مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [90]

17 ربيع الأول سنة 1330 هـ

لئن صدعت بالحق، ولم تخش فيه لومة الخلق، فأنت العذق المرجب، والجذل المحكك، وإنك لأعلىٰ ــ من أن تلبس الحق بالباطل ــ قدرا، وأرفع ــ من أن تكتم الحق ــ محلا، وأجل من ذلك شانا، وأبر وأطهر نفساً.

أمرتني ــ أعزك الله ــ أن أرفع إليك سائر الموارد التي آثروا فيها رأيهم علىٰ التعبد بالأوامر المقدسة، فحسبك منها سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلىٰ غزو الروم، وهي آخر السرايا علىٰ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اهتم فيها ــ بأبي وأمي ــ اهتماما عظيماً، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها، وحضهم علىٰ ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافا لعزائمهم واستنهاضا لهممهم، فلم يبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم، إلا وقد عبأه بالجيش وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدىٰ عشر للهجرة، فلما كان من الغد دعا أسامة، فقال له: «سر إلىٰ موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا علىٰ أهل ابنىٰ، وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك».

فلما كان اليوم الثامن والعشرين من صفر، بدأ به صلى الله عليه وآله وسلم مرض الموت فحم ــ بأبي وأمي ــ وصدع، فلما أصبح يوم التاسع والعشرين ووجدهم مثاقلين، خرج إليهم فحضهم علىٰ السير، وعقد صلى الله عليه وآله وسلم اللواء لأسامة بيده الشريفة تحريكا لحميتهم، وإرهافا لعزيمتهم، ثم قال: «اغز بسم الله وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله». فخرج بلوائه معقوداً، فدفعه إلىٰ بريدة، وعسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في جوب إسراعهم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اغز صباحا علىٰ أهل أبنىٰ». وقوله: «وأسرع السير لتسبق الأخبار». إلىٰ كثير من أمثال هذه الأوامر التي لم يعملوا بها في تلك السرية.

وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقالوا في ذلك فأكثروا، مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له يومئذ: «فقد وليتك هذا الجيش». ورأوه يعقد له لواء الإمارة ــ وهو محموم ــ بيده الشريفة، فلم يمنعهم ذلك من الطعن في تأميره حتىٰ غضب صلى الله عليه وآله وسلم من طعنهم غضبا شديداً، فخرج ــ بأبي وأمي ــ معصب الرأس، مدثرا بقطيفته، محموما ألما، وكان ذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول قبل وفاته بيومين، فصعد المنبر فحمد الله وأثنىٰ عليه، ثم قال ــ فيما أجمع أهل الأخبار علىٰ نقله، واتفق أولوا العلم علىٰ صدوره ــ: «أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايم الله إنه كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها».

وحضهم علىٰ المبادرة إلىٰ السير، فجعلوا يودعونه ويخرجون إلىٰ العسكر بالجرف، وهو يحضهم علىٰ التعجيل، ثم ثقل في مرضه، فجعل يقول: «جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة، أرسلوا بعث أسامة»، يكرر ذلك وهم مثاقلون، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربع الأول دخل أسامة من معسكره علىٰ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره بالسير قائلا له: «اغد علىٰ بركة الله تعالىٰ».

فودعه وخرج إلىٰ المعسكر، ثم رجع ومعه عمر وأبو عبيدة، فانتهوا إليه وهو يجود بنفسه، فتوفي ــ روحي وأرواح العالمين له الفداء ــ في ذلك اليوم. فرجع الجيش باللواء إلىٰ المدينة الطيبة، ثم عزموا علىٰ إلغاء البعث بالمرة، وكلموا أبا بكر في ذلك، وأصروا عليه غاية الإصرار، مع ما رأوه بعيونهم من اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إنفاذه، وعنايته التامة في تعجيل إرساله، ونصوصه المتوالية في الإسراع به علىٰ وجه يسبق الأخبار، وبذله الوسع في ذلك منذ عبأه بنفسه وعهد إلىٰ أسامة في أمره، وعقد لواءه بيده إلىٰ أن احتضر ــ بأبي وأمي ــ فقال: «اغد علىٰ بركة الله تعالىٰ»، كما سمعت، ولولا الخليفة لأجمعوا يومئذ علىٰ رد البعث، وحل اللواء، لكنه أبىٰ عليهم ذلك. فلما رأوا منه العزم علىٰ إرسال البعث، جاءه عمر بن الخطاب حينئذ يلتمس منه بلسان الأنصار أن يعزل أسامة، ويولي غيره. هذا ولم يطل العهد منهم بغضب النبي وانزعاجه من طعنهم في تأمير أسامة، ولا بخروجه من بيته بسبب ذلك محموما ألما معصبا مدثراً، يرسف في مشيته، ورجله لا تكاد تقله، مما كان به من لغوب، فصعد المنبر وهو يتنفس الصعداء، ويعالج البرحاء، فقال: «أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله أنه كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها»، فأكد صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بالقسم وإن اسمية الجملة ولام التأكيد ليقلعوا عما كانوا عليه، فلم يقلعوا، لكن الخليفة أبىٰ أن يجيبهم إلىٰ عزل أسامة، كما أبىٰ أن يجيبهم إلىٰ الغاء البعث، ووثب فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتأمرني أن أنزعه.

ولما سيروا الجيش ــ وما كادوا يفعلون ــ، خرج أسامة في ثلاثة آلاف مقاتل فيهم ألف فرس، وتخلف عنه جماعة ممن عبأهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيشه. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم ــ فيما أورده الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب «الملل والنحل»: «جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه».

وقد تعلم إنهم إنما تثاقلوا عن السير أولا، وتخلفوا عن الجيش أخيرا، ليحكموا قواعد سياستهم، ويقيموا عمدها، ترجيحا منهم لذلك علىٰ التعبد بالنص، حيث رأوه أولىٰ بالمحافظة، وأحق بالرعاية، إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير، ولا بتخلف من تخلف منهم عن الجيش، أما الخلافة فإنها تنصرف عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلىٰ الغزوة قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ــ بأبي وأمي ــ أراد أن تخلو منهم العاصمة، فيصفو الأمر من بعده لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علىٰ سكون وطمأنينة، فإذا رجعوا وقد أبرم عهد الخلافة، وأحكم لعلي عقدها، كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد.

وإنما أمر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة لأعنة البعض، وردا لجماح أهل الجماح منهم، واحتياطا علىٰ الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس لو أمر أحدهم، كما لا يخفىٰ، لكنهم فطنوا إلىٰ ما دبر صلى الله عليه وآله وسلم، فطعنوا في تأمير أسامة، وتثاقلوا عن السير معه، فلم يبرحوا من الجرف حتىٰ لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بربه، فهموا حينئذ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة، وبعزل أسامة أخرىٰ، ثم تخلف كثير منهم عن الجيش كما سمعت. فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها بالنصوص الجلية، إيثارا لرأيهم في الأمور السياسية، وترجيحا لاجتهادهم فيها علىٰ التعبد بنصوصه صلى الله عليه وآله وسلم، والسلام. «ش».