مراجعة الشيعي عبدالحسين 74
28-03-2023
مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [74]
15 صفر سنة 1330 هـ
أبيت ــ أيدك الله ــ إلا التفصيل، حتىٰ اضطررتني إليه، وأنت عنه في غنية تامة لعلمك بأنا من هاهنا أتينا وإن هنا مصرع الوصية، ومصارع النصوص الجلية، وهنا مهالك الخمس والإرث والنحلة، وهاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، حيث جابت في حرب أمير المؤمنين الأمصار، وقادت في انتزاع ملكه وإلغاء دولته ذلك العسكر الجرار. وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فالاحتجاج علىٰ نفي الوصية إلىٰ علي بقولها ــ وهي من ألد خصومه ــ مصادرة لا تنتظر من منصف، وما يوم علي منها بواحد، وهل إنكار الوصية إلا دون يوم الجمل الأصغر ويوم الجمل الأكبر، اللذين ظهر بهما المضمر، وبرز بهما المستتر، ومثل بهما شأنها من قبل خروجها علىٰ وليها، ووصي نبيها، ومن بعد خروجها عليه إلىٰ أن بلغها موته، فسجدت لله شكراً، ثم أنشدت:
فألقت عصاها واستقر بها النوىٰ
كما قر عينا بالإياب المسافر
وإن شئت ضربت لك من حديثها مثلاً يريك أنها كانت في أبعد الغايات، قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واشتد به وجعه، خرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس بن عبدالمطلب ورجل آخر، قال المحدث عنها ــ وهو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ــ فأخبرت عبد الله بن عباس عما قالت عائشة، فقال لي ابن عباس: هل تدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ قال، قلت: لا. قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. ثم قال: إن عائشة لا تطيب له نفساً بخير. اهـ
قلت: إذا كانت لا تطيب له نفساً بخير، ولا تطيق ذكره فيمن مشىٰ معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطوة، فكيف تطيب له نفساً بذكر الوصية، وفيها الخير كله؟
وأخرج الإمام أحمد من حديث عائشة في (6/113) من «مسنده» عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل فوقع في علي وفي عمار عند عائشة، فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئاً، وأما عمار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول فيه: «لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما» اهـ.
وي وي، تحذر أم المؤمنين من الوقيعة بعمار لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما». ولا تحذر من الوقيعة في علي وهو أخو النبي ووليه، وهارونه ونجيه، وأقضىٰ أمته، وباب مدينته، ومن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، أول الناس إسلاماً، وأقدمهم إيماناً، وأكثرهم علماً، وأوفرهم مناقب. وي، كأنها لا تعرف منزلته من الله عز وجل، ومكانته من قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومقامه في الإسلام وعظيم عنائه، وحسن بلائه، وكأنها لم تسمع في حقه من كتاب الله وسنة نبيه شيئاً يجعله في مصاف عمار، ولقد حار فكري والله في قولها: «لقد رأيت النبي وإني لمسندته إلىٰ صدري، فدعا بالطست، فانخنث فمات، فما شعرت فكيف أوصىٰ إلىٰ علي؟
وما أدري في أي نواحي كلامها هذا أتكلم، وهو محل البحث من نواحي شتىٰ، وليت أحداً يدري كيف يكون موته ــ بأبي وأمي ــ وهو علىٰ الحال التي وصفتها دليلاً علىٰ أنه لم يوص، فهل كان من رأيها أن الوصية لا تصح إلا عند الموت، كلا، ولكن حجة من يكابر الحقيقة داحضة كائناً من كان، وقد قال الله عز وجل مخاطباً لنبيه الكريم، في محكم كتابه الحكيم: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ﴾ [البَقَرَة: 180]، فهل كانت أم المؤمنين تراه صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الله مخالفاً؟ وعن أحكامه صادفاً؟ معاذ الله وحاشا لله، بل كانت تراه يقتفي أثره، ويتبع سوره، سباقا إلىٰ التعبد بأوامره ونواهيه، بالغاً كل غاية من غايات التعبد بجميع ما فيه، ولا أشك في أنها سمعته يقول: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» اهـ.
أو سمعت نحوا من هذا، فإن أوامره الشديدة بالوصية مما لا ريب في صدوره منه، ولا يجوز عليه ولا علىٰ غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، أن يأمروا بالشيء، ثم لا يأتمرون به، أو يزجروا عن الشيء، ثم لا ينزجرون عنه، تعالىٰ الله عن إرسال من هذا شأنه علواً كبيراً.
أما ما رواه «مسلم» وغيره عن عائشة إذ قالت: «ما ترك رسول الله ديناراً ولا درهماً، ولا شاة ولا بعيراً ولا أوصىٰ بشيء» فإنما هو كسابقه، علىٰ أنه يصح أن يكون مرادها أنه ما ترك شيئاً علىٰ التحقيق، وأنه إنما كان صفراً من كل شيء يوصي به، نعم لم يترك من حطام الدنيا ما يتركه أهلها، إذ كان أزهد العالمين فيها، وقد لحق بربه عز وجل وهو مشغول الذمة بدين وعدات، وعنده أمانات تستوجب الوصية، وترك مما يملكه شيئاً يقوم بوفاء دينه، وإنجاز عداته ويفضل عنهما شيء يسير لوارثه، بدليل ما صح من مطالبة الزهراء بإرثها عليها السلام.
علىٰ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك من الأشياء المستوجبة للوصية ما لم يتركه أحد من العالمين، وحسبك أنه ترك دين الله القويم في بدء فطرته وأول نشأته، ولهو أحوج إلىٰ الوصي من الذهب والفضة، والدار والعقار، والحرث والأنعام، وأن الأمة بأسرها ليتاماه وأياماه المضطرون إلىٰ وصيه ليقوم مقامه في ولاية أمورهم، وإدارة شؤونهم الدينية والدنيوية ويستحيل علىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوكل دين الله ــ وهو في مهد نشأته ــ إلىٰ الأهواء، أو يتكل في حفظ شرائعه علىٰ الآراء، من غير وصي يعهد بشؤون الدين والدنيا إليه، ونائب عنه يعتمد ــ في النيابة العامة ــ عليه، وحاشاه أن يترك يتاماه ـ وهم أهل الأرض في الطول والعرض ــ كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ليس لها من يرعاها حق رعايتها، ومعاذ الله أن يترك الوصية بعد أن أوحي بها إليه، فأمر أمته بها وضيق عليهم فيها.
فالعقل لا يصغي إلىٰ إنكار الوصية مهما كان منكرها جليلاً، وقد أوصىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلىٰ علي في مبدأ الدعوة الإسلامية، قبل ظهورها في مكة حين أنزل الله سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، كما بيناه ــ في المراجعة (20) ــ ولم يزل بعد ذلك يكرر وصيته إليه، ويؤكدها المرة بعد المرة بعهوده التي أشرنا فيما سبق من هذا الكتاب إلىٰ كثير منها، حتىٰ أراد وهو محتضر ــ بأبي وأمي ــ أن يكتب وصيته إلىٰ علي تأكيداً لعهوده اللفظية إليه، وتوثيقاً لعرىٰ نصوصه القولية عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً». فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله اهـ.
وعندها علم صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبق ــ بعد كلمتهم هذه ــ أثر لذلك الكتاب إلا الفتنة، فقال لهم: «قوموا». واكتفىٰ بعهوده اللفظية، ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث: أن يولوا عليهم علياً، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه. لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين أن يحدثوا بوصيته الأولىٰ، فزعموا أنهم نسوها.
قال البخاري في آخر الحديث المشتمل علىٰ قولهم: هجر رسول الله ما هذا لفظه: «وأوصىٰ عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزه. ــ ثم قال ــ ونسيت الثالثة». وكذلك قال مسلم في «صحيحه»، وسائر أصحاب «السنن» والمسانيد.
أما دعوىٰ أم المؤمنين بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحق بربه تعالىٰ وهو في صدرها؛ فمعارضة بما ثبت من لحوقه صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلىٰ وهو في صدر أخيه ووليه علي بن أبي طالب، بحكم الصحاح المتواترة عن أئمة العترة الطاهرة، وحكم غيرها من صحاح أهل السنّة كما يعلمه المتتبعون، والسلام. «ش».