الـتـقـيــة
07-03-2023
ويَعُدُّها علماؤكم أصلاً من أصول الدين، ومن تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة، وهي واجبة لا يجوز رفعها حتى يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وهي من أركان الدين عند الشيعة؛ كالصلاة فضلاً عما سواها إلى يوم القيامة!
ويقول ابن بابويه القمي: «اعتقادنا في التقية أنها واجبة من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة»([1]).
وقال أيضاً: «والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة».
وروي عن الرضا أنه قال: «لا إيمان لمن لا تقية له»([2]).
التقية كستار للتناقضات!
لذا يكشف أحمد الكاتب حيلة لجوئهم لفكرة التقية ستراً للتناقضات الكثيرة في المذهب عامة، وفي مسألة الإمامة خاصة، فقال: «وقد أطلق الإماميون على هذه الحالة اسم التقية، وذلك لكي يفسروا ظاهرة التناقض بين أقوال الأئمة من أهل البيت وسيرتهم العلنية القائمة على الشورى والعلم المكتسب، وبين دعوى الإمامة الإلـٰـهية القائمة على النص والتعيين والعلم الإلـٰـهي الغيبي، والتي كان ينسبها الإماميون إلى أهل البيت سراً، ولما كان أهل البيت يتشددون في نفي تلك الأقوال المنسوبة إليهم كان الإماميون والباطنيون بصورة عامة يؤوِّلون كلامهم، ويتمسكون بادعاءاتهم المخالفة لهم تحت دعوى شدة التقية»([3]).
وقد كانت التقية سبباً رئيساً في الاختلافات والتناقضات في المذهب حتى على علمائكم.
قال جعفر الشاخوري ــ شيعي معاصر ــ مقرراً تلك المحنة: «إننا نجد كبار علماء الشيعة يختلفون في تحديد الروايات الصادرة تقية والروايات الصادرة لبيان الحكم الواقعي. خذ مثالاً على ذلك نجاسة الخمر: ففيما يفتي الكثيرون بالنجاسة ومنهم الشيخ الطوسي؛ لأنهم حملوا روايات الطهارة على التقية، نجد أن هناك من الفقهاء من يفتي بالطهارة كالمقدس الأردبيلي؛ لأنهم حملوا روايات النجاسة على التقية. وهذا يكشف عن التخبط في استخدام التقية لدى القدماء».
وقال: «لو أردنا غيره من عشرات الأمثلة لألفنا كتاباً خاصاً يؤكد فوضى تحديد موارد التقية التي تشبه فوضى ادعاءات الإجماع في مسائل الفقه، مما أدى إلى اختلاف كثير من فتاوى العلماء تبعاً لتحديد ما هي الروايات الصادرة عن التقية وغيرها»([4]).
وقال البحراني: «وما بلغ إليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية، وحث الشيعة على استشعار شعار التقية. فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل، لامتزاج أخباره بأخبار التقية، فصاروا صلوات الله عليهم ــ محافظة على أنفسهم وشيعتهم ــ يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم وأخبارهم وتحرى سيرهم وآثارهم([5]).
وقال البحراني أيضاً: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاءه رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان، قلت: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه». فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه، ولما تعجب زرارة من ذلك، لعلمه بفتواهم ؟م أحياناً بما يوافق العامة تقية، ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر، سخف مذهبهم في نظر العامة، وكذبوهم في نقلهم، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين، وهانوا في نظرهم. بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم، فإنهم يصدقونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم، ويصير ذلك سبباً لثوران العداوة»([6]).
عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده أبو حنيفة فقلت له: جُعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة، فقال لي: «يا ابن مسلم هاتها، فإن العالم بها جالس»، وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، قال: فقلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي، فكسرت جَوْزاً كثيراً، وَنَثَرَتْهُ علي، فتعجبت من هذه الرؤيا، فقال أبو حنيفة: «أنت رجل تخاصم وتجادل لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نَصَبٍ شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله». فقال أبو عبد الله عليه السلام: «أصبت والله يا أبا حنيفة»، قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت: جُعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: «يا ابن مسلم لا يَسُؤك الله، فما يواطي تعبيرُهم تعبيرنا، ولا تعبيرنا تعبيرهم، وليس التعبير كما عبره»، قال: فقلت له: جعلت فداك، فقولك: أصبت، وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم حلفت عليه أنه أصاب الخطـأ»([7]).
وقال الكليني أيضاً: «عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين»([8]).
وعن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: «التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له»([9]).
قال محمد بن الحسن الصفار: عن مروان عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن أمرنا سِرٌّ في سر، وسِرٌّ مُسْتَسِر، وسِرٌّ لا يفيد إلا سراً، وسُرٌّ على سرٍ، وسِرٌّ مُقَنَّعٌ بِسِرٍّ»([10]).
وأخيراً:
يعترفون بأن المانع من الاعتراف بالتحريف هو التقية، وأن المانع من التقريب هو التقية... إلخ.
فالمانع من ذكر الآيات المحرفة هو التقية كما يقول الطبرسي: «وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر، الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الائتمار لهم والرضا بهم؛ ولأن أهل الباطل في القديم والحديث أكثر عدداً من أهل الحق»([11]).
ويقول أحمد الكاتب مقرراً أن التقية من أكبر العوائق، والتحديات للتقريب بين الفريقين، فيقول([12]): «لا بد أن نشير إلى موضوع مهم في العلاقات الشيعية السُّنِّية، وهو موضوع «التقية» الذي لعب دوراً سلبياً في تعكير العلاقات بين الطرفين، وأصبح عقدة لدى الكثير من أهل السُّنَّة في التعامل مع إخوانهم الشيعة، حتى إن بعض السُّنَّة يتهمون أي شيعي يقترب منهم، ويعلن تخليه عن الأفكار المتطرفة، أو يعلن احترامه للصحابة مثلاً، بأنه يمارس التقية. وبالرغم من أني شخصياً أعلنت رفضي للفكر الإمامي ولمبدأ التقية، وكتبت مُفَنِّداً للكثير من النظريات الإمامية، فقد واجهتُ تشكيكاً من بعض السُّنَّة بحقيقة موقفي».
قلت: وأهل السُّنَّة معذورون في هذا ولا شك.
([1]) «الكافي» (2/219)، «من لا يحضره الفقيه» (3/363)، «كمال الدين» (ص346)، و«بحار الأنوار» (75/395).
([2]) «تطور الفكر السياسي الشيعي» (ص8).
([3]) «حركة العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية» لجعفر الشاخوري (ص72 ــ 75).
([4]) «الحدائق الناضرة» (1/15، 16).
([5]) «الحدائق الناضرة» (1/5،6).
([11]) «السُّنَّة والشيعة» (ص50).
([12]) «باب الحائر وفضله» حديث (10)، «كامل الزيارات» (ص280)، باب رقم (88)، «فضل كربلاء» لابن قولويه القمي.