ذهب سادات قريش إلىٰ أبي طالب عم الرسول ﷺ مرة ثانية، فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك ولم تنهه، وإنّا والله لا نصبر علىٰ هذا، يأتي ويقرأ القرآن بين أظهرنا هذا ما لا نتحمله أبداً، من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتىٰ تَكُفَّه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتىٰ يهلك أحد الفريقين.

وهذا تهديد شديد من قريش لأبي طالب عم النبي ﷺ، فلما رأىٰ أبو طالب هذا الأمر قد اشتد بعث إلىٰ رسول الله ﷺ وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني ــ فذكر له ما قالوا ــ فأَبقِ عليَّ وعلىٰ نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.  فظن النبي ﷺ أن عمه سيخذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال ﷺ: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علىٰ أن أترك هذا الأمر حتىٰ يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته»، ثمّ استعبر ﷺ وبكىٰ، وقام وترك أبا طالب عمه واجماً من هذا الكلام الذي قاله ﷺ.

وهذه الرواية وإن كانت لا تصح سنداً وهي قول النبي ﷺ: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري.. إلخ» كما ذكر أهل العلم؛ إلا أن السيرة يُتسامح بها، ولا بأس بذكرها؛ لأن النبي ﷺ ثبت أنه لم يتنازل، ولكن هل قال هذه الكلمة بذاتها أو قال غيرها؟ العلم عند الله تبارك وتعالىٰ.

فلما مشىٰ النبي ﷺ وترك أبا طالب واجماً انتبه أبو طالب ثمّ نادىٰ النبي ﷺ فرجع إليه ﷺ فقال له أبو طالب: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء أبداً([1])، وذكر أبياتاً طيبة يبين فيها صدقه مع رسول الله ﷺ، وإنه ناصره، وإنه لن يسلمه إلىٰ كفار مكة أبداً، قال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم       

                                         حتىٰ أُوَسّد في التراب دفينا

امضِ لأمرك ما عليك غضاضة              

           ابشر وقَرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

                                فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت ديناً قد عرفتُ أنه

                                            من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة 

                                      لوجدتني سمحاً لذاك مبينا

وفي هذه الأبيات يبين أبو طالب أنه لن يخذل النبي ﷺ ولكنه أيضاً أبىٰ أن يدخل في الإسلام، ولعل من الحكمة في ذلك أنه لو دخل في الإسلام لاجترأ عليه كفار مكة كما اجترؤوا علىٰ غيره، ولكنه بقي علىٰ دينهم فلم يتجرؤوا عليه.

قال هذه الأبيات فانصرف النبي ﷺ فرحاً بما سمع من أبيات ومن كلام أثلج صدره من عمه أبي طالب، فلما رأت قريش أن أبا طالب قد أبىٰ أن يخذل النبي ﷺ وأنه مجمع علىٰ فراقهم، ذهبوا إلىٰ عمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا عمارة نعطيك أبا طالب فتكون ولداً له ونأخذ محمداً بدلاً منك ثم نقتله، وجاؤوا أبا طالب وقالوا: يا أبا طالب إن هذا الفتىٰ ــ أي عمارة بن الوليد بن المغيرة ــ أنهد فتىٰ في قريش وأجمله، فخذه لك عقله ونصره([2])، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم، فنقتله فإنما هو رجل برجل. فقال أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبداً([3]).

والملاحظ من موقف أبي طالب من النبي ﷺ ومن كفار مكة يستغرب، كيف أن أبا طالب لم يُسْلِم ولم يتابع النبي ﷺ، ولو وقفنا مع قول أبي طالب:

لولا الملامة أو حُذاري سُبة

                                     لوجدتني سمحاً لذاك مبيناً

هذا الذي منع أبا طالب من اتباع النبي ﷺ، فهو يعلم أن النبي ﷺ حق، ولذلك قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33]، فهم يعلمون الحق، ويعلمون أن ما جاء به النبي ﷺ حق، وأنه رسول من عند الله، وأن الذي يتلوه ليس شعراً ولا سحراً ولا كهانة، ولكنه الكبر والعياذ بالله تعالىٰ.

 

([1])             أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (200)، والبيهقي في «الدلائل» (2/187).

([2])            العقل: ما تتحمله العاقلة في القتل وما شابه ذلك، وهم الأقارب.

([3])            «السيرة» لابن إسحاق (198).