اصطف المسلمون واصطف المشركون، ثلاثمئة وبضعة عشر مقابل ألف من المشركين، فخرج من أهل مكة ثلاثة: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فانفصلوا من صف المشركين وطلبوا المبارزة، قالوا: من يبارزنا؟ وهذا نوع من الإحماء للقتال كانت تستخدمه العرب، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار: عوف ومعوّذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة، فلما التقوا قال المشركون للمسلمين: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، فقالوا لهم: أكْفاءٌ كرام، ما لنا بكم حاجة، إنما نريد بني عمنا، ثمّ نادىٰ مناديهم: يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله ﷺ: «قم يا عبيدة بن الحارث». وهو ابن عم النبي ﷺ يلتقي معه في عبد مناف، فهو من أبناء المطلب بن  عبد مناف والنبي من أبناء هاشم بن عبد مناف، قال: «قم يا حمزة، وقم يا علي». فاختار أقاربه ﷺ، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: أنتم أكْفاء كرام، فتبارز عبيدة بن الحـارث مـع عتبة بن ربيعة، وحمزة مع شيبة، وعلي مع الوليد بن عتبة، فأما حمزة فقتل صاحبه، وأما علي فقتل صاحبه، وأما عبيدة فاختلف هو وقرنه في ضربتين، فكل واحد ضرب الثاني ضربة، ثمّ كرّ علي وحمزة علىٰ عتبة، فقتلاه واحتملا عبيدة بن الحارث وهو مصاب، وقد قطعت رجله، ومات بعد ذلك بثلاثة أيام رضي الله عنه([1]).

وانتهت هذه المبارزة فغضبت قريش عند ذلك، وكرّوا علىٰ المسلمين كرة رجل واحد، فقام النبي ﷺ يناشد ربه تعالىٰ فقال: «اللَّهم إن تهلك هذه العصابة([2]) اليوم لا تُعبد، اللَّهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبداً». وبالغ في الابتهال، ورفع يديه حتىٰ سقط رداؤه عن منكبيه، فردّه عليه أبو بكر الصديق وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت علىٰ ربك.

عندها أوحىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلىٰ الملائكة ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ٱلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا ٱلرُّعْبَ﴾ ، وأوحىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلىٰ رسوله ﴿ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾  [الأنفَال: 9]، أي إنهم ردف لكم يساعدونكم، فأغفىٰ رسول الله ﷺ إغفاءة واحدة، ثم قال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل علىٰ ثناياه النقع([3])»([4]).

وفيهم نزل قوله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ َلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 123 ــ 126]([5]).

ثمّ خرج رسول الله ﷺ من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول: ﴿سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ﴾ [القمر: 45]، ثمّ أخذ حفنة من الحصباء([6]) فاستقبل بها قريشاً، فقال: «شاهت الوجوه»([7]). ورمىٰ بها ﷺ، فما من أحد إلا وأصابه ما رماه الرسول ﷺ، وفي هذا قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، وشدّ المسلمون علىٰ الكفار فكان النصر.

 

([1])             أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/131).

([2])            العصابة: هي الجماعة المجتمعة على شيء، سواء كان خيراً أو شراً.

([3])            أي الغبار.

([4])            أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (3/54، 81)، وأصله في «صحيح البخاري» (2915)، و«صحيح مسلم» (1763).

([5])            انظر: «تفسير ابن كثير» (2/102).

([6])            أي: الحصىٰ.

([7])            أخرجه مسلم (1777).