جهر النبي ﷺ بالدعوة
12-03-2023
لما نـزل قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَٱهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ﴾ [المدثر: 1 ــ 7]؛ جهر النبي ﷺ بالدعوة إلىٰ التوحيد، وذلك أن الله تبارك وتعالىٰ انتزعه من النوم والتدثر والدفء إلىٰ الجهاد والكفاح والمشقة، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ كأنه قيل له: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، وأما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم! وما لك والراحة! وما لك والفراش الدافئ! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجَهد والنَّصَب والكد والتعب، قد مضىٰ وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد([1]).
هكذا أمر الله تبارك وتعالىٰ نبيه ﷺ أن يقوم ويجهر بالدعوة إلىٰ الله.
وقد روىٰ لنا أبو هريرة رضي الله عنه بدايةَ دعوة النبي ﷺ وجهره بها، فقال: لما أنـزلت هذه الآية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]؛ دعا رسول الله ﷺ قريشاً، فاجتمعوا، فعمّ وخصّ، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلّها ببلاها»([2]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا نـزلت هذه الآية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾ ؛ خرج رسول الله ﷺ حتىٰ صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»([3]). فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه فقال: «يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب». فاجتمعوا إليه فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟». وفي رواية: «لو حدثتكم أن خلف هذا الوادي جيش مصبّحكم أكنتم مصدقي؟».
والله لو قالوا له: نصدقك؛ لكفىٰ، ولكن أبىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلا أن يشهدوا بالحق وأن يقولوا الكلمة التي تكون شاهدةً عليهم وعلىٰ تكبرهم وعنادهم وإعراضهم عن الحق الذي عرفوه. فقالوا: ما جرّبنا عليك كذباً قط.
وهكذا يشهد أهل مكة للنبي ﷺ ــ علىٰ المشهور بعد ثلاث وأربعين سنة ــ بأنهم ما جرّبوا عليه الكذب أبداً، وسيأتينا من قصة أبي سفيان لمّا يسأله هرقل في بداية السنة السابعة من الهجرة: هل كان محمد يكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا.
فقال ﷺ: «إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقام عمُّ النبي ﷺ أبو لهب فقال: تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا؟!([4]).
ثمّ قام، فأنـزل الله تبارك وتعالىٰ آيات يدافع فيها عن نبيه ﷺ فقال سبحانه وتعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد].
ثمّ كانت بعد ذلك الدعوة الجهرية، وأمر الله تبارك وتعالىٰ رسوله ﷺ بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أُمر، وأن يصبر علىٰ أذىٰ المشركين، وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا ذهبوا في الشعاب استخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون في شعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم([5]) حتىٰ قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحىٰ جمل فشجّه فكان أول دم أهريق في الإسلام([6]).
وبدأ الناس يدخلون في دين الله تبارك وتعالىٰ وكان قد أسلم أبو بكر، وعلي، وزيد، وبلال، وخديجة، ثمّ أسلم عمّار بن ياسر وأسلم كذلك عثمان، والزبير، وابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، ثمّ أسلم أبو عبيدة، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان ابن مظعون، وسعيد بن زيد، وخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود، وفاطمة بنت الخطاب، وكل هؤلاء كان إسلامهم سراً.
وبعد أن أنـزل الله قوله جلّ وعلا: ﴿فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]؛ قام رسول الله ﷺ ينكر خرافات الشرك وترّهاته ويذكر حقائق الأصنام، وحقائق عَبَدَتِها، وأنها لا تستحق أن يُسجد لها، وأن تُعبد من دون الله تبارك وتعالىٰ، وبدأ يُسفّه الأحلام، ويبين الضلال ﷺ.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: كنت رجلاً قيناً([7])، وكان لي علىٰ العاص بن وائل دَيْن فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله، لا أقضيك حتىٰ تكفر بمحمد ﷺ. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتىٰ تموت ثمّ تبعث. قال: فإني إذا مت ثمّ بُعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأعطيك فأنـزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِنْدَ ٱلرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ [مريم: 77 ــ 80]([8])
ولما بدأ النبي ﷺ بالدعوة إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ مشىٰ رجال من أشراف مكة إلىٰ أبي طالب عم النبي ﷺ فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وسفّه أحلامنا، وعاب ديننا، وضلل آباءنا، فإما أن تَكُفَّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك علىٰ مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه. ومضىٰ أبو طالب إلىٰ النبي ﷺ يكلمه، فلم يستجب له، واستمر ﷺ علىٰ ما هو عليه.
ولما قَرُبَ موسم الحج؛ اجتمع كفار مكة وكبراؤها إلىٰ الوليد بن المغيرة وقالوا: ما نقول إذا جاء الناس؟ فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، فقالوا له: بل أنت قل ونسمع. قال: لا، قولوا أنتم وأنا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله هزجه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول؟ فقال لهم: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر([9]).
جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك. ولكن هل بقي الأمر هكذا؟ لا لقد دافع الله تبارك وتعالىٰ عن نبيه، فقال عن الوليد بن المغيرة ومن معه: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ [المدثر: 11 ــ 27]. واتبعت قريش أساليب عدة في محاربة دعوة النبي ﷺ، فمن هذه الأساليب التي استخدموها مع النبي ﷺ:
أولاً: السخرية والاحتقار، فقد رُمي النبي ﷺ وصحابته بِتُهم وشتائم وتألفت جماعات للاستهزاء بالإسلام ورجاله فاتُّهِمَ، قال تعالىٰ: ﴿وَقَالُوا يَاأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6].
ووُصِمَ بالسحر والكذب، قال تعالىٰ: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [ص: 4].
وكذلك صاروا ينظرون إليه نظراً يريدون بهذا النظر أن يزلقوه بأبصارهم، فيوقعونه في مهلكة من حسدهم، قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِنْ يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ [القلم: 51].
واتهموه بأنه تعلم من صبيين من نجران، فأنزل الله: ﴿ لِسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].
وسخروا أيضاً من أصحابه، قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ٱنْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ ٱنْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: 29 ــ 33].
وقالوا عن القرآن الكريم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]، وقالوا: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: 4]، وأرادوا لجهلهم أن يعارضوا القرآن الكريم بأساطير الأولين، وذلك أن النبي ﷺ كان إذا حدّث الناس ودعاهم إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ، وقرأ عليهم القرآن ثمّ قام؛ جاء النضر بن الحارث فجلس مجلس النبي ﷺ ثمّ يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً منّي، ثمّ يحدثهم عن ملوك فارس، ثمّ يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً منّي؟
وحاولوا المساومة كما قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿فَلَا تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 8 ــ 9].
النوع الأول: الإيذاء النفسي، فأول هذا الإيذاء ما وقع من أبي لهب ــ قبّحه الله ــ؛ وكان قد زوّج ولديه عتبة وعتيبة من بنتي النبي ﷺ رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما بُعث النبي ﷺ ودعا إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ، وجهر بالدعوة، أمر أبو لهب ولديه أن يطلقا بنتي النبي ﷺ فطلقاهما.
وكانت امرأة أبي لهب أم جميل ــ واسمها أروىٰ بنت حرب ــ لا تَقِلُّ عن زوجها في عداوة النبي ﷺ، فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي ﷺ وعلىٰ بابه ليلاً، وكانت امرأةً سليطةَ اللسان، ولما سمعت ما نـزل فيها وفي زوجها من القرآن: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1 ــ 5]؛ أتت رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها حجارة، فوقفت عليهما، فأخذ الله بصرها، فلم ترَ النبي ﷺ، لم تر إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربتُ بهذا الفهر([10]) فاه، أما والله إني لشاعرة، ثمّ قالت:
مذمماً عصينا ودينه قلينا
ثمّ انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: «ما رأتني، فقد أخذ الله ببصرها عني»([11]). والعجيب أن الله جل وعلا كما صرف بصرها عن نبيه ﷺ كذلك صرف لسانها عنه، فقالت: مذمماً، ولم تقل: محمداً.
النوع الثاني: الإيذاء الجسدي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يأتي بسلا جزور([12]) بني فلان فيضعه علىٰ ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقىٰ القوم وهو عقبة بن أبي معيط فجاء به، فنظر([13]) حتىٰ إذا سجد النبي ﷺ وضعه علىٰ ظهره بين كتفيه. يقول عبد الله: وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة. فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم علىٰ بعض([14])، ورسول الله ﷺ ساجد لا يرفع رأسه، حتىٰ جاءته فاطمة فطرحته عن ظهره، فرفع النبي ﷺ رأسه ثمّ قال: «اللَّهم عليك بقريش» ثلاث مرات يدعو عليهم، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة. بل يعلمون أن النبي ﷺ صادق، وأنه نبي حقاً ﷺ ،كما قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].
قال: «اللَّهم عليك بأبي جهل، اللَّهم عليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط». وعد السابع يقول عبد الله: ولم أحفظه، والذي نفسي بيده، لقد رأيت الذي عدّ رسول الله ﷺ صرعىٰ في القليب قليب بدر([15]).
وكذلك أخرج مسلم([16]) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟([17]) قالوا: نعم. قال: واللات والعزىٰ لئن رأيته لأطأنّ علىٰ رقبته ولأعفرنّ وجهه. فأتىٰ أبو جهل رسول الله ﷺ وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص علىٰ عقبيه ويتقيه بيديه. فقال له الناس: ما لك يا أبا الحكم([18])؟ ما الذي حدث؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. قال أبو هريرة: فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضوا».
عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ﷺ. فقال عبد الله: بينما النبي ﷺ يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتىٰ أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي ﷺ وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!([19]).
هذا ما وقع للنبي ﷺ وأما ما وقع لأصحابه فكثير، ومنه:
- عثمان بن عفان: كان عمّه يلفه في حصير من أوراق النخيل، ثم يدخنه من تحته.
- مصعب بن عمير: لما علمت أمه بإسلامه طردته من بيتها وأجاعته، وكان من أنعم الناس عيشاً.
- بلال بن رباح: كان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه في بطحاء مكة، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع علىٰ صدره، ثمّ يقول: لا والله لا تزال هكذا حتىٰ تموت أو تكفر بمحمد ﷺ وتعبد اللات والعزىٰ فيقول بلال: أَحدٌ، أَحدٌ.
هذا عذاب أمية لبلال، وأمّا أمية فكان ينال عذاباً أكثر من هذا العذاب وهو بقول بلال: أحد، أحد، إذ كانت أشد علىٰ أمية من عذاب بلال رضي الله عنه.
فمَرَّ به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه رضي الله عنه، وقيل: إن أبا بكر لما جاء ليشتريه قال: بكم تبيعونه؟ قالوا: قل أنت. قال: تبيعونه بخمسمئة؟ قال أمية: بعتك. فاشتراه أبو بكر فقال أمية: لو دفعت أقل من هذا لأعطيناك. فقال أبو بكر ــ يُظهر قيمة بلال عند الله تبارك وتعالىٰ ــ: لو طلبتَ أكثر من هذا لدفعت.
- عمار بن ياسر وأمه وأبوه: كانوا يخرجونهم إلىٰ البطحاء ويعذبونهم، وكان النبي ﷺ يمر بهم ويقول: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة»([20]). فمات ياسر، وماتت سمية أم عمار في العذاب، وهي كما يقال: أول شهيدة في الإسلام.
وبلغ الاضطهاد أشدّه، حتىٰ إن خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: أتيت النبي ﷺ وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه وقال: «قد كان من كان قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعظم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار علىٰ مفرق رأسه يشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّن الله هذا الأمر حتىٰ يسير الراكب من صنعاء إلىٰ حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب علىٰ غنمه، ولكنكم تستعجلون»([21]).
ومع هذه الاضطهادات كلها كان الله تبارك وتعالىٰ مع أوليائه كما قال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38]. ولما زاد الإيذاء رجع النبي ﷺ إلىٰ الدعوة السرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكانت دار الأرقم علىٰ الصفا بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها النبي ﷺ لتكون مكاناً لاجتماعه بأتباعه ﷺ، وقد كانت هذه الاضطهادات في بداية السنة الرابعة من دعوة النبي ﷺ.
([1]) انظر: «الرحيق المختوم» ص72، بتصرف.
([3]) وهذه جملة كان يستعملها الناس في ذلك الوقت للمناداة لأمر مهم.
([4]) أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208).
([5]) أنكروا عليهم وعابوا عليهم ما يصنعون.
([6]) انظر: «السيرة» لابن إسحاق ص145 ــ 147.
([8]) أخرجه البخاري (2091، 2425، 2275)، ومسلم (2795).
([9]) «السيرة» لابن هشام (1/243).
([12]) سلا الجزور: المكان الذي يكون فيه الولد، وهي المشيمة بالنسبة للإنسان، ويقصدون بذلك سلا ناقة ميتة.
([15]) أخرجه البخاري (240، 520)، ومسلم (1794).
([17]) يعني يسجد بين أظهركم وأنتم سكوت!!
([18]) كان يكنىٰ بأبي الحكم؛ لما يرونه من رجاحة عقله.
([19]) أخرجه البخاري (3678، 3856).
([20]) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/140)، وابن إسحاق في «السيرة» (4/172).