كان النبي ﷺ يُحرس ليلاً، حتىٰ أنـزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، فأخرج الرسول ﷺ رأسه من القبة، فقال: «يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله»([1])، وهذا يبين شدّة اليقين بالله جل وعلا وكان الله عز وجل قد أمر نبيه بالصبر والكف عن المشركين، حتىٰ أذن الله تبارك وتعالىٰ بالقتال والدفاع بقوله جل وعلا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39].

وبعد هذا الإذن من الله بالقتال بدأت السرايا، وكان من هذه السرايا سرية نخلة، وذلك أنه في السنة الثانية من الهجرة بعث الرسول ﷺ عبد الله بن جحش الأسدي إلىٰ مكان يقال له: نخلة؛ في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان علىٰ بعير، وكان الرسول ﷺ كتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتىٰ يسير يومين ثمّ ينظر فيه، فسار عبد الله بن جحش، ثمّ قرأ الكتاب بعد يومين إذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتىٰ تنـزل نخلة بين مكة والطـائف، فترصد بها عـير قريـش، وتعلم لنا من أخبارهم».

فقال عبد الله بن جحش عندما قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة. ثمّ أخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، ولكن في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه.

وسار عبد الله بن جحش حتىٰ نـزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً([2]) وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، فتشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم دخلوا الحرم.

والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وواحد فرد، والثلاثة السرد هي       ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، والواحد الفرد رجب، هذه أشهر محرمة منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلىٰ يومنا هذا، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِنْدَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَٱعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36]، فهم أدركوا هذه العير في آخر يوم من رجب، ورجب من الأشهر الحرم، فإذا أخذوا ما عندهم من مال وقاتلوهم؛ فقد قاتلوا في الشهر الحرام، وإن تركوهم دخلوا إلىٰ البلد الحرام مكة، فوقعوا بين ثلاث حالات:

الحالة الأولىٰ: أن يقاتلوهم في الشهر الحرام.

الحالة الثانية: أن يتركوهم حتىٰ يدخلوا مكة، ويقاتلونهم غداً في الأشهر الحلال، ولكن في المكان الحرام.

الحالة الثالثة: وهي أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام، ولا يقاتلوهم في البلد الحرام، ولكن تفلت العير وتدخل إلىٰ مكة وتنجو.

وكان كفار قريش ــ كما هو معلوم ــ قد أخذوا أموال المسلمين، بل أخذوا دورهم، وآذوا من آذوا، وقتلوا آخرين، فكان أخذ العير نوعاً من رد بعض الحقوق، وللإنسان أن يرد حقه ممن ظلمه ولو وصل الأمر إلىٰ القتال.

فتشاور المسلمون، ثمّ اجتمعوا علىٰ اللقاء، فرمىٰ أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم بن كيسان، وأفلت منهم نوفل، وقدموا بالعير والأسيرين إلىٰ مدينة النبي ﷺ، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وذلك كان أول خمس في الغنيمة، وهذان كانا أول أسيرين، وذاك كان أول قتيل في الإسلام.

فلما وصلوا إلىٰ النبي ﷺ وأخبروه بما حدث؛ أنكر النبي ﷺ ما فعلوه، وقال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام»، ثمّ أوقف النبي ﷺ أيَّ تصرف في العير والأسيرين.

أما قريش؛ فبدؤوا يتكلمون في النبي ﷺ وأصحابه، وقالوا: إنه أحلَّ ما حرم الله، وأكثروا في القيل والقال، حتىٰ أنـزل الله تبارك وتعالىٰ الوحي يدافع به عن النبي ﷺ وأصحابه، قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ﴾ [البقرة 217].

يقول الله تبارك وتعالىٰ للمشركين: أنتم تنكرون علىٰ المسلمين أن قتلوا رجلاً في الشهر الحرام، ونحن نوافقكم علىٰ أن هذا العمل لا يجوز، ولكن أنتم يا من تعيبونهم في هذا انظروا ماذا تفعلون، يقول لله تبارك وتعالىٰ: ﴿ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ أي الذي تفعلونه ﴿ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ﴾ أي وصد عن المسجد الحرام ﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ وهو طرد المسلمين من مكة وإخراجهم بالتهديد والتعذيب ﴿ أَكْبَرُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ﴾ أي فتنة الناس عن دينهم أكبر من قتلهم، فكانت هذه الآية مما طيب الله تبارك وتعالىٰ بها قلوب المؤمنين، فكأن الله جل وعلا يقول لهم: ليس هؤلاء من لهم أن يعيبوا عليكم ذلك؛ لأن فعلهم أكبر من فعلكم بكثير.

عند ذلك أطلق النبي ﷺ سراح الأسيرين، وأدىٰ الدية عن المقتول إلىٰ أوليائه([3]).

 

([1])             أخرجه الترمذي (3046)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([2])            الزبيب: العنب. والأدم: الطعام.

([3])            أخرجه الطبري في «التاريخ» (2/410) و«التفسير» (3/650)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/19)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/179).