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك». فاستغرب عمير كيف عرف النبي ﷺ هذا الأمر.

فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينـزل عليك من الوحي، هذا الأمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، الحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق.

ثمّ تشهد شهادة الحق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرؤوه القرآن، وأطلقوا له أسيره».

أما صفوان في مكة؛ فكان ينتظر خبر النبي ﷺ، وكان يقول لأهل مكة: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. وكلما جاء ركب قال لهم: ما حال عمير؟ حتىٰ جاء ركب فقال لهم: ما حال عمير؟ فقالوا: أسلم، فحلف صفوان ألّا يكلمه أبداً، ورجع عمير إلىٰ مكة، وأقام بها يدعو إلىٰ الإسلام، فأسلم علىٰ يديه أناس كثير([2]).

سبحان الله! خرج كي يقتل النبي ﷺ ثمّ رجع داعية إلىٰ الله جلّ وعلا.

 

([1])             إذاً لا ينبغي لنا إذا دخل علينا أحد أو دخلنا علىٰ أحد أن نقول: مرحباً أو مساء الخير أو غير هذه من الكلمات، وهي وإن كانت في أصلها جميلة؛ ولكن بعد السلام، فالأول يبدأ بالسلام، فيقول: السلام عليكم، ثمّ إن شاء قال: مرحباً أو مساء الخير أو ما شاء من هذه الكلمات.

([2])            أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (17/58)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (1/660).