لما وصل النبي ﷺ إلىٰ المدينة استشار أصحابه في الأسرىٰ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرىٰ أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا علىٰ الكفار، وعسىٰ أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله ﷺ: «ما تـرىٰ يا ابن الخطاب؟». قال: والله ما أرىٰ ما رأىٰ أبو بكر، ولكن أرىٰ أن تمكنني من فلان ــ وذكر قريباً له ــ فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان فيضرب عنقه، حتىٰ يعلم الله تبارك وتعالىٰ أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.

فهوىٰ النبي ﷺ([1]) ما قال أبو بكر، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد؛ قال عمر: غدوت إلىٰ النبي ﷺ وأبي بكر، فإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما.

فقال رسول الله ﷺ: «للذي عُرض عليَّ من أصحابك من أخذ الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنىٰ من هذه الشجرة». وأشار إلىٰ شجرة قريبة، وأنـزل الله جل وعلا: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي ٱلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67 ــ 68]([2]) أي لكي يثخن([3]) في الأرض، وأما الكتاب الذي سبق من الله تبارك وتعالىٰ فهو قول الله جل وعلا: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: 4].

وذلك أن قائد الجيش إذا أسر المشركين فهو مخير بين أربعة أمور([4]):

أولا: أن يقتلهم.

ثانياً: أن يفاديهم بمال أو مقابل أسرىٰ أو ما شابه ذلك.

ثالثاً: أن يعفو عنهم بدون مقابل.

رابعاً: أن يَسْتَرِقَّهُم عبيداً عند المسلمين.

والنبي ﷺ قَبِل الفداء من بعضهم، ومنّ علىٰ بعضهم ﷺ.

 

([1])             أي: اختار.

([2])            أخرجه مسلم (1763).

([3])            يثخن: تكون له القوة والغلبة.

([4])            انظر: «المغني» لابن قدامة (13/46 ــ 74)، «زاد المعاد» لابن القيم (3/99).