الصلاة التي يحبها الله
08-03-2023
قد مرّ بنا أن من أركان الصلاة الطمأنينة والخشوع، والحصول علىٰ الخشوع يحتاج إلىٰ مجاهدة وعزم وإصرار من المصلي؛ حتىٰ يصل إلىٰ هذه المرتبة، وهو يتحقق إذا تنبهنا إلىٰ ستة أمور وعملنا بها، وتجنبنا ستة أمور أخرىٰ.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الستة في الصلاة وانتفت الأخرىٰ؛ كانت هي الصلاة التي يحبها الله ويرضاها، وهي الصلاة التي إذا ادّاها العبد رجع من ذنوبه.
أولاً: ما علينا فعله
1 ــــ حضور القلب، وذلك أن من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره، فالإنسان يستحضر دائماً أنه في صلاة، وأنه يناجي ربه عز وجل.
وهو أعظم الأسباب في تحقيق الصلاة التي يحبها الله، وقد أخبر النبي ﷺ عن الرجل يصلي الصلاة ليس له منها إلا نصفها، ليس له منها إلا ثلثها، ليس له منها إلا ربعها، ليس له منها إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها([1])، وهكذا تضيع الصلاة، فيبدأ هذا الإنسان في صلاته فإذا هو أخذ النصف من صلاته، ويصلي آخر فإذا هو أخذ الربع، ويصلي آخر فإذا هو لم يحصل إلا علىٰ العشر.
وأعظم من ذلك قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مؤكداً لقول النبي ﷺ، قال: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت».
ولا يكون العقل إلا بحضور القلب، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الصلاة مكيال، من وفَّىٰ؛ وفَّىٰ الله له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين([2]).
وقال أحد الصالحين: إذا قمت إلىٰ صلاتي جعلت الكعبة بين حاجبي، وجعلت الصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت خلفي يطلبني، أظنها آخر صلاة أصليها.
وهذا مصداق قول النبي ﷺ: «.صلوا صلاة مودع»([3])، فإذا شعر الإنسان أن تلك الصلاة التي يصليها هي آخر عملٍ يقربه من الله عز وجل؛ فلك بعد ذلك أن تتصور كيف سيؤدي تلك الصلاة.
والقلب مجبول مفطور علىٰ أنه ينصرف إلىٰ ما يهمه، وهذه جبلة جبل الله القلب عليها، ما الذي تنصرف إليه همتك والذي يهمك هو الذي ينصرف القلب إليه. فإذا كانت الصلاة همك انصرف القلب إلىٰ الصلاة، وإن كان البيت همك انصرف القلب إلىٰ البيت، وإن كان الولد همك انصرف القلب إلىٰ الولد وهكذا.
ولذلك قيل:
يا مــن أحبه وإني لست أذكره وكيف يذكره من ليس ينساه
2 ــــ التفهم والتدبر، قال الله عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ٱخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء].
وكان من هدي النبي ﷺ؛ أنه إذا مر بآية عذاب استعاذ بالله من عذابه، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآيةٍ فيها تعظيمٌ لله في ذكر أسمائه أو ذكر صفاته أو ذكر أفعاله سبحانه وتعالى، عظم الله تعالىٰ ونزهه وحمده وأثنىٰ عليه بما هو أهله.
وهذا الحديث وإن كان في قيام الليل إلا أن الإمام الشافعي رحمه لله ذهب إلىٰ أنه عام في كل صلاة، وذهب غيره إلىٰ خلاف ذلك، وأن هذا خاصٌ بقيام الليل، والذي يظهر قول الشافعي رحمه لله.
فكان النبي ﷺ يتعايش مع القرآن ومع ما يقرأ، فإذا تفهم المصلي وتدبر ما يقرأ كانت صلاته هي الصلاة التي يحبها الله ويرضاها.
وقد قال الله تبارك وتعالىٰ في الحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: ﴿ٱلرَّحْمَنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ ، قال الله: أثنىٰ عليَّ عبدي، فإذا قال العبد: ﴿مَالِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ ، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّالِّينَ﴾ ، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»([4]).
فالصلاة عبارة عن مناجاة بين العبد وبين ربه، فإذا استحضر الواحد منا تلك المناجاة وأن الله عز وجل يناجيه، والمصلي وإن كان لا يسمع بأذنه فلا بد أن يحاول أن يسمع بقلبه تلك المناجاة، وأن يتلذذ بها، ولهذا كانت الصلاة قرة عين النبي ﷺ.
وكان الصالحون يتمتعون بصلاتهم عندما يقومون بين يدي الله سبحانه وتعالى.
تصور وأن تقرأ هذه الآيات وتستحضر أن الله عز وجل يناجيك وأنك تناجيه، ولذلك قال النبي الكريم ﷺ: «إذا قام أحدكم يصلي، فإنما يناجي الله»([5]).
ولكن للأسف كثير من الناس يقرؤون القرآن بسرعة، وبعضهم يقرأ الفاتحة بنفس واحد، فهذا لا يستشعر المناجاة بينه وبين الله، ولهذا لا يتلذذ بالصلاة ولا يستشعرها.
3 ــــ تعظيم الله تعالىٰ، فلا بد للمصلي أن يستشعر عظمة الرب سبحانه وتعالى، ولن يستشعر أحدٌ تلك العظمة إلا إذا ازداد علماً بهذا الرب عز وجل وعرف قدره، وعرف سطوته ورحمته، وعرف أسماءه وصفاته، قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر]، فكلما ازداد الإنسان علماً بالله كلما ازداد خشيةً له.
وقد كان النبي ﷺ أتقىٰ الناس لله وأخشاهم له؛ لأنه أعلم الناس بالله جل وعلا.
4 ــــ الخوف، فيخاف من أن تُرَدَّ عليه صلاته فلا تُقبل ويضرب بها وجه المصلي.
5 ــــ الرجاء، فنحن إنما نصلي لأن الله أمرنا بالصلاة، فنستجيب لأمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله وعدنا الجنة إن أطعناه ووعدنا النجاة من النار.
فلا بد أن يكون هناك رجاء، فيرجو العبد أن يَقبل الله تلك الصلاة وأن يثيبه عليها، ويرجو أن يجعل الله له تلك الصلاة نوراً في الدنيا وذخراً له في الآخرة.
6 ــــ الحياء، فيؤدي الصلاة حياءً من الله عز وجل، فيستحي من رب العزة أن يؤدي صلاةً لا يدري أقبِلَ الله نصفها أو ربعها أو عشرها أو ردها الله عليه.
لا يدري ما فعل الله بهذه الصلاة، فلا بد أن يستحي في كل عمل يقدمه لله عز وجل؛ لأنه كلما فعل العبد وفعل؛ فإنه مقصر في حق الله تبارك وتعالىٰ.
قال النبي ﷺ: «لن ينجي أحداً منكم عملُه»، فقال رجل: ولا إياك؟ فقال: «ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا»([6])، والنبي يقول هذا الكلام وهو أحب الخلق إلىٰ الله، وهو سيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والمرسلين، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
إذاً مهما فعل الإنسان فهو مقصر في حق الله عز وجل، ومهما حرص علىٰ أداء الصلاة علىٰ ما يحب الله فلا بد أن يكون قد وقع منه التقصير فيها، فلا بد أن يتبع تلك الصلاة استغفار، وكأنه كان في معصية وهو في طاعة، فيقول: «أستغفر الله»؛ أي: من النقص الذي يمكن أن يكون قد حدث في تلك الصلاة، فيستشعر الحياء من الله وأنه لم يؤدِّ الصلاة التي يحبها الله، ولم يؤدِّ الصلاة التي أمرك الله بها، ولم يؤدِّ الصلاة التي كان يؤديها محمد ﷺ.
وكذا يستحيي مِنْ أنْ ينصرف قلبُه عن الله، فيُفكِّر في الدنيا وحاجياتها التي لا تنتهي، وأن يعلم أن الله مطلعٌ علىٰ قلبه، أهو معه أو مع غيره، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ﴾ [غافر].
ثانياً: الأمور التي نحذرها
1 ــــ الكسل، فلا نقوم إلىٰ الصلاة في كسل، وإنما في همة وعزيمة ونشاط، تفرح لسماع النداء، فتبحث عن الصلاة، فلا يقول: «حي علىٰ الصلاة» إلا وأنت في المسجد تقول: لبيك لبيك.
2 ــــ الرياء، فنبتعد عن طلب الرياء في الصلاة، والواجب أن تخلص صلاتك لله وحده لا شريك له، وقد ذم الله المنافقين في قوله: ﴿إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى ٱلصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء]، فصلاتهم ليست لله وإنما هي لأجل الناس.
وهذا يشمل الصلاة من بدايتها أو بعد ذلك في تحسينها، حيث يحسنها الإنسان لأجل الناس، فتكون أصل الصلاة لله، ثم بعد ذلك دخل شخص فيحسن ويضيف لأجل ذلك الداخل، وهذا من الرياء.
3 ــــ أن لا نؤخر الصلاة إلىٰ آخر وقتها، أو بعد وقتها.
4 ــــ أن لا ننقرها نقراً، فلا نسرع في أداء الصلاة بأسرع وقت.
5 ــــ أن نكثر من ذكر الله أثناء الصلاة، وقد بيَّن النبي ﷺ أن هذه الأمور من صفات المنافقين وهي تأخير الصلاة ونقرها وعدم ذكر الله فيها، قال ﷺ: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتىٰ إذا كانت بين قرني الشيطان([7])؛ قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً»([8]).
6 ــــ التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد، وهذا خاص بالرجال؛ لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا ــ يعني: أصحاب النبي ﷺ ــ وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه([9]).
ثالثا: معالجة الخشوع
وإذا أردنا أن نعالج الخشوع؛ فعلينا أن نراعي ما يأتي:
1 ــــ معرفة جلال الله وعظمته، قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر].
2 ــــ استشعار المناجاة ولذتها.
3 ــــ قراءة تفسير الآيات التي يكثر الإنسان من قراءتها في الصلاة؛ ليفهم الإنسان الآيات وهو يقرؤها.
4 ــــ المحافظة علىٰ سنن الصلاة ومستحباتها، فضلاً عن الواجبات والأركان.
5 ــــ أن يعطي كل ركن حقه الذي له، ويطمئن في جميع الأركان ولا يستعجل.
6 ــــ أن يصلي صلاة مودع، فقد جاء عن النبي ﷺ؛ أنه قال: «صلوا صلاة مودع»([10])، وذلك أن يستشعر أن هذه الصلاة هي آخر صلاة يصليها، فيستشعر أنه قد يموت بعد هذه الصلاة مباشرة، وأن هذه الصلاة هي آخر عبادة يؤديها لله عز وجل، فيحسنها قدر ما يستطيع.
7 ــــ أن يقرأ سيرة النبي ﷺ في صلاته كيف كانت، وكذلك سير الصحابة والصالحين.
8 ــــ أن لا يشغل نفسه بالنظر إلىٰ ما أمامه وما تحته وما شابه ذلك، وإنما ينظر دائماً إلىٰ محل سجوده، كما كان يفعل النبي ﷺ، إلا في حال التشهد، فإنه ينظر إلىٰ إصبعه السبابة.
9 ــــ أن يقلل من الحركة في الصلاة، سواءً كانت هذه الحركة حركةَ عين أو حركة جسد.
وكان بعض السلف تأتيه البعوضة فتقف علىٰ عينه ولا يحركها.
وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان إذا صلىٰ كأنه جذع لا يتحرك، ولما حوصر في مكة ورمي بالمنجنيق كان يصلىٰ في الفجر بسورة ﴿تَبَارَكَ﴾ و﴿نٓ﴾ ، وكانت تمر الكرة النارية التي تلقىٰ من المنجنيق فتضرب كمه فلا يتحرك في صلاته رضي الله عنه.
رابعا: أقسام الحركة في الصلاة
وقد ذكر أهل العلم أن الحركة في الصلاة تنقسم إلىٰ خمسة أقسام:
الأول: الحركة الواجبة، وهي إذا أراد أحد أن يمر بين يدي المصلي وهو يصلي إلىٰ سترة، يقول النبي ﷺ: «إذا كان أحدكم يصلي؛ فلا يدع أحداً يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبىٰ فليقاتله، فإنما هو شيطان»([11]).
الثاني: الحركة المستحبة، وهي ما كان في صالح الصلاة؛ كقول النبي ﷺ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «من وصل صفاً وصله الله»([12])، كأن تصلي وتجد فراغاً في الصف الذي أمامك فتتقدم خطوة أو خطوتين لتسد هذا الفراغ، أو تتحرك عن يمينك أو عن شمالك لتسد هذا الفراغ.
الثالث: الحركة المباحة، وهي التي تكون لحاجة؛ كأن تحمل المرأة طفلها وهي تصلي؛ لأنه يزعجها بالبكاء مثلاً، أو أنه وقعت علىٰ عينه ذبابة أو ما شابه ذلك، فيحاول أن يبعدها.
الرابع: الحركة المكروهة، وهي التي تكون بدون حاجة، ولا داعي لها.
الخامس: الحركة المحرمة، وهي الحركة المكروهة التي ليس لها داعي إذا كثرت، وهذه قد تبطل الصلاة.
([1]) أخرجه أحمد (18894)، من حديث عمار رضي الله عنه.
([2]) «الكنىٰ والأسماء» للدولابي (3037).
([3]) أخرجه أحمد (23498)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
([4]) أخرجه مسلم (395)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) أخرجه البخاري (416)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([6]) أخرجه مسلم (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([7]) أي: في نهاية وقت صلاة العصر.
([8]) أخرجه مسلم (622)، من حديث أنس رضي الله عنه.
([11]) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.