بيعة العقبة الثانية
13-03-2023
وكانت في السنة الثالثة عشرة من بعثة النبي ﷺ، إذ حج من المسلمين من أهل المدينة بضعٌ وسبعون نفساً من ضمن حجاج قومهم من المشركين، وكان المسلمون يقولون حتىٰ متىٰ نترك رسول الله ﷺ يطرد في جبال مكة ويخوَّف.
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: خرجنا إلىٰ الحج، وواعدنا رسول الله ﷺ بالعقبة من أوسط أيام التشريق، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمنا عبد الله بن عمرو بن حرام وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنّا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثمّ دعوناه إلىٰ الإسلام، وأخبرناه بموعد رسول الله ﷺ، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً من النقباء.
قال كعب رضي الله عنه: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتىٰ مضىٰ ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ، نتسلل تسلل القطا([1]) مستخفين، حتىٰ اجتمعنا في الشِعْب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب ــ وهي أم عمارة ــ، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة، فاجتمعنا ننتظر الرسول ﷺ، حتىٰ جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، والعباس يومئذ علىٰ دين قومه إلا أنه عم النبي ﷺ، فأراد أن يعرف ماذا هم صانعون بابن أخيه؟
فلما اجتمع بهم النبي ﷺ كان أول المتكلمين عم النبي ﷺ العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج([2]): إن محمداً منّا حيث قد علمتم([3])، وقد منعناه من قومنا ممن هو علىٰ مثل رأينا فيه([4])، فهو في عزٍّ من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبىٰ إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. فقال كعب: قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فقال النبي ﷺ: «تبايعوني». فقالوا: يا رسول الله نبايعك علىٰ ماذا؟ قال: «علىٰ السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلىٰ النفقة في العسر واليسر، وعلىٰ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلىٰ أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلىٰ أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة». قال كعب رضي الله عنه: وتلا القرآن، ودعا إلىٰ الله، ورغّب في الإسلام.
ثمّ قام البراء بن معرور فأخذ بيده، ثمّ قال للنبي ﷺ: والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنّك مما نمنع أُزُرنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة([5])، ورثناها كابراً عن كابر.
فقام أبو الهيثم بن التيّهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً([6])، وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك؟ ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلىٰ قومك وتدعنا؟
فتبسّم رسول الله ﷺ وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم»([7]).
وفي رواية أن جابراً قال: فقمنا نبايع الرسول ﷺ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، فقال: رويداً يا أهل يثرب، إنّا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأنّ إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة، وفيه قتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإن أنتم تصبرون علىٰ ذلك فخذوه وأجركم علىٰ الله، وإمّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله([8]). فقالوا: يا أسعد أمط عنّا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها. فبايعهم النبي ﷺ وصافحهم إلا المرأتين فإنه ما صافح امرأة قط([9]).
ثمّ جعل عليهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس: أما نقباء الخزرج فأسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع ابن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو. وأما نقباء الأوس فأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر.
وبعد أن تمت هذه البيعة بين النبي ﷺ والمسلمين الذين بايعوه صاح الشيطان وقال: يا أهل الأخاشب([10])، هل لكم في محمد والصباة قد اجتمعوا علىٰ حربكم، فقال رسول الله ﷺ: «هذا أُزَب العقبة([11])، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك». ثمّ أمرهم أن يرجعوا إلىٰ رحالهم.
لما سمعت قريش هذا الصوت جاؤوا إلىٰ أهل يثرب فقالوا لهم: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلىٰ صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه علىٰ حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن ننشب معه الحرب منكم، فقال مشركو يثرب: والله ما وقع شيء من هذا، ولا تمّ شيء من هذا، وصاروا يحلفون بالله ما وقع شيء من هذا، فأتىٰ الناس عبد الله بن أبيّ ابن سلول ــ وكان من كبار الخزرج ــ فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفعلوا مثل هذا إلا وأخبروني.
فاستمرت قريش تبحث وتستقصي الأخبار حتىٰ تأكد لديهم أن الخبر صحيح والبيعة قد تمت، فلما نفر الحجيج سارع فرسانهم إلىٰ أهل يثرب، ولكن بعد فوات الأوان، ولكنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فطاردوهما وفرّ منهم، وأعجزهم المنذر وأمسكوا سعد بن عبادة، فربطوا يديه إلىٰ عنقه وجعلوا يضربونه ويشدون شعره حتىٰ أدخلوه مكة، فجاء المطعم ابن عدي والحارث بن حرب فخلصاه من أيديهم، وذلك أن سعد بن عبادة من سادات أهل المدينة.
([2]) قال الخزرج لأن عددهم أكثر من الأوس والعرب كانت تسمي الأوس والخزرج بالخزرج لكثرتهم.
([3]) أي من النسب والمكانة والمحبة.
([6]) يعني بينهم وبين اليهود عهود.
([8]) يريد أسعد بن زرارة أن يثير فيهم محبتهم للنبي ﷺ.
([11]) الأزب: شيطان اسمه أزب العقبة، وهو الحية. «النهاية» لابن الأثير (1/93).