قصة يوسف عليه السلام
26-02-2023
قصة يوسف ذكرها الله تبارك وتعالى مفصلة في سورة طويلة سميت باسمه؛ وقال بعض أهل العلم: قراءتُها تغني عن تفسيرها، والذي يقرأ سورة يوسف يفهمها تماماً، وما تحتاج إلى تفسير، لكن التفسير يأتي بذكر الفوائد وبعض النكت وبعض الأشياء التي تحتاج إلى توضيح زائد، وأما جملة القصة؛ فإنها واضحة لكل أحد، ولذلك يلتذُّ الجميع بقراءة هذه السورة، فناسب أن يكون كلامنا عن هذه السورة مفصلاً حتى نستخرج منها الفوائد والعبر.
وقد اشتملت قصة يوسف صلوات الله وسلامه عليه على الجليل من الأحكام والحكم والآداب، وفيها كذلك من مكر النساء وكيدهنَّ وكيد الرجال كذلك، وفيها من تدبير الخطط وحسن العاقبة، وصبر الأنبياء، وبيان أن الحذر لا يُنْجِي من القدر، وكذلك أمور أخرى كثيرة سنجدها واضحة جلية عند قراءتنا لهذه القصة العجيبة.
التعريف بيوسف عليه السلام:
سُئِلَ رسول الله ﷺ عن يوسف فقال: «هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم»([1])، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، نعمت الذرية والله، ويوسف عليه الصلاة والسلام كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» أعطاه الله شطر الحسن([2])، شطر الجمال لا يمكن لأحد منا أن يتصور هذا الجمال، ويكفينا أن نعرف أن النساء لما دخل عليهنَّ يوسف قطَّعْنَ أيديهن، وهنَّ يرينه منبهرات بجماله صلوات الله وسلامه عليه، بل قلنَ: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ لجماله صلوات الله وسلامه عليه، أعطاه الله ــ جل وعلا ــ جمالاً ظاهراً، «شطر الحسن» وأعطاه جمالاً باطناً من التقوى والخلق العظيم.
قال الله ــ جل وعلا ــ في بداية هذه السورة لنبيه محمد ﷺ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ﴾، وعلى الصحيح أن أحسن القصص ليست قصة يوسف فحسب، وإنما المقصود: مجمل القصص ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ﴾ قصة يوسف، قصة إبراهيم، قصة موسى، قصة عيسى، قصة شعيب، قصة آدم، قصة صالح، قصة هود، ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ﴾ .
بداية قصة يوسف عليه السلام:
بدأت قصة يوسف صلوات الله وسلامه عليه عندما رأى رؤيا عجيبة ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، عرف يعقوب لما أعطاه الله ــ جل وعلا ــ من علم أن هذه الرؤيا حق، وعرف أنها بُشْرى نبوة، وأن يوسف صلوات الله وسلامه عليه سيكون نبياً، فخاف عليه من إخوته، وكان يوجس منهم شراً، فقال: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ .
وجاء في كتب أهل الكتاب أن يوسف قَصَّها على إخوته، والله سبحانه ما ذكر لنا ذلك، والظاهر أنه استجاب لأمر أبيه، فلم يقص هذه القصة على إخوته.
عندها قال له أبوه: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ هذا اجتباء يا يوسف ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ﴾ ؛ أي: كما أراك الله ــ جل وعلا ــ هذه الرؤيا العظيمة، فإذا كتمتها سيجتبيك ربك، ويخصك بأنواع اللطف سبحانه وتعالى ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بالوحي فتصير نبياً ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ بسببك أنت، فلا تقص هذه الرؤيا على إخوتك.
قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾، آيات بينات واضحات وعلامات على صدق محمد ﷺ كيف؟ رجل أمي عاش في مكة، وما خرج منها إلا مرة لتجارة قصيرة، ورجع ثم يأتي يقصُّ هذه القصة بتفاصيل دقيقة تعجب منها أهل الكتاب، بل كتموا أشياء منها كقصة يوسف مع امرأة العزيز فذكرها محمد ﷺ، آيات على صدقه صلوات الله وسلامه عليه حيث قصَّ هذه القصة بهذا الجمال، وهذه التفاصيل ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ﴾ أي: في قصك لقصة يوسف وإخوته ﴿آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ الذين يسألونك عن أخبار ما قد سبق.
بداية البلاء مع إخوة يوسف عليه السلام:
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، اجتمع إخوة يوسف وهم متضايقون، فقال بعضهم لبعض: يوسف وأخوه بنيامين ابنا راحيل أحبُّ إلى أبينا منا ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أي: جماعة مجتمعة، فألقى الشيطان في قلوبهم الحقدَ والحسد على يوسف صلوات الله وسلامه عليه، ثم اتهموا أباهم النبيَ الكريم، فقالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وهذا لا يقوله أنبياء أبداً، ولا يقال هنا: إنهم لم يصيروا أنبياء بعد؛ لأن الله تبارك وتعالى يختار الأنبياء منذ نعومة أظفارهم، ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ .
والسؤال هنا: هل كان يوسف فعلاً أحبَّ إلى أبيه منهم؟ فإذا كان الجواب: بنعم، فلِمَ؟ لِمَ كان يوسف أحبَّ إلى أبيه منهم؟
الجواب: نعم يوسف كان أحبَّ إلى أبيه من إخوته.
قال أهل العلم: يمكن أن يجاب عن هذا بخمسة أجوبة:
الجواب الأول: أن الحُبَّ شيء فطري لا يملكه الإنسان: فلا يملك الإنسان أن يحب أو أن يبغض إلا إذا كان في الدِّين، أما المحبة الفطرية؛ فهذه لا يملكها الإنسان، فقلبك ليس في يديك، وإنما يرغمك أحياناً على أشياء لا تريدها لحب في قلبك لشخص ما، ولذلك ترى نفسك أنك تعاقب شخصاً على فعل لو فعله غيره ممن تحب ما عاقبته، ولذا قيل:
وإذا أتى الحبيب بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
فله في القلب محبة لا يملكها الإنسان، ولذا جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تلمني على ما لا أملك»([3])، فالقصد أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يحب يوسف حباً فطرياً، وهذا لا يلام عليه إذا كان يعدل في المعاملة، وهذا الذي نجزم به في حق نبي الله يعقوب صلوات الله وسلامه عليه.
الجواب الثاني: صغرُ السن: فكما قلنا: إن راحيل ولدت يوسف وأخاه آخر شيء، فهما صغيران، وهذا أمر فطري في القلب، ومعاملته للصغير تظهر أنه يحبه أكثر، فهم كانوا متوهمين في دعواهم أن يوسف وأخاه أحب إلى أبيهم منهم.
الجواب الثالث: سئلت امرأة: من أحب أولادك إليكِ؟ قالت: المريض حتى يشفى، والمسافر حتى يعود، والصغير حتى يكبر.
فهذا أمر طبيعي دائماً، فتجد الأم أو الأب يفكران في الغائب أكثر من الحاضر، وفي المريض أكثر من المعافى، وفي الصغير أكثر من الكبير، وهذا أمر طبيعي في الإنسان.
الجواب الرابع: أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يرى في يوسف آثار النجابة ــ كما قلنا ــ، فأعطاه الله ــ تبارك وتعالى ــ جمال الظاهر، وجمال الباطن، فكان يرى فيه هذه الآثار الطيبة، فأحبه لحسن خلقه، ولدينه، ولنجابته، وهكذا.
الجواب الخامس: للرؤيا التي رآها يوسف صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أن يعقوب عَلِمَ أن ولده يوسف سيكون نبياً، فلذلك كان يحنو عليه، ويحرص عليه، ويرعاه، ويخاف عليه؛ لأنه سيكون له شأن عظيم عند الله ــ جل وعلا ــ.
وقد قيل: إن أمهما قد ماتت، فإن صحَّ هذا فهو سبب سادس لزيادة الرعاية لفقدان الأم، فكانا فاقِدَي الأم ــ أعني يوسف وبنيامين ــ، فكان الأب يحنو عليهما ليعوض حنان الأم الذي فقده يوسف وأخوه.
التآمر على يوسف عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، هذه مشكلة، وكل مشكلة تحتاج إلى حل، ما حلكم؟ قالوا: ﴿ٱقْتُلُوا يُوسُفَ﴾، هذا هو الحل، وبديل آخر ﴿أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾، والنتيجة ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ إذاً مشكلة، وحل، ونتيجة:
المشكلة: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾، والحل ﴿ٱقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾، والنتيجة ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾، إذاً معادلة واضحة، ثم ماذا؟ هذه معصية، أخوكم، ألا تخافون الله؟! ألا تخافون العذاب؟! ألا تخافون الحساب؟! قالوا: نتوب بعد ذلك ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ بعد أن نقتل يوسف أو نلقيه أرضاً ويخلُ لنا وجه أبينا ونكون قد نِلْنا ما أردنا؛ نتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ونكون من بعده قوماً صالحين.
فهل هذه المشكلة يحتاج حلها إلى قتل يوسف؟! وهل قتل يوسف حلٌ لهذه المشكلة؟! ليس الأمر كذلك، ولذلك ألقوا يوسف في الجب كما سيأتي، فهل خلا لهم وجه أبيهم؟! بل قال أبوهم: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾، إذاً ما خلا لهم وجه أبيهم، بل حزن عليه، وغضب عليهم ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ هل تابوا إلى الله تبارك وتعالى؟ يحتمل أنهم تابوا إلى الله ــ جل وعلا ــ، وهو الظاهر في قول الله تبارك وتعالى ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾، وفي قولهم لأبيهم: ﴿يَاأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾، فهم تابوا إلى الله تبارك وتعالى ولكن متى؟ بعد سنين عدداً، فماذا لو مات أحدهم قبل ذلك؟ ولكن هل هذا الأمر متهيئ لكل أحد؟!
وهل يجوز لكل أحد إذا أراد أن يقدم على معصية أن يقول: أفعل المعصية ثم أتوب!! إنّ هذا الأمر إن وُفِّقَ له إخوة يوسف فقد لا يوفق إليه غيرهم، ولذلك ينبغي ألا يقدم الإنسان على مثل هذه المعاصي ثم يقول أكون بعدها من القوم الصالحين؛ لأنه يحتاج إلى أن يضمن ثلاثة أشياء:
أولاً: أن يعيش إلى أن يصير صالحاً، فقد يموت قبل أن يتوب.
يخوضُ الشيخُ في بحرِ المنايا ويرجع سالماً والبحر طامي
ويأتي الموتُ طفلاً في مَهُودٍ فيلقى حَتْفَهُ قبل الفطام
ثانياً: أن يضمن أن يوفق إلى التوبة، فقد لا يوفق الإنسان إلى التوبة؛ لأن من شؤم المعصية أنها تجلب المعصية، والمعصية تجلب المعصية، وهكذا حتى يهلك الإنسان والعياذ بالله، وذلك أن التوبة توفيق من الله ــ جل وعلا ــ.
ثالثاً: أن يضمن أن الله عز وجل يقبل هذه التوبة، فقد لا يقبل الله التوبة، وقد تكون هناك موانع من قبول هذه التوبة لا يوفق الإنسان إلى إزالتها، فلا تُقْبل توبته عند الله ــ جل وعلا ــ.
وهنا خططوا ثم عرضوا المشكلة، ووضعوا الحل، وتوقعوا النتيجة النهائية، وما ذنب يوسف؟ هل أذنب يوسف شيئاً؟ أبداً ولكن الإنسان إذا أراد أن يعاقب فإنه يعاقب المذنب ــ في نظره على الأقل ــ فما ذنب يوسف أن أباه يحبه؟!
وهل هذا ذنب ليوسف صلوات الله وسلامه عليه؟! وما هذا إلا أن الشيطان أعمى بصائرهم حتى لم يروا الحق، فجمعوا بين الجريمة والظلم.
هنا قال قائل منهم: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ هناك حل آخر يمكن أن تصلوا به إلى نفس النتيجة، ويخلو لكم به وجه أبيكم، قال: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ﴾ ويذهبون به، وكان هذا القائل أبرَّهم وأتقاهم لله، وأحناهم على يوسف، وإن كان قد اشترك في الجريمة، ولكن كما قيل:
................................... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
فهذا الشر الذي جاء من هذا الأخ ــ وهو إلقاء يوسف في الجُبِّ ــ أهون وأخف من الشر الذي كان يعزم عليه بقيّة الإخوة ــ وهو قتل يوسف عليه السلام ــ، فهناك حلٌ آخر تصلون فيه إلى مبتغاكم، ولا تُؤذون يوسف هذا الإيذاء، خاصةً أنه لم يصلْ إليكم منه شرٌ، ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ﴾، أي: السائرين، وترتاحون منه، ولا يُقْتل، واختاروا هذا الرأي؛ لأن الإنسان مهما بلغ من الشر فإن فيه بذرة خير، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، فبذرةُ الخير ظهرت هنا حينما طلب منهم أحدهم ألا يقتلوه، وظهرت حين وافقوا على هذا الاقتراح، وقرروا إلقاء يوسف صلوات الله وسلامه عليه في الجُبِّ.
إلقاء يوسف عليه السلام في الجُبِّ:
اتفقوا على هذه القضية وهي أن يُلقى يوسف في الجُبِّ، فذهبوا إلى أبيهم، فقالوا: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾، نحن ناصحون له، وأبوهم لم يكن يرى ذلك، ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾، نريد أن يذهب معنا لمصلحته، يرتع ويلعب، ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ .
فقال يعقوب: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾، ولم يقل: أخاف عليه منكم، مع أنه يخاف عليه منهم كما مرَّ بنا ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾، فكان يتوجس منهم شراً، ولكنه كذلك لا يستطيع أن يظهر لهم هذا التوجس؛ حتى لا يقدموا على أمر عظيم في شأن يوسف، ولم يكن يعلم ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ أنهم فعلاً قد أقدموا على هذا العمل العظيم، وهو قتل ابنه يوسف، فاعتذر لهم، وقال: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ ما أرى مفارقته، ولعل هذه الكلمة زادتهم غيظاً، فنحن نفارقك ولا تحزن، وهو يفارقك فتحزن! ثم ماذا؟ ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ﴾ أنتم تدافعون عن أنفسكم، فأنتم أقوياء وكبارــ وهو صغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
فقالوا: ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ وهنا يعقوب عليه السلام عندما قال: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ﴾ أعطاهم الحلَّ بصورةٍ غير مباشرة، أعطاهم حلاً لمشكلتهم أنهم إذا ألقوا يوسف في الجُبِّ ماذا يقولون؟ فقالوا: نقول: أكله الذئب، أنت كنتَ تخاف من الذئب، وقد أكله الذئب، فسيصدق هذه مباشرةً.
إلقاء يوسف عليه السلام في الجبِّ:
وذهبوا به من الغد ثم قالوا ماذا نفعل؟ قالوا: كما اتفقنا نلقيه في الجُبِّ، فجاؤوا ليوسف وأرادوا أن يلقوه، فقال: أنا أخوكم كيف تصنعون بي هذا؟!
قالوا: ليس عليك ذنب، الذنب ذنب أبيك، وليس لك ذنب، ثم ألقوه في الجُبِّ صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا أذكياء، فنزعوا قميصه قبل أن يلقوه في الجُبِّ، وألقوه بدون هذا القميص، ثم ذبحوا عجلاً أو تيساً، ولطّخوا القميص بالدم، وقالوا: حتى نقول لأبينا إن الذئب قد أكله.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ بكاء التماسيح، يبكون كذباً وزوراً.
قيل لأحد القضاة لما جاءه رجل يشكو ويبكي، فقال قائل: والله إني آراه صادقاً، قال القاضي: لِمَ؟ قال: يبكي، فقال القاضي: إخوة يوسف ذهبوا يبكون وهم كاذبون.
قال الله تعالى: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ أنت دائماً تتهمنا بالكذب، وضعوه في زاوية ضيقة: أنت لا تصدق ما نقول: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قالوا: تريد الدليل؟ هذا هو الدليل، أليس هذا قميص يوسف؟ قال: بلى، قالوا: مُلَطَّخٌ بدمه، أكله الذئب، قال: سبحان الله! ذئب أكل يوسف ولطخ قميصه بالدماء ولم يشقق القميص؟!! نسوا أن يشقوا القميص، قميصٌ غير مشقق ملطخ بالدماء، ويقولون: هذا قميص يوسف الذي أكله الذئب، وهو يلبسه.
وهذه تسمى بالجريمة الناقصة، فلا توجد على وجه الأرض جريمة كاملة، فكل مجرم لابد وأن يترك شيئاً يفضح جريمته، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله.
صبر نبي الله يعقوب عليه السلام:
لما رأى يعقوب القميص سليماً لم يُشق قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ كاذبون ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ لا يملك إلا أن يقول: صبر جميل ﴿وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ .
وقول يعقوب: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ يدل على صبر عظيم عند البلاء وتفويض لأمر الله تبارك وتعالى وعدم الجزع، وعرف أن إخوته كادوا به صلوات الله وسلامه عليه، ومع هذا قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾، فصَبَرَ على هذا البلاء صلوات الله وسلامه عليه، ولم يجزع.
أخرج الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها لما رُميت بالإفك واتُّهمت بالزنا في عرضها وفي شرفها رضي الله عنها، وجاءها النبي ﷺ وقال لها: «يا عائشة إن كنتِ ألممت بشيء فتوبي إلى الله، فإن التوبة تَجُب ما كان قبلها» قالت: والله لا أدري ما أقول، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف، تقول: ونسيتُ اسمه، وكان عمْرها في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة، فقالت: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ ([4]).
الحسد من أصول الذنوب:
هذا الذنب الذي وقع من إخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه سببه الحسد، فهم حسدوا يوسف على مكانته من أبيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصل الذنوب ثلاثة أسباب: الحسد، والكبر، والحرص»، فلو نظرتَ في ذنوب العباد لوجدتها تدور على هذه الأمور الثلاثة.
المرحلة الثانية من حياة يوسف عليه السلام:
لم تطلْ مدة يوسف في الجُبِّ على ظاهر القرآن، فإنه بمجرد أن رجعوا إلى أبيهم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ أي: قافلة تسير ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ أي: الذي يرد الماء ليأتي به، والظاهر أن هذه البئر دائماً يمرُّ عليها المسافرون، ولذلك عندما ألقوه في الجُبِّ قالوا: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ﴾، وذكر الله تبارك وتعالى أنهم بعد أن ألقوه جاءت سيارة، ولعلَّ إخوة يوسف كانوا يتابعون هذا الأمر، فلما رأى يوسف الدلو تعلق به، فلما رفع الرجل الدلو وإذا ليس فيه ماء، وإنما فيه غلام، فأخذ الغلام، وقال: ﴿يَابُشْرَى﴾، وفي قراءة «يا بشراي» ﴿هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾، ولم يقل وجعلوه بضاعة، وإنما قال: ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾ من الإسرار؛ أي: الإخفاء ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ شروه أي: باعوه بثمن قليل، والدليل على أنه قليل قوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ﴾ حين باعوه، مَنْ الذي باع؟ مَنْ الذي أسر؟ احتمالان:
الأول: أن إخوة يوسف كانوا يراقبون الوضع، ويخافون أن يرجعه أحد إلى أبيه، وتكون الفضيحة الكبرى، وهم الذين باعوه، قالوا: هذا عبد عندنا نبيعك إياه، ولزم يوسف الصمت خوفاً من إخوته، لأنهم كادوا أن يقتلوه، وخشي إن أخذه إخوته أن يرموه مرة ثانية في جُبِّ آخر أو يقتلوه، فما عاد يأمنهم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: من الجريمة البشعة؛ لأن بيع الحر من أكبر الجرائم، وقد تبرأ النبي ﷺ ممن باع حراً فأكل ثمنه([5])، ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ هذا هو الثمن البخس، وباعوه بثمن بخس؛ لأن المال لم يكن هماً بالنسبة لهم، فهم لا يريدون المال أصلاً، هم يريدون التخلص من يوسف ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ﴾ أي: إخوة يوسف عليه السلام.
الثاني: أن الذي جاء وألقى الدلو وخرج له الغلام أسره بضاعة هو ومن معه دون أن يُعْلِم بقية القافلة، ثم لما ذهبوا إلى مصر باعوه أيضاً دون أن يعلم الباقون، وباعوه بثمن بخس؛ لأنهم رابحون على كل حال، لا اشتروه بثمن، ولا تكلفوا فيه، وإنما وجدوه فباعوه، فعلى كل حال هم رابحون، ولذلك باعوه بثمن بخس للتخلص منه، وكذلك لأخذ المال المقابل.
بل لو قلنا: إنهم باعوه بثمن كثير؛ فهو بخس في حق نبي أن يباع صلوات الله وسلامه عليه([6]).
يوسف عليه السلام يدخل مصر:
دخل يوسف إلى مصر، وبدأت حياة جديدة، ومرحلة جديدة لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، إذاً باعه إخوة يوسف على القافلة ثم باعته القافلة في مصر أو أخذه الذين وجدوه ثم باعوه على أهل مصر.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِٱمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، وهذا تمكين من الله تبارك وتعالى، ولهذا يقول بعدها ــ جل وعلا ــ: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلْأَرْضِ﴾ تمكينٌ من الله تبارك وتعالى أن جعله في بيت هذا الرجل، جعله في بيت رجلٍ أحسن مثواه وأكرمه وأعطاه لزوجته، وقال لها: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ إذا كبُر ينفعنا، فإنْ لم ينفعنا بعمل فنتخذه ولداً على الأقل، وظاهر هذا الكلام أنه لم يكن لهما ولد، وقال ذلك بعد أن رأى في يوسف عليه السلام علامات الصلاح من حسن وجهه وكريم خُلقه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال عبد الله بن سلام لما دخل النبي ﷺ المدينة: فلما رأيته علمتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب([7])، وهذا بمجرد أن رأى يوسف ارتاحت نفسه إليه صلوات الله وسلامه عليه ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾، وهذا ما يسمى بالتبني، والتبني حرَّمه الإسلام، فقد تبنى النبي ﷺ زيد بن حارثة فصار يُنادى بزيد بن محمد حتى أنزل الله تبارك وتعالى قوله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ﴾، وقال: ﴿ٱدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ أما التبني بمعنى العناية والرعاية والعطف، وما شابه ذلك؛ فهذا جائز مباح أما التبني بحمل الاسم، فهذا لا يجوز أبداً أن يحمل اسماً غير اسم أبيه.
دخل يوسف عليه السلام بيت العزيز، قال عبد الله بن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز، لما قال: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾، وبنت الرجل الصالح لما قالت عن موسى عليه السلام: ﴿يَاأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ﴾، وأبو بكر لما جعل عمر مكانه عند وفاته رضي الله عنهما([8]).
يوسف عليه السلام وفتنة امرأة العزيز:
واستقرت الأمور ليوسف في هذا البيت، ولكن كما يقولون: الشيطان لم يَمُتْ، وبدأ الشيطان يؤدي دوره الذي تعهد أن يستمر عليه ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ﴾ [صٓ: 82-83]]، فبدأ الشيطان يعمل عمله حتى ألقى في قلب هذه المرأة أن تراود يوسف عن نفسه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ . تجهزتُ لك، الأمور كلها مهيأة حتى تقع الفاحشة.
فكان الجواب المباشر من يوسف صلوات الله وسلامه عليه ﴿قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾ وهكذا المؤمن، فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب؛ زاد وارتفع، فيجد الإنسان نفسه تبتعد ابتعاداً شديداً عن المعصية، وتنفر عنها كما تنفر الحمر حين ترى الأسد أو أشد.
قال: ﴿مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ مَنْ ربه؟ قيل: إنه أراد بربه الله ــ جل وعلا ــ ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ بعد أن ألقاني إخوتي في الجُبِّ، أخرجني ثم أكرمني في هذا البيت.
وقيل: الرب المقصود هو صاحب البيت، وهو العزيز كما قال عبد المطلب لما دخل على أبرهة وسأله عن إبله فقال: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه.
قال: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أكرمني فقد كنت أُباع فأكرمني، ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ﴾ وهذا العمل ظلم، ظلمٌ للنفس، وهو الوقوع في الزنا، وظلمٌ للرجل الذي أكرمني، والذي استأمنني على عورته وعلى أهله، وهذا يذكرنا بقول النبي ﷺ: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم النبي ﷺ: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله»([9])، هذا هو موقع يوسف عليه السلام، بل هو رأس هذه المجموعة.
وهكذا المسلم يلجأ إلى الله تبارك وتعالى دائماً ﴿مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾ أي: أستعيذ بالله، ألجأ إلى الله، ما لجأ إلى قوته، وإنما لجأ إلى القوي؛ لجأ إلى الحفيظ سبحانه وتعالى فحفظه.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوءَ وَٱلْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ * وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ﴾، يوسف تسابق معها أيهما يصل إلى الباب، هو يهرب إلى الباب، وهي تهرب خلفه، هو يريد الباب وهي تجري تريد يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فكان كالسباق، ولكنه ليس بسباق، فهو يريد شيئاً، وهي تريد شيئاً آخر. وعادة يكون السباق إلى شيء واحد، ولكن لما كانت شهوتها قد بلغت مداها صارت من سرعتها خلفه كأنها تريد أن تسبقه إلى ما يريد أن يذهب إليه، وهذا من جمال بيان القرآن.
وقد وقعت قصة مشابهة في هذه الحيثيات، فيُذكر أن رجلاً يقال له: عمرو بن قمئة ــ من قبيلة عربية ــ راودته زوجة عمه عن نفسه حيث خرج عمه إلى الصيد، فنادته امرأة عمه، فلما دخل عليها راودته عن نفسه، قال: عمي!! قالت: إن لم تفعل ما آمرك لأقولن لعمك إنك راودتني عن نفسي، وإنك حاولت الاعتداء عليّ، قال: عمي ولن أخونه في عرضه أبداً. قالت: هو ما قلته لك، قال: افعلي ما بدا لكِ، ثم خرج، وجاء عمه من الصيد، فقالت: ابن أخيك حاول أن يعتدي عليّ في غيبتك، فأخذ العم سيفه وذهب لابن أخيه ليقتله، فلما رأى الشرَّ في عين عمه، وأنه آتٍ إليه وقاتله لا محالة؛ صار بين ثلاثة أمور، أحلاها مُرٌّ:
الأمر الأول: إما أن يقف، فيقتله عمه.
الأمر الثاني: وإما أن يقول لعمه امرأتك هي التي راودتني عن نفسي، فيفضح عمه.
الأمر الثالث: وإما أن يهرب ويُتهم، فاختار أيسر الثلاثة، فهرب.
ويوسف صلوات الله وسلامه عليه كذلك رأى أنه إذا بقي والمرأة ثائرة؛ فإنه قد يحدث ما لا يُحمد عقباه، قد تمسه، قد تدفعه، قد يضربها، قد يُتهم بها صلوات الله وسلامه عليه، لذلك آثر السلامة بالهرب، وهذا على الصحيح أنه هو برهان ربه، أن الله تبارك وتعالى أوحى إليه: أنِ اهربْ، هذا هو الحل.
همّ يوسف عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، وهنا وقف المفسرون كثيراً، بِمَ همّت؟ وبِمَ همّ صلوات الله وسلامه عليه؟ على أقوال:
القول الأول: أنها همّت به بالفاحشة، وهمّ هو بالخاطر النفسي، أي: خطر في قلبه أن يقع منه ما تريد هي؛ أي: الفاحشة، قالوا: وهذا شيء جبلي طبيعي في الإنسان، فالإنسان الطبيعي تأتيه امرأة جميلة تغلق الأبواب تقول له: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾، فيميل إليها بطبعه، ثم تكون هناك أمور أخرى: إما أن يقع الزنا، وإما أن يتذكر خوفه من الله تبارك وتعالى، وإما أن تمنعه علاقة طيبة بزوجها، وإما موانع أخرى.
فالهمّ البشري الطبيعي موجود في كل إنسان، فكل رجل فيه ميل للمرأة، وكل امرأة فيها ميل للرجل، فإذاً هي همّت بالفاحشة همّاً فعلياً، وهو عليه السلام جاءه خاطر مجرد، وهذا الخاطر صرفه التقوى والدين والإيمان الذي في قلب يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
القول الثاني: أنه لم يقع أصلاً همّ من يوسف؛ لأنه جاء بعدها بــ﴿لَوْلَا﴾، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، همت به بالفاحشة، وهذا همٌّ متفق عليه؛ لأنها في البداية غلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، إذاً الأمر بالنسبة لها محسوم؛ ولكن الكلام في أمر يوسف، هل وقع همٌّ من يوسف أم لم يقع؟ قالوا: لم يقع همّ فعلي، حتى الهمّ النفسي لم يقع من يوسف، ولا حتى الخاطر؛ لأن الله قال بعدها: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وفي الآية تقديم وتأخير، فيكون التقدير: (ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها)، إذاً لم يهمّ هو؛ لأنه رأى برهان ربه، وهو أن يهرب، واستدلوا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ يعني: أم موسى صلوات الله وسلامه عليه، ويكون معنى الآية: لولا أن ربطنا على قلبها كادت لتبدي به؛ لأنها لم تبدِ به؛ لأن الله ربط على قلبها.
القول الثالث: أنها همّت لتضربه، وهمّ ليضربها، فليس الهمّ إذاً منها هو إرادة الزنا، ولكن الهمّ منها كان همّ الضرب، ولماذا تضربه؟!!
الجواب: لأنها صُدمتْ ودهشت؛ لأنها ما كانت تتوقع أبداً أن يردها، كأنها تقول: أنا امرأة العزيز، وبهذا الجمال، وأنت عبدٌ لي، وفي قَصْري، وأتهيأ لك، وأُغلِّق الأبواب، وأقول لك: هيت لك، وتردني؟!! فعزَّتْ عليها نفسها، كيف تُردّ؟! فجاءت لتضربه غضباً لما جرح من كبريائها، فيكون الهمّ منها لضربه، وهمّ كذلك ليضربها تأديباً لها على ما أرادت أن تفعل، ثم رأى برهان ربه ألا يفعل؛ لأنه لو ضربها لاتهموه بها، هو هرب واتُّهِمَ ولم يضربها، فكيف لو ضربها؟! لذلك قالوا: لم يُرِدْ الفاحشة، وإنما أراد أن يضربها، هذا هو الهمّ من يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وأياً كان الأمر فكلهم متفقون على أن يوسف لم يُرد الزنا أبداً، وأما الروايات المكذوبة التي تقول: أنه جلس منها مجلس الرجل من المرأة، أو أنه حل سراويله، والبرهان أنه رأى يعقوب عاضاً على أصبعه، رآه في الجدار، فهذا كله كذب، وإنما هذه من روايات بني إسرائيل التي فيها مطعن على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قميص يوسف عليه السلام:
هرب يوسف عليه السلام من امرأة العزيز، فلحقت به ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾ أي: جرته؛ لأنها تريده، فانشق قميصه بيدها ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾، يقول أهل العلم في اللغة: إذا كان الشق في الطول يقال له: «قَدّه»، وإذا كان الشق بالعرض يقولون: «قَطّه»، وإذا مزقه يقولون: «قَطَّعَه».
وقميص يوسف عجيب، قميص يوسف أخذه إخوة يوسف، وأعطوه لأبيهم وقالوا: أكله الذئب، وهنا يأتينا أيضاً قميص يوسف ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾ وسيأتينا أيضاً قميص يوسف ﴿ٱذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾، ولذلك يقول الإمام الشعبي رحمه الله تعالى: قصة يوسف في قميصه، دائماً يُذكر هذا القميص، مع أن القميص الذي أعطيه يعقوب؛ غير القميص الذي قدَّته امرأة العزيز، غير القميص الذي أُلقي على وجه يعقوب صلوات الله وسلامه عليه.
لما وصل يوسف إلى الباب وفتحه يريد الخروج ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ﴾ وسيدها: زوجها وكانوا في زمنهم يقولون للزوج: «سيد» ولم يقل: «سيدهما»، مع أن يوسف في الأصل عبد عندهما، ولكن الله تبارك وتعالى كما يقول أهل التفسير: أراد الله أن يبين أن مُلْكهم ليوسف خطأ، وغير صحيح؛ لأن يوسف حر، ولذلك لم يسمه سيداً ليوسف أبداً، بِيعَ وهو حر صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا شيء عجيب جداً من تصرف هذه المرأة واستعادتها لوعيها مباشرة لما رأتْ سيّدَها، قالت: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ أي: يوسف، مع أن الأمر واضح، فهو الذي فتح الباب عليه الصلاة والسلام وهي خلفه، ثم قالت: ﴿إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، إذاً هي القاضية، هي الخصم وهي الحكم، والأمر كما قيل:
يا أعدل الناس إلا في محاكمتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وهذا دليل على قوة شخصيتها، وضعف شخصية الزوج، بدليل أنها من جرأتها وقوة بأسها، تقول لزوجها: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، إذا خيَّرته بين أمرين: السجن أو العذاب، وكل هذا والزوج لا يحرك ساكناً، حتى قال بعض أهل العلم: وهذا دليل على أن الرجل كان ديوثاً لا يغار على امرأته، ولذلك سيأتينا قوله لها ﴿وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾، وهذا منتهى غيرته على عرضه، وسيأتينا أن امرأة العزيز لما تكلمت مع النسوة بعد أن قلن: ﴿ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾، ثم قطعن أيديهن لما رأين يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالت: ﴿فَذَلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَٱسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾، ولم تذكر هذه المرة العذاب الأليم، والسبب في ذلك كما قالوا: لأنها هنا مغتاظة من يوسف، خاصة إذا قلنا: إن الهمّ منها الضرب، فلا مانع عندها أن يضرب، بل لا مانع عندها أن يقتل؛ لأنه جرح كبرياءها ﴿يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، لكن هناك ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾ ولكن بغير عذاب أليم؛ لأنها تريده الآن، رجعها لها وعيها مرة ثانية، والآن تريد يوسف مرة ثانية.
وشهد شاهد من أهلها:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾ [يُوسُف: 26-27].
أولاً: مَنْ هذا الشاهد؟ قيل: الشاهد ابن خالتها، وقيل: هو زوجها، وقيل: الشاهد طفل رضيع، شهد ليوسف في هذه القضية، وأياً كان، فالمهم أنه شهد شاهد من أهلها، وهذا دليل على براءة يوسف؛ لأن الشاهد من أهلها الأصل أنه يقف معها، ولذلك الله تبارك وتعالى لبيان براءة يوسف جاء بشاهد من أهلها، والدليل على أن هذا الشاهد معها ليس مع يوسف أنه قدم براءتها على براءة يوسف، فقال: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ﴾، هذا الاحتمال الأول، وهو الذي تمناه الشاهد حتى يكون يوسف هو المخطئ، وتكون هي البريئة.
لِمَ تكلم الشاهد بهذا الكلام؟
لما قالت هي: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ سكت ولم يتكلم، وأراد الستر، وما قال: راودتني أبداً، لكن هي اتهمته زوراً وظلماً ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وهنا كان لابد ليوسف أن يدافع عن نفسه قال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ .
وأُخبر الشاهد أن القميص مشقوق، وهي تقول: هو راودني، وهو يقول: هي راودتني، قال: انظروا في قميصه، فإن كان قُدَّ من الأمام؛ فهو الذي راودها، وهو الذي أرادها بالسوء، وإن كان قُدَّ من الخلف، فهي التي راودته.
والأظهر أن الشاهد ابن خالتها، وهذا أشهر الأقوال.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، تراوده عن نفسه، وتُغلِّق الأبواب وتتهيأ له، ثم تتهمه هو صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى صار المجرم بريئاً، وصار المظلوم ظالماً، انقلبت الحقائق عند الناس: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، وماذا قال سبحانه عن كيد الشيطان؟ قال: ﴿إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾، إذاً كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، ولكن من هداها الله تبارك وتعالى واستقامت على الطريقة الصحيحة، فهذه ليست من أولئك النساء، ولكن إذا فسَدتْ المرأة ــ والعياذ بالله ــ؛ فإن كيدها عظيم كما قال هنا، إما الشاهد، وإما زوجها، وأقره الله على هذا سبحانه وتعالى.
والغالب أن القائل هو زوجها، ثم التفت إلى يوسف وقال: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ لا تفضحني، المسألة انتهت الآن، ثم التفت إليها وقال: ﴿وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ﴾ .
الأدلة على عدم الهم من يوسف:
تقدم أن يوسف لم يهمّ على الصحيح، لا همّ الزنا، ولا الهمّ النفسي، فلم يقع من يوسف همٌّ، والدليل على ما اخترناه:
أولاً: شهود لهم تعلق بالواقعة، أوَّلهُم يوسف صلوات الله وسلامه عليه، قال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾، ثم كذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ .
ثانياً: امرأة العزيز تخبر أنه لم يقع شيء من يوسف، ولذلك ستقول: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَٱسْتَعْصَمَ﴾، وستقول في الآية الأخرى: ﴿ٱلْآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾، وهذه شهادة من الخصم، وهي امرأة العزيز.
ثالثاً: زوجها قال: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ .
رابعاً: الشاهد: قال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾ [يُوسُف: 26-27].
خامساً: النسوة، لما أدخل يوسف السجن، وأراد الملك أن يخرجه بعد ذلك قال: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ ناداهن الملك، وقال: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ .
وقبل هؤلاء الشهود: الله تبارك وتعالى، فقال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوءَ وَٱلْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ﴾، وفي القراءة الأخرى ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ﴾، أخلص لله فأخلصه الله لنفسه سبحانه وتعالى، وكان الشيطان قد قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ﴾ [صٓ: 82-83] ويوسف من المخلصين، إذاً لا سبيل للشيطان عليه أبداً.
وإذا أضفتَ إلى هذا كله: العصمة التي جعلها الله تبارك وتعالى لأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأضفت إلى ذلك أن الصالح من المسلمين من أخبر عنه النبي ﷺ بقوله: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله»([10])، ويوسف أولى بها صلوات الله وسلامه عليه أن يكون رده مباشراً، وأن يقول لها: إني أخاف الله، وهذا ظاهر في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾ .
إذاً رد يوسف كان مباشراً صلوات الله وسلامه عليه، ولم يتأخر، ولم يتردد، وإنما كان رداً مباشراً بمجرد أن قالت: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ قال: ﴿مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾ .
عفة يوسف عليه السلام:
يوسف عليه السلام عفيف، والدليل على عفته أمور:
الأمر الأول: أنه غريب، والغريب يفعل ما يشاء، يقول المثل: «يا مغَرِّب خَرِّب»؛ لأنه غير معروف، خَرِّب وسينساك الناس، وإنما يتكلم الناس فيمن يعرفونه، فلو كان يوسف غير عفيف لفعل ما يريد.
الأمر الثاني: هو مملوك لها، وعادة الناس أنهم يطيعون من له سلطة عليهم في أي أمر.
الأمر الثالث: الأبواب مغلقة، والأمور مهيئة، فلا أحد يرى، ولذلك جاء في بعض الروايات أنه كان صنم في الغرفة، فجاءت وغطَّتِ الصنم، فقال: ماذا تفعلين؟ قالت: حتى لا يراني إلٰهي. قال: وأنا يراني إلٰهي ولا أستحي من إلٰهي! أنا إلٰهي لا يغيب، ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: امرأة جميلة، ومثل هذه تفتن الرجال.
الأمر الخامس: هو شاب، والشاب يميل إلى النساء، وهو غير الشيخ الكبير، ولو تتعرض له من تتعرض، فإنه لا شهوة له ولا صبوة، ولذلك قال النبي ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ»([11])؛ لأن المفترض أن الشيخ شهوتُه ضعيفة، فلا يميل إلى هذه الأمور، يمنعه سنه، ويمنعه شبعه، ويمنعه ضعفه من هذه الأمور، ولكن الشاب الأعزب عنده الدافع القوي لأنْ يفعل مثل هذه الأمور، ولكن عفة يوسف هي التي منعته صلوات الله وسلامه عليه.
الأمر السادس: توعدته وهددته ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ .
الموانع التي منعت يوسف عليه السلام:
الموانع التي منعت يوسف من الوقوع في الفاحشة هي:
أولاً: تقوى الله سبحانه وتعالى: هو المانع الأول الذي منع يوسف من الوقوع في هذه المعصية.
ثانياً: مراعاة حق العزيز: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، فلا يصلح أبداً أن أخون مَنْ أحسن مثواي.
ثالثاً: صيانة النفس عن الظلم: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ﴾، ولن أكون ظالماً، يصون نفسه عن أن يكون ظالماً صلوات الله وسلامه عليه.
رابعاً: البرهان: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ هذا إذا قلنا: إن الهمّ هو الهمّ الفطري من يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فلما رأى برهان ربه، وهو الإيمان الذي ألقاه الله في قلب يوسف حتى يمتنع عن هذا الأمر.
خبر امرأة العزيز ينتشر في المدينة ومكر النسوة:
قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ ولم يقل: فلما سمعت قولهن مع أن ظاهر الكلام أنه كلام عادي، ولعل هذا الكلام قاله الكثير وهو الواقع، فكيف سمى الله تبارك وتعالى، ذلك الكلام مكراً؟
الجواب: قال أهل العلم: إن المكر في كلام أولئك النسوة من وجوه كثيرة، لو تدبر الواحد منا هذه الآية لوجد المكر ظاهراً وبارزاً من كلامهن:
أولاً: ذكرْنها بالوصف: ولم يسمينها، بغَضِّ النظر عن اسمها ما هو؟ هل هو زُليخة كما هو مشهور عند أهل الكتاب أم لا؟ وهذا من المكر.
ثانياً: قلنَ: ﴿ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ﴾ : ليست كسائر النساء أنتِ امرأة العزيز.
ثالثاً: في قولهنَّ: ﴿ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ﴾ : أي: إنكِ امرأة متزوجة، ولو كان هذا وقع من امرأة غير متزوجة كان قُبِل، لكنكِ امرأة متزوجة.
رابعاً: قولهنَّ: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ : راودت مملوكاً لم تراود حراً، وإنما راودت مملوكاً ومثل هذه إنما تراود من في مستواها، تراود الملك، تراود وزيراً في منزلة زوجها، أما أن تراود مملوكاً فهذا لا يليق، ثم مَنْ هذا المملوك؟ فتاها الذي هو في بيتها، ولو كان في غير بيتها كان من الممكن أن يهون الأمر.
خامساً: قولهنَّ: ﴿تُرَاوِدُ﴾ : إذاً هي المراودة، وليس هو، ولو كان هو الذي راودها فقبلتْ كان يهون الأمر، ولكن هي التي تراود، فهذا عيب
سادساً: ثم لم يقلن: «راودت» ولكن جئن بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار، مما يفيد أنها راودته وستراوده أيضاً.
سابعاً: قلنَ: ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ : فهو حفظ حق العزيز، وحفظ حق البيت الذي تربى فيه، ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، وهي لم تحفظ حق زوجها.
ثامناً: قلنَ: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ ؛ أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وقد قالوا: شغاف القلب هو ما يحيط بالقلب أو سويداء القلب؛ أي: بلغ الحب عندها مداه، حتى أفقدها صوابها، فلا تستطيع أن تتصرف تصرفاً طبيعياً.
تاسعاً: قلنَ هذا في ظهرها غيبةً في الخفاء، وهذا مكر.
عاشراً: أردنَ رؤية يوسف بعد أن سمعنَ عن جماله، إما من أهل البيت بعد انتشار هذا الأمر، وإما من الشاهد الذي شهد، وإما هي التي قالت لهنَّ؛ أي: أسرَّتْ لبعض صديقاتها ذلك، فأردنَ النساء أن يَرَيْنَ هذا الذي أذهب عقل هذه المرأة، وكيف يرينه؟ بهذه الطريقة، الطعن في امرأة العزيز حتى تثور، ثم تريهنَّ هذا الفتى؛ لتدافع عن نفسها.
حادي عشر: قلنَ: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وفي هذا تزكية لأنفسهنَّ، يعني: نحن لا نفعل مثل هذا الشيء، وإن هي فعلت.
إذاً كل هذا المكر موجود في خلال هذين السطرين، ولما كان هذا المكر منهنَّ لم تسكتْ امرأة العزيز، وإنما قابلت المكرَ القولي بمكر فعلي، النساء مكرهنَّ باللسان أما مكر امرأة العزيز فبالفعل.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾، وكيف كان مكرها؟
أولاً: أرسلت إليهن، وظاهر الأمر دعوةٌ لا يراد منها إلا الإكرام.
ثانياً: أعتدَتْ لهن متكئاً، وهيئت ذلك، وظاهر الأمر إلى الآن الإكرام من الدعوة، وإعداد المجلس.
ثالثاً: خبَّأتْ يوسف صلوات الله وسلامه عليه في مكان، فهو خادم عندها في بيتها، قالت له: ادخل هذه الغرفة، فدخل صلوات الله وسلامه عليه بحيث لا مخرج له إلا من طريقهن.
رابعاً: آتَتْ كلَّ واحدة منهن سكيناً، ولم تجعل بعض السكاكين تستخدمها هذه مرة وهذه مرة، وإنما تعمَّدت أن تكون عند كل واحدة منهنَّ سكيناً.
خامساً: أتَتْ بطعام يُحتاج في أكله إلى سكين.
سادساً: ﴿وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ أدخلته عليهنّ فجأة، فاستخدمت عنصر المفاجأة، ولم تقل لهن: «سيدخل، الآن سيأتي، دعنَ الطعام، انتبهنَ»، وإنما استخدمت عنصر المفاجأة؛ لترى رَدَّة الفعل.
إذاً مكرٌ قولي قابله مكرٌ فِعْلي، فكيد النساء إذاً عظيم.
دخل يوسف صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾، هذه إذاً رَدَّة فعل النساء لما رأين يوسف صلوات الله وسلامه عليه، عظّمنه في أنفسهن لكمال خَلْقِه وخُلُقِه، جمالٌ وهيبة فيه صلوات الله وسلامه عليه، لذلك لما رأينه أكبرنه أي: أعظمن شأنه ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا﴾، وكانت السكاكين معهنَّ يقطعنَ الطعام، المهم أن السكاكين في أيديهن، فلما رأينه ذُهِلنَ من جماله صلوات الله وسلامه عليه، وقد لا يتصور الإنسان ذلك، وقد يقول: هل يعقل إلى هذه الدرجة؟
الجواب: نعم إلى هذه الدرجة وأكثر، ولولا هيبة النبوة لكان الأمر أشنع من ذلك.
ذهبتِ العقول، وطاشتِ الألباب لما رأينَ هذا الجمال الذي أخبر عنه النبي ﷺ أنه أُوتيِ شطر الحسن([12])، أعطى الله تبارك وتعالى يوسف شطر الحسن، فكان كالبدر، ولذلك طاشت عقول النساء، وصارت السكين تعمل، والذهن لا يعمل، اليدُ تتحرك حركةً لا إرادية، والذهن مشغول بهذا الذي رأينه، فجَرَحْنَ الأيدي([13])، ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾، لم يُبِنَّها؛ أي: لم تقطع اليد تماماً، ولكن جرحت يعني: قطعنَ الجلد، وقلنَ ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ يُقْسِمنَ بالله ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾، ما رأينا بشراً هكذا، نحن بشر، ورأينا كثيراً من البشر، وليس هذا من البشر، والنسوة إما قلن هذا الكلام لما فيه من الجمال، جمال الخِلقة، وإما لما فيه من جمال الخُلُق، والدين، والعفة، والهيبة ــ هيبة النبوة ونورها ــ. ﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ هل رأين الملائكة حتى يقلن: ملك؟ ما رأينَ الملائكة، الإنسان ما رأى الملائكة، وهذا يحتمل معنيين:
المعنى الأول: يحتمل أنهنَّ أردنَ ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ﴾ أي: من الجمال، وقد انطبع في أذهان الناس أن غاية الجمال في الملائكة، وغاية القبح في الشياطين، هذا ثابت في أذهان الناس، ولذلك إذا رأوا صورة جميلة قالوا: ملك، مع أنهم ما رأوا الملك، وإذا رأوا صورة قبيحة قالوا: شيطان مع أنهم ــ كذلك ــ ما رأوا الشيطان على خِلقته، ولكن انطبع في أذهان الناس أن الصورة الحسنة صورة الملائكة، وأن الصورة القبيحة صورة الشياطين، ولذلك قال الله تبارك وتعالى عن الشجرة التي في النار: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ﴾ مع أن الناس ما رأوا الشياطين، ولكن انطبع في أذهانهم قبح الشياطين.
ويُذكر عن الجاحظ صاحب كتاب «الحيوان» وكتاب «البيان والتبيين» وغيرهما من الكتب، وهو أديب معروف أنه كان قبيح المنظر، حتى قالوا: إنه سمي الجاحظ؛ لجحوظ عينيه، وهو بروزهما، وقد ذُكِرَتْ طرفة وقعتْ له: أنه كان في السوق، فجاءته جارية، وأمسكتْ بيديه، وجرته، فمشى معها، فوقفت عند الصائغ ــ صائغ الذهب ــ، فقالت: مثل هذا، ثم ذهبت، يقول الجاحظ: فصرتُ أنظر إلى الصائغ، وينظر إليَّ، ويضحك، فقلت له: لِمَ تضحك؟!
فقال له الصائغ: ولِمَ جئت؟ قال: لا أدري أمسَكَتْ بيدي، فمشيت معها. قال: أتدري ما كانت تريد؟ قال: ما أدري. قال: قالت: أريد أن تصنع لي عقداً، ويكون وسطه رأس شيطان، فقلت لها: لم أرَ الشيطان في حياتي حتى أصنع لك رأس شيطان، فجاءتني بك.
المعنى الثاني: أردنَ ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ﴾ أي: من العفة، والطهر، والنقاء، تتهيأ له امرأة العزيز في بيتها، وهي امرأة جميلة، وتُغَلِّق الأبواب، وتقول له: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾، وهو عَبْدٌ عندها، ومع هذا يبتعد عنها؟!
قد شغفها حباً:
ولما قطَّعن الأيدي وقلنّ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ قامت امرأة العزيز وأعلنت ذهاب الحشمة والعفاف الآن تماماً، وأعلنتْ عن حبّها الشديد ليوسف صلوات الله وسلامه عليه غير مباليةٍ بهؤلاء النساء؛ لأنها رأتْ رَدَّة الفعل، فقالت: ﴿فَذَلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾، نظرة واحدة وقطعتنّ الأيدي، وأنا أعيش معه في بيت واحد كيف أتحمل؟ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَٱسْتَعْصَمَ﴾، وهنا أعلنت براءته صلوات الله وسلامه عليه، واستعصم بمن؟ استعصم بالله لما قال: ﴿مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾ .
وهنا عندما نرى هذا المنظر عندما دخل يوسف صلوات الله وسلامه عليه على هؤلاء النسوة، وقطعن أيديهن قالت امرأة العزيز: ﴿فَذَلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ فهل ما زال اللوم قائماً؟ هل ما زلتن تلمنني؟ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَٱسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ كأنها تقول: أقولها أمَامَكُنَّ، واسمع ــ أي: يوسف ــ لئن لم تفعل ما آمرك فحكمي: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾، وهنا في قول امرأة العزيز: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ يدل عليه قول النسوة لها: ﴿تُرَاوِدُ﴾ إذاً ما زالت تراود يوسف صلوات الله وسلامه عليه حتى بعد الفضيحة، فُضِحَتْ، وشهد الشاهد، وقال لها زوجها: ﴿وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ .
وشاع الخبر بين النساء، لكنها إلى الآن مفتونة بيوسف صلوات الله وسلامه عليه، وأعلنت أنها غير مبالية بأحد غير يوسف عليه السلام، فقالت: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ أي: من طاعتي في هذا الذي أريد ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ وفي المرة الأولى قالت لزوجها: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، والآن قالت: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ في المرة الأولى يسجن أو عذاب أليم؛ لأنها كانت منفعلة جداً، فكانت رَدَّة فعلها قوية؛ لأن المرأة في طبيعتها انفعالية، تغلب عاطفتُها عقْلَها، ولذلك قالت: ﴿يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، والآن لا تريد العذاب؛ لأنه رجع لها عقلها نوعاً ما، والآن تريد يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فلم تذكر العذاب، بل قالت: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ إن لم يطعها، وهنا جمعتْ له الترغيب والترهيب صلوات الله وسلامه عليه، فهي امرأةٌ جميلة ذات منصب، وهي التي تراوده عن نفسه، والنفس تميل بطبيعتها إلى النساء، ثم تهديد ووعيد؛ سجن، وصغار، وذل ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ .
فجاء الجواب من يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: ﴿رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، مع أن السجن غير محبوب، ولكنه إذا قارنه بالفاحشة؛ فهو أحبُّ إليه من الوقوع في الفاحشة.
ولنتدبر قوله: ﴿ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ ولم يقل: «تدعوني»، وإنما قال: ﴿يَدْعُونَنِي﴾ إذاً في المرة الأولى كانت الداعية امرأة العزيز وحدَها، والآن كلهنّ يُردن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما رأينه، فكلهن يُرِدْنَه، وقد ﴿قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾، ولذلك راودنه كلهن عن نفسه بعد أن كانت المراودة امرأة العزيز، الآن المراود كل هؤلاء النساء، ويأتينا قول الله تبارك وتعالى عندما يأمر الملك بإخراج يوسف من السجن صلوات الله وسلامه عليه يقول للرسول الذي جاءه: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾، فقال لهن الملك: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ كلهن إذاً راودنَ يوسف عن نفسه، وهذا بلاء عظيم، وهؤلاء مَنْ؟ هم: عِليةُ القوم، فما كان من يوسف صلوات الله وسلامه عليه إلا أن اعتصم بالله سبحانه وتعالى، وهذا حال المؤمن دائماً، كما يقولون: إذا ادلهمت الخطوب، وحاصرته المشكلات فإنه لا يجد ملجأ إلا إلى ربه تبارك وتعالى.
قال: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ فأنا ضعيف بدونك يا رب، لا حول ولا قوة ولا طول للإنسان إلا أن يلجأ إلى الله تبارك وتعالى.
وهنا تصوروا هذه الدعوة من يوسف عليه السلام: ﴿ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، رب ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ لضعفي ﴿وَأَكُنْ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾، وهي دعوة نبي مظلوم، والمظلوم ــ ولو كان كافراً ــ فإن الله ينصره سبحانه وتعالى؛ لأنه مظلوم، ولأن الله تبارك وتعالى أمر بالعدل، ولا يقبل الظلم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، وقال سبحانه في الحديث القدسي: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً»([14])، ويقول النبي ﷺ لمعاذ: «واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»([15])، ولذلك كان الرد سريعاً من الله تبارك وتعالى ﴿فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾، والفاء هذه للتعقيب، ولم يقل: «ثم استجاب له ربه»، وإنما جاءت الاستجابة مباشرة من الله تبارك وتعالى سريعة.
يوسف عليه السلام يدخل السجن ظلماً:
قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾ أي: ظهر واستقر عندهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا ٱلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ والآيات هي:
أولاً: الأدلة على براءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
ثانياً: محاولة العزيز أن يستر على زوجته.
ثالثاً: إسكات الناس الذين كَثُر حديثهم في امرأة العزيز.
رابعاً: العزيز إلى الآن يخاف من امرأته؛ لأنها ما زالت تريد يوسف، بل صارت تصرح بذلك، فرأوا بعد ذلك ــ أي: العزيز وبطانته ــ وكأني به يقول لهم: ما تقولون؟ أتركه فهو بريء، نحن رأينا الأدلة، وشهد الشاهد، وقلتُ لها: استغفري لذنبك.
ما ترون؟ أنا العزيز أأُفضح أمام الناس لأجل يوسف؟!
ما ترون؟ أنا العزيز ما زلت أخاف من امرأتي أن تأتي يوسف عليه الصلاة والسلام.
ما تقولون؟ أُسكت هذه الألسنة التي صارت تلوك قصة امرأتي مع يوسف.
فرأوا بعد ذلك أن يسجن يوسف عليه الصلاة والسلام.
وهذه مصيبة عندما يغيب العدل، ويسود الظلم، يصير البريء متهماً، والظالم يصير مظلوماً، ويُستر على بيوت مجرمة مقابل إيذاء أُناس برآء، كما وقع ليوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه المحنة هي الخامسة ليوسف عليه الصلاة والسلام، فالمحنة الأولى: إلقاؤه في الجُبِّ، والثانية: بيعه مملوكاً، والثالثة: مراودة امرأة العزيز له، والرابعة: مراودة النسوة له، والخامسة: دخول يوسف عليه السلام السجن.
إذاً حياته مليئة بالابتلاءات عليه السلام، ولذلك قال النبي ﷺ: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتلى المرء على قدر دينه»([16]).
يوسف عليه السلام في السجن:
دخل يوسف السجن، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ﴾، ذُكر أن هذين الرجلين، كان أحدهما ساقي الملك، والثاني طباخ الملك، والمشهور عند أهل التفسير أن بعض الناس كانوا يريدون قتل الملك، فذهبوا إلى الساقي وقالوا له: ضع في شرابه سُمّاً، ونعطيك كذا وكذا، فرفض، فذهبوا إلى طباخ الملك، فقالوا له: ضع في طعامه سُمّاً، ونعطيك كذا وكذا، فقبل، فوضع له السمَّ، فلما وُضع طعام الملك؛ قال الساقي للملك: لا تأكل، قال: لِمَ؟ قال: في الطعام سُمّ، وهنا قال الطباخ: لا، في الشراب السُمّ، إذاً تقرر عند الملك أن هناك سُماً، لكن هل هو في الطعام أو في الشراب؟ لا يدري، فأمر بالبهائم، فأُتي بها، فعزلها في جانبين، وقُدِّمَ لهذه الطعام ولهذه الشراب، وانتظروا النتيجة، فإذا ماتت من الطعام؛ فيكون السُمّ في الطعام، وإذا ماتت من الشراب فيكون السمّ في الشراب، ومن حين وضع الطعام إلى حين خروج النتائج، أمر بهما الملك كليهما، فأُدخلا السجن ريثما تظهر النتيجة.
دخل هذان الرجلان مع يوسف صلوات الله وسلامه عليه في السجن، وقدَّرَ الله تبارك وتعالى أن يرى كل واحد منهما رؤيا في منامه، فلما أصبحا أقبلا على يوسف صلوات الله وسلامه عليه، قال أحدهما: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾، وقال الآخر: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ وكيف عرفا أن يوسف من المحسنين؟ قد يكون بلغهما خبر يوسف؛ لأنا قلنا: إن أمر يوسف عليه السلام صار حديثاً متداولاً، وقد يكون ــ وهو الظاهر ــ أنه من سَمْتِه عرفوا أنه من المحسنين، هيبةً وجمالاً، وكان الله تبارك وتعالى ــ كما ذكر أهل العلم ــ نَبَّأ يوسف وهو في السجن.
قال يوسف صلوات الله وسلامه عليه: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ ما معنى هذا الكلام؟ و﴿تَأْوِيلِهِ﴾ تعود على ماذا؟
قبل أن يأتي الطعام أقول: سيأتيكم طعام كذا وكذا، يعني يخبرهما بالغيب، كما قال الله تبارك وتعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ .
ولأن هذين الرجلين كانا في أشد الحاجة إلى يوسف؛ لأن كل واحد منهما رأى رؤيا شغلته، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أنه الآن من المناسب أن يدعوهما إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو فسر لهما الرؤيا لانشغل كل واحد بما فُسِّر له، ولكن هما في انتظار تفسير الرؤيا لذلك قال: عندي كلام أريد أن أقدَّمه قبل تفسير هذه الرؤيا، فقال: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ﴾ لأن مِنَ الناس مَنْ ربُّه بقرة، ومن الناس مَن ربه شجرة، ومن الناس مَنْ ربُّه شمس، ومنهم مَنْ ربه قمر، ومنهم مَنْ ربه ملك، ومنهم مَنْ ربه نبي، ومنهم من ربه نجم، ومنهم مَنْ ربه فأر، ويختلف الناس في هذا اختلافاً عظيماً، فقال: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ﴾، فيوسف عليه السلام إذاً حقّر الآلهة في عيونهما، ثم قال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ يعني: أنتم سميتموها آلهة، لكن هي في حقيقة الأمر ليست آلهة، أعطيتموها اسماً لا تستحقه، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ أنتم سميتموها أرباباً، أنتم سميتموها آلهة، لكنها ليست آلهة، ولا هي بأرباب، وإنما هي تسميات من عند أنفسكم كما سمى كفار مكة أو من قبلهم الصنم باللات، أنثى الإلٰه، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
ثم أجابهما بما يريدان، وهذا لا شك أنه من كمال عقل يوسف صلوات الله وسلامه عليه، ويقول أهل العلم عن ذلك: إن هذا جواب الحكيم، وهو الذي يعطيك ما ينفعك زيادة على سؤالك، أو كان سؤالك غير نافع، أو يقدم لك بين يدي السؤال ما هو أنفع لك، كأنه يقول لك: لو سألت عن كذا لكان أولى بك، ولذلك لما سأل الناس رسولَ الله ﷺ عن الأهلة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ﴾ لماذا الهلال يبدأ صغيراً، ثم يصير بدراً، ثم يعود هلالاً بعد ذلك؟ سؤال لا يترتب عليه شيء، فجاء الجواب: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾، فمن المفروض أن تسألوا عن الحكمة التي من أجلها وُجد هذا الهلال، فأجابهم بخير من مسألتهم، وكذا في قول النبي ﷺ لما قيل له: أنتوضأ من ماء البحر؟ قال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»([17])، فأجابهم إجابةً خيراً من سؤالهم الذي سألوه([18]).
وكذلك هنا هم سألوه عن رؤيا، فقال: كان الأولى أن تسألوا عن أشياء أولى من هذه، أنتم الآن إذا متم تكونون ماذا؟ تعبدون أرباباً متفرقة، ولا تعبدون الذي يستحق أن يعبد، هذه أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ثم بعد ذلك فسر لهم الرؤيا، فقال: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا ٱلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾، وهنا لم يقل: أما أنت فكذا، وأما أنت فكذا حتى لا يحزنه، بل قال: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ يعني: سيخرج بريئاً، قال: ﴿وَأَمَّا ٱلْآخَرُ فَيُصْلَبُ﴾، يُقتل وتأكل الطير من رأسه ﴿قُضِيَ ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ .
ثم قال: ﴿لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا﴾ وهو الذي رأى أنه يسقي ربه خمراً، ﴿ٱذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يعني: عند الملك، قل له: إن هناك إنساناً دخل السجن ظلماً، امرأة العزيز أدخلته السجن؛ لأنه ما طاوعها إلى ما تريد، فأدخلته السجن ظلماً، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ قال بعضهم: أُنْسِي يوسف ذكر ربه، يعني استعان بالبشر، ولم يستعنْ بالله، وهذا باطل، كيف ويوسف عليه الصلاة والسلام في كل آية يقول: ﴿مَعَاذَ ٱللَّهِ﴾، ﴿فَٱسْتَعْصَمَ﴾، ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾، ما نسي الله أبداً طرفةَ عين صلوات الله وسلامه عليه، إذاً من الذي أنساه الشيطان ذكر ربه؟
الجواب: هو الساقي، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك عند رؤيا الملك: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ﴾ يعني تذكر، إذاً الذي تذكر هو الذي نسي.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أي: اذكر حالي ومظلمتي، يقول جل ذكره: ﴿فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ أي: أنسى الشيطانُ الرجلَ الذي أمره يوسف صلوات الله وسلامه عليه أن يذكره عند ربه، أنساه ذكر سيده، فكان أن ترتب على ذلك أن لبث يوسف في السجن بضع سنين.
والمشهور عند أهل العلم أن السنوات التي مكثها يوسف صلوات الله وسلامه عليه بعد هذه الحادثة سبع سنين، وهذا من لطفِ الله ــ جل وعلا ــ وعظيم حكمته.
رؤيا الملك:
قدر الله تبارك وتعالى أن رأى الملك رؤيا، قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ هذه رؤيا رآها ملك مصر في ذلك الزمان.
واختلف في هذا الملك من يكون، على قولين:
القول الأول: إنه فرعون من فراعنة مصر.
القول الثاني: إنه من الهكسوس الذين حكموا مصر في ذلك الزمان.
وأياً كان الأمر؛ فإن معرفة الملك لا تفيدنا شيئاً، وإنما يفيدنا المعنى الذي اشتملت عليه هذه الآيات، والمشهور كذلك أن هذا الملك اسمه: الريان بن الوليد، رأى هذه الرؤيا العجيبة، ولم يقل: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾، وإنما قال: ﴿إِنِّي أَرَى﴾، والأظهر أن يقول: «رأيت»؛ لأنه منام قد مضى، ولكنه قال: ﴿أَرَى﴾، يريد أن ينبه الحاضرين إلى أن الأمر رؤيا، وأنه يستحضرها تماماً كأنه يراها الآن.
والذي استغربه هذا الملك هو أنه رأى أن الناقص الهزيل الضعيف يأكل القوي الكامل، وهذا أمر غريب، خاصة أنه ذُكر في كتب أهل الكتاب: أن الملك رأى البقرات السمان والبقرات العجاف، وكيف أن هذه العجاف تأكل السمان، فقام من نومه مفزوعاً، ثم عاد ونام مرة ثانية، فرأى السنابل، سنابل يابسة وسنابل خضراء، ثم تأتي هذه السنابل اليابسة، فتلتف على السنابل الخضراء، حتى تكون كأنها التهمتها، فقام فزعاً مرة ثانية، ولما كان الأمر غريباً ــ وهو أن الهِزال من البقر تأكل السمان، وكذلك السنابل اليابسات تلتف وتأكل السنابل الخضراء ــ أيقنَ أن في الأمر شراً.
عندها جمع الملك الحكماء، والسحرة، والكهنة، والعلماء في ذلك الزمان، ثمّ قصَّ عليهم هذه الرؤيا، فكان الرد: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾، والضغث هو: الخليط، يعني: الشيء الرطب مع الشيء اليابس([19])، ولو كانت هذه رؤيا كنا فسرناها لك، ونحن لا نعلم تأويل الأحلام، وإنما نعلم تأويل الرؤى، وهنا يقول أهل العلم: جمعوا السوء من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الجهل؛ لأن الأمر كان رؤيا ما كانت أضغاث أحلام، ولكن زعموا جهلاً أن رؤيا الملك أضغاث أحلام، وهو جهل.
الوجه الثاني: تكلموا بدون علم، وكان الأولى بهم أن يقولوا لا نعلم.
الوجه الثالث: ادّعوا أنهم علماء بالرؤى، فهم جهّال، ثم أفتوا بباطل، ثم ادّعوا أنه لو كان رؤيا لكنا علمناه، وادعوا فضلاً ليس لهم، هذه ثلاثة أمور سيئة وُجدتْ في أولئك القوم.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾، والرؤيا كما مَرَّ كانت سبباً في بلاء يوسف والشدة التي وقعت له لما رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، ثم جاءت هذه الرؤيا لتكون بشرى ورحمة ليوسف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الرؤيا التي رآها الرجلان في السجن مع يوسف كانت كذلك ابتداء الفرج ليوسف صلوات الله وسلامه عليه، إذاً ليوسف مع الرؤى قصص وأحداث.
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ﴾ أي: تذكر بعد مدة، وتقول العرب كذلك: تذكر بعد أَمَهٍ أي: بعد نسيان، لكن الذي في كتاب الله تبارك وتعالى إنما جاءت ﴿أُمَّةٍ﴾ بمعنى: مدة.
و﴿ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾ هو ساقي الملك، لما رأى أن الملك جمع السحرة، والكهنة، والعلماء، وسألهم عن هذه الرؤيا، فعجزوا عنها؛ تذكر يوسف صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يؤكد أن قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ أن المقصود هو الساقي؛ لأن الذي نسي هو الذي تذكر هنا.
قال: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ قالها على صيغة الجزم، مع أنه رأى عجز العلماء، والحكماء، والسحرة، والكهنة، رأى عجزهم لكن لثقته المفرطة بيوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾، وقالها جهراً، ولم يقلْها سراً، ولم يذهبْ إلى يوسف ويسأله ثم يرجع إليهم، أبداً، ولكن قالها عن ثقةٍ تامةٍ بيوسف صلوات الله وسلامه عليه، وقوله: بتأويله، كأنه يرد عليهم، ويقول: ليست أضغاث أحلام، وإنما هي رؤيا، ولها تأويل، وأنا سأنبئكم بتأويله، لكن الأمر يحتاج إلى أن ترسلون، فأرسلوه فقال: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ .
وهنا ــ كما يقول أهل العلم ــ يوجد اختزال وهو: اختصار الكلام، حذفَ كلاماً كثيراً؛ لأنه مفهوم دون أن يسمع هذا الكلام؛ لأن الأصل في كلام العرب ما قلَّ ودلَّ، والتقدير أنا أنبئكم بتأويله، فأرسلون، فأرسلوه، فدخل على يوسف، فقال له: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ .
ثناء بين يدي السؤال:
وقدم بين يدي سؤاله ثناء على يوسف لما يعرفه عنه من كمال الأخلاق، فقال له: ﴿أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ﴾ ولم يقل له: «أيها الصادق»، وإنما قال: ﴿ٱلصِّدِّيقُ﴾ كما قال النبي ﷺ: «وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً»([20]).
قال: ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وذلك أنه خشي ألا يخبره يوسف صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه سجن ظلماً، ولعل يوسف أن يقول كذلك: أضغاث أحلام، ولذلك استدرك بقوله: ﴿لَعَلِّي﴾ .
وقوله: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ تحتمل أمرين:
الأمر الأول: لعلهم يعلمون تفسير هذه الرؤيا، فيصنعون ما يجب عليهم أن يصنعوه.
الأمر الثاني: لعلهم يعلمون فضلك، ويعلمون الظلم الذي وقع عليك، فيكون هذا سبباً لخروجك من السجن.
لطف الله بيوسف عليه السلام:
وهنا يظهر لطف الله سبحانه وتعالى؛ لأن لطف الله ــ جل وعلا ــ يكون أحياناً من طرف خفي([21])، لو أن الملك كلم الساقي ابتداءً، وقال له: ﴿إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾، ما تقول فيها؟ لقال هذا الساقي أنا أعرف رجلاً يفهم بالرؤى، أسأله لك، ثم ذهب إلى يوسف وسأله، ثم أفتاه يوسف، فرجع، فأخبر الملك بتفسير هذه الرؤيا، ثم الملك بعد ذلك يجمع السحرة والكهنة، ويقول لهم: انظروا إلى فضل هذا الرجل كيف فسر؟ لقالوا: نحن نعلم، ولو سألتنا لأخبرناك، ولكن أراد الله تبارك وتعالى أن يظهر فضل يوسف صلوات الله وسلامه عليه بإظهاره عجز أولئك، كما في قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ فأظهر الله فضل آدم بعد أن أظهر عجزهم، وكذا الأمر يوم القيامة عندما يذهب الناس لآدم، فيقولون: يا آدم اشفع لنا عند ربك، خلقك بيده وأسجد لك ملائكته، ونفخ فيك من روحه، اشفع لنا عند ربك، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح، فيقول: لست لها، فيذهبون إلى إبراهيم، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إلى عيسى، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى محمد، فيقول: «أنا لها، أنا لها»([22])، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلو ذهب الناس ــ ابتداءً ــ إلى محمد ﷺ وقالوا له: اشفع لنا عند ربك، وقبل الله شفاعته؛ لكان لقائل أن يقول: لو ذهبوا إلى إبراهيم لشفع، ولو ذهبوا إلى موسى لشفع، وكذا عيسى، وآدم، ونوح، لكن أظهر الله فضل محمد ﷺ بعد أن أظهر سبحانه وتعالى أن آدم ونوحاً وإبراهيم، وموسى، وعيسى ليسوا لها صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى.
ومن لطفه ــ جل وعلا ــ أنه لم يجعل هذه الرؤيا تراها زوجة الملك، ولم يجعل هذه الرؤيا يراها وزير عند الملك، ولا ساقي الملك، ولا رجل من العامة فيأتي على باب الملك، فيقول رأيت هذه الرؤيا، فيهمِلُها الملك، ولا يهتم لها، وإنما جعل هذه الرؤيا يراها الملك، فلما شغلتْ بال الملك؛ شغلتْ بال الناس كلهم.
تفسير الرؤيا:
سُئل يوسف صلوات الله وسلامه عليه عن هذه الرؤيا، ففسرها مباشرة ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ فسر الرؤيا صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا في تفسيره لطائف: قال: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ أي: باستمرار، ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ﴾، أي: اتركوه ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾ حتى لا ييبس، ولا يفسد، ولا تُأَثِّر فيه الأمطار، ولا يؤثر فيه التكديس، ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ ؛ لأنه سيأتي بعد ذلك ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ أي: سنوات شداد ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ ؛ أي: يكون جدب، لا تستطيعون أن تأكلوا شيئاً في هذه السنوات إلا الذي خزنتموه، وأحصنتموه، ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾، مع أن هذا العام ما ذُكر في الرؤيا، وإنما رأى الملك سبعاً شداداً، وسبعاً عجافاً، وسبعاً خضراً، وسبعاً يابسات، فمن أين عرف يوسف عليه السلام أنه سيكون عامٌ فيه يغاث الناس؟
قالوا: إلهامٌ من الله تبارك وتعالى، أعلمَه الله تبارك وتعالى أنه بعد السبع الشداد سيأتي عام فيه يغاث الناس.
وقال آخرون: بل هذا علم الرؤى؛ لأنه لما كانت السبع السمان تأتي بعدها الشداد، وحُدِّدتْ بسبع؛ فدل على أنها بنهاية السبع ينتهي الجدب، ونهاية الجدب بداية الغيث.
ولذلك تفسير الرؤى كما إنه علْمٌ يدرس هو أيضاً فضل من الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء.
قال: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ﴾، وقال ﴿يُغَاثُ﴾ ولم يقل: يمطر الناس؛ لأنه ليس على كل حال أن المطر يكون رحمة، فقد يكون عذاباً، وإنما الرحمة بالغيث، قال النبي ﷺ: «ليست السَّنة ألا تُمطروا» السَّنُة يعني: الجدب والقحط، «ولكن السَّنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض»([23])، فلا يكون نافعاً إلا إذا كان غيثاً، ومن دعاء النبي ﷺ: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً»([24])، فيسأل الغيث، لا مجرد المطر.
قال: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾، قال أكثر المفسرين: أي يعصرون الزيت من السمسم والزيتون وغيره([25])، وقال بعضهم يعصرون أي: يمطرون، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ سماها معصرات؛ لأنها تنزل المطر.
وقفة دعوية:
من المعلوم أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه نصح لهم في دنياهم، كما إنه نصح لهم في دينهم لما وعظ الرجلين بقوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ﴾، وهكذا يجب على المسلم أن ينصح لمن يعمل عنده، ولو كان كافراً، فلا يجوز غشه بحجة أنه كافر، طالما أنه استأمنه وجب عليه النصح، وعدم الخيانة، والوفاء العهد: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِٱلْعُقُودِ﴾، وقال النبي ﷺ: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»([26])، فالمسلم له تربية خاصة، له دين يعتقد أن له رباً يراه.
ولذلك ينصح حتى للكافر، وأما من يقول: إنه يجوز غش الكفار، أو الكذب عليهم، أو السرقة منهم، أو استحلال أعراضهم، فلا شك أنه باطل، ليس من دين الله في شيء، بل دين الله هو الذي تعامل به يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً يوسف بذل ما عنده من العلم بلا تأخر، ولا شرط، ولو كان غير يوسف؛ لقال: الآن أسجن ظلماً، وأُتْرك بدون محاكمة، ثم تأتون وتريدون أن أنصح لكم؟!
ولكن يوسف بيَّن كل ما يعرفه صلوات الله وسلامه عليه، ولم يشترط الخروج، بل آثر أن يبقى كما هو طالما أنه لم تظهر إلى الآن براءته أمام الناس جميعاً، بل زاد على ذلك، وهذه أخلاق لا يستطيعها إلا أولئك الخواص من البشر.
إعجاب الملك بتأويل يوسف عليه السلام وبيان براءته:
رجع الساقي بتفسير هذه الرؤيا إلى الملك والذين عنده، فذكر لهم ما قال يوسف، فأُعجب الملك بهذا التأويل، ورأى أنه أراحه، عند ذلك أحب أن يسمع من يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فقال الملك: ﴿ٱئْتُونِي بِهِ﴾، فدخل الوسيط على يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فقال: الملك يدعوك، قال: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ ؛ أي: سيدك الملك، ﴿فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ أنتم في موضوع يشغلكم، وهو موضوع رؤيا الملك، وأنا في موضوع آخر يشغلني، أنا سُجنت ظلماً، اسأل الملك، والظاهر ــ والله أعلم ــ أنه أشيع عند الناس أمرُ يوسف، وأن النساء قطعن أيديهنَّ؛ لأن هؤلاء النساء من كبريات أهل البلد، فرجع الرسول إلى الملك، فأخبره بما قال يوسف، واستدعى الملك النساء مباشرة، استعلم الأمر، فجمع النساء، وهنا قال يوسف: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾، ولم يقل: ما بال امرأة العزيز سجنتني، مع أن فعل امرأة العزيز معه أشنع، فهي التي راودته، وهي التي دعتِ النساء، والصحيح أنه تناساها رعايةً لحسن العشرة صلوات الله وسلامه عليه، إنه في يوم من الأيام تربى في هذا البيت، فلم ينسَ تلك العشرة، تلك الرعاية، ذلك الإنفاق الذي حصَّله في بيت العزيز، فغض الطرف عن امرأة العزيز، وهو يدري أن الأمر سيصل إليها.
دعاهنَّ الملك، فاستفصل الأمر عند ذلك قال: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾، ولما وصل الأمر إلى هذه الدرجة، ورأتِ امرأة العزيز ذلك الخُلُقَ العظيمَ عند يوسف ــ مع ما صنعت به، ومع حبها له ــ كبُر يوسف في عينها أكثر من الأول، وعظم عندها، عند ذلك لم تجد بُداً من الاعتراف علناً أمام الجميع، فقالت: ﴿ٱلْآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ﴾ أي: ظهر ووضح ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ﴾ [يُوسُف: 51-52] قالت امرأة العزيز هذا الكلام عند الملك في حضرة النساء، ولعله حضر غيرهنّ.
واختلف في هذا الكلام، لمن؟ على قولين:
القول الأول: إن هذا الكلام ليوسف صلوات الله وسلامه عليه، لما قالت امرأة العزيز: ﴿ٱلْآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾، وبلغ الخبر يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ﴾، فالضمير عائد إلى العزيز في قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ .
ثم قال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾، فالأصل في النفس أنها أمارة بالسوء ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، ليرجع الفضل كله لله كما قال: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾ .
القول الثاني: أن هذا من كلام امرأة العزيز، وليس من كلام يوسف، أي: أن امرأة العزيز قالت هذا الكلام، واعترفت، وهو غير موجود، أنا راودته عن نفسه، ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ﴾ يوسف ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يُوسُف: 52-53].
ولعل ــ والعلم عند الله ــ أن القول الثاني هو الصحيح، وهو أن هذا الكلام من كلام امرأة العزيز لأمور، منها:
أولاً: سياق الكلام مرتبط مع بعضه، قالت امرأة العزيز: ﴿ٱلْآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ﴾، فالكلام متصلٌ، ولم يقل: «قال يوسف: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب».
ثانياً: يوسف لم يكن حاضراً في هذا المجلس، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ [يُوسُف: 51-54]، إذاً يوسف لم يكن حاضراً هذا المجلس.
ثالثاً: أن نفْسَ يوسف من أزكى النفوس، فكيف يصح أن يقول يوسف: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ ؟! بل هو لما راودته امرأة العزيز عن نفسه ثم ألفيا سيدها لدى الباب قال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾، فكيف الآن لا يبرئ نفسه؟!
وذلك أن النفوس على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: النفس الأمّارة بالسوء.
القسم الثاني: النفس اللوامة.
القسم الثالث: النفس المطمئنة.
ولا نشك أبداً أن نفس يوسف كانت نفساً مطمئنةً معصومةً.
رابعاً: لماذا يقول يوسف للعزيز: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ﴾ مع أن العزيز يعلم ذلك، أليس العزيز قال: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ﴾، فالعزيز يعلم علم اليقين أن يوسف بريء.
خامساً: نفس امرأة العزيز كانت أمّارة بالسوء، بل هذه حالها كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾، ﴿وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَابَ﴾، وافترتْ عليه كذباً، وسجنته ظلماً، واستعانت بالنسوة عليه، فماذا بقي في النفس الأمارة بالسوء؟([27]).
ولو قال قائل: أليسوا كفاراً؟ نقول: بلى، قال: كيف تقول: ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وكيف اعتبرتْ هذا الأمر إثماً وذنباً مع أنهم كفار لا يفرقون بين الطاعة والمعصية؟
الجواب: أولاً: أنّ الزنا قبيح عند الكافر والمسلم إلا من انتكست فطرته، امرأة ذات بعل وتطلب الزنا قبيح عند كل عاقل.
ثانياً: أنهم كانوا مشركين ولكن عندهم أصل توحيد الربوبية، ولذلك قال لها زوجها: ﴿وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ فهمْ يعرفون الله، ولكن خلطوا شركاً كما وقع لقوم نوح أنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره من الأصنام، ولذلك أكثر الشرك الذي وقع في الدنيا إنما هو الشرك في الألوهية، وهو صرف العبادة إلى غير الله تبارك وتعالى معه.
ولما بايع النبي رضي الله عنه النساء في المدينة؛ قرأ عليهنّ قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ﴾، فقامتْ هند بنت عتبة، وقالت: وهل تزني الحرة؟!([28]) مع أنها كانت على شرك، لكنها ترى أن الحرة لا يمكن أن تزني، فالزنا إذاً قبيح على كل حال في الإسلام وفي الكفر.
سبب امتناع يوسف عليه السلام من الخروج:
ولسائل أن يسأل: لماذا امتنع يوسف من الخروج من السجن؟ ألم تكن فرصة خروجه من السجن مواتية، لما قال الملك: ﴿ٱئْتُونِي بِهِ﴾ في البداية، لماذا قال: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ﴾ ؟ لِمَ لَمْ يطلب الخروج، ويأتي للملك، ويقول للملك: أنا سُجنت ظلماً، وأنا فسرتُ الرؤيا الآن، اعمل تحقيقاً أو ما شابه ذلك.
فماذا أراد يوسف عليه السلام؟
قال أهل العلم:
أولاً: أراد ألا يخرج إلا وساحته مبرأة؛ لأنه خشي أنه إذا خرج من السجن قبل أن تُبرَّأ ساحتُه أن يقول الناس: إنما خرج من السجن لأنه فسّر الرؤيا، لا لأنه بريء، فأراد أن يبين للناس أنه بريء لا أنه مؤول للرؤى.
ثانياً: خشي أن يبقى شيء في قلب الملك عليه بعد أن يخرج، ثم تأتي بطانة السوء إلى الملك وتقول: هذا الذي وقع له مع امرأة العزيز كيت وكيت، فأراد يوسف صلوات الله وسلامه عليه أن تُبرّأ جهته ابتداءً.
ثالثاً: حتى يعرف جميع الناس أنه بريء، ويكبر في عيونهم، فيكون ذلك أدعى لقبول دعوته صلوات الله وسلامه عليه.
رابعاً: هو يعلم علم اليقين أن الله مظهر أمره سبحانه وتعالى، وأن العاقبة للتقوى، وأنه سيخرج من السجن إنْ عاجلاً أو آجلاً، فأراد ألا يخرج إلا على عزة وكرامة صلوات الله وسلامه عليه.
جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «ولو مكثت في السجن ما مكث يوسف؛ لأجبت الداعي»([29]) عندما أمر الملك أن يخرج يوسف من السجن، قال يوسف: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ﴾، فهل يقال: إن يوسف أكمل من محمد ﷺ صبراً؟ أو يقال: إن محمداً ﷺ قال هذا على سبيل التواضع، كما قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»([30])، قال أهل العلم: يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أن النبي ﷺ إنما قاله على سبيل التواضع، وليس يوسف أكمل صبراً من محمد ﷺ، وإنما قال ذلك ليرفع من قدر يوسف، لا لينزل من قدر نفسه.
الأمر الثاني: أن النبي ﷺ قصد ذلك، وهو أن النبي ﷺ يخرج من السجن، وأنّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه أخذ بالحزم، وأن النبي ﷺ سيأخذ بالجائز؛ لأنه قد يُنسى، فلو رجع الرجل إلى الملك وقال الرجل: يوسف يقول: لا أخرج حتى تظهر براءتي، لقال: اتركوه في السجن، المهم أنه بيّن لنا الرؤيا وعرفنا ماذا نصنع، ويُنسى يوسف كما نُسي أول مرة.
تعظيم الملك ليوسف وكلامه معه:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ من الذي كلّم الملك؟ يحتمل أمرين:
الأول: فلما كلمه أي: يوسف كلم الملك، ودعاه إلى الله تبارك وتعالى، قال الملك ليوسف: ﴿إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ .
الثاني: أن الملك قال: ﴿ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾، فلما جاء يوسف، وكلّمه الملك وقال له: ﴿إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾، والمكين: هو الممكن في الأرض. فبعد هذا الذي رأيناه منك أنت مكين أمين.
عندها قال يوسف: ﴿ٱجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ ٱلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ .
لماذا عظُم يوسف في عين الملك؟
أولاً: لعلمه، عَلِمَ تفسير هذه الرؤيا، والرؤيا التي قصها عليه الساقي.
ثانياً: لصبره وثباته، يريدون إخراجه من السجن، وهو يقول: ﴿ٱرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَٱسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ﴾ .
ثالثاً: لطهارته وعفته، امرأة العزيز تراوده، النساء يراودنه، يُهَدَّد بالسجن، ومع هذا: العفة فوق كل شيء.
رابعاً: لثناء ساقي الملك عليه لما كان معه في السجن، فما سماه إلا: الصديق.
خامساً: لأنه مظلوم، فعظم لأجل ذلك كله في عين الملك.
تمكين الله عز وجل ليوسف عليه السلام:
قال يوسف عليه السلام مخاطباً العزيز: ﴿ٱجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ ٱلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، ولم يقلْ: إني جميل وسيم، فجمالُ يوسف أتاه بالبلاء: سجن، ومراودة، وأذى، وتهديد، ووعيد، وإنما أخرجه وفَضَّله ومَكَّنه عِلْمُه، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ بعد السجن، والضيق، والحصر، والشدة صار يوسف هو المُمَكَّن، هو المتصرف في شؤون مصر صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَأَجْرُ ٱلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ولذلك قال الشاعر:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله مَلَّكَ يوسفَ خزائنه بعد الخلاص من السجن
وهنا طلب نبي الله يوسف الولاية والإمارة، وهذا ليس مما يعيبه في شيء، وذلك أنه يجوز للرجل أن يطلب الإمارة إن كان يرى أنه أهل لها، أو كان يرى أنه لا يقوم بهذا العمل إلا هو، وهذا الأمر هو الأظهر، بل ــ والعلم عند الله تبارك وتعالى ــ يظهر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه كان يرى أن الأمر عليه واجب عيني، إذ إنه لا يمكن أن يقوم بهذا العمل أحد غيره، ولذلك طلب الإمارة.
مُكِّن يوسف عليه السلام في أرض مصر، وصار وزيراً فيها مُمَّكنا، ومرّت تلك السنوات السبع الخصبة، سبع بقرات سمان، سبع سنبلات خضر، واستعد لها يوسف صلوات الله وسلامه عليه أتمَّ استعداد، وذلك أنه زرَع كل أرض في مصر يمكن أن تزرع، حتى لا يضيع الفرصة، وجعل مخازن عظيمة للغلات، والحبوب، والطعام، الناس يأكلون بقدر حاجتهم فقط، لا زيادة على ذلك.
ومرَّت هذه السنوات السبع على مصر كما مرت على غيرها من البلاد، ثم لما جاءت السنوات السبع العجاف؛ ظهرتِ الحاجة في الأرض كلها، حيث انقطع المطر ولم تُنْبت الأرض، ولكن يوسف صلوات الله وسلامه عليه كان قد خَزَّنَ من الطعام شيئاً كثيراً، يكفي مصر وأهلها وغيرهم، وشاعَ بين الناس أنه لا طعام إلا في مصر، فانصب الناس على مصر من كل حدَبٍ ليشتروا منها الطعام، وكان ممن جاء إلى مصر إخوة يوسف من فلسطين يمتارون كما يمتار الناس، ويشترون كما يشتري الناس، وقد شاع عندهم كما شاع عند غيرهم عدلُ وزير مصر، وعِلْمُه وكرمه.
إخوة يوسف عليه السلام يأتون إلى مصر:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾، وهنا أشكل البعض، كيف عرفهم ولم يعرفوه؟ وكان الأصل أنه يعرفهم ويعرفونه، فهم إخوته، أو لم يعرفهم ولم يعرفوه، وقد أجاب أهل العلم عن هذه المسألة بأجوبة، منها:
أولاً: إنّ يوسف عليه السلام لما فارق إخوته كان صغيراً، والصغير إذا كَبُرَ تتغير أشباهه، وهو مكثَ في بيتِ العزيز حتى بلغ أشده، ثم مكثَ حتى راودته امرأة العزيز، ثم مَكَثَ حتى حكموا عليه بالسجن، ثم سُجِنَ صلوات الله وسلامه عليه، والمشهور عند أهل العلم أنه سُجِنَ سبع سنوات، ثم خرج من السجن عند رؤيا الملك، ومرَّت السبع السنوات السمان، ثم جاء إخوة يوسف في السنة الأولى العجفاء أو الثانية، إذاً أربع عشرة سنة في السجن وفي الوزارة، وقبلها سنوات غير معروفة قضاها في بيت العزيز صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقل الأمر عن عشرين سنة، فتغيرت أشباه الصغير، وأما الكبير فإن أشباهه في الغالب لا تتغير كثيراً، ولذلك عرفهم، وهم لم يعرفوه.
ثانياً: كانوا عدداً، وكان واحداً، فهو إذا خفي عليه معرفة أحدهم، فلا يخفى عليه معرفة الثاني أو الثالث أو الرابع، فبمجموعهم عرفهم، وهو لما كان واحداً، فكان يمكن أن يُنسى شبهه.
ثالثاً: إنهم كلّموه بلغتهم، فعرفهم من لهجتهم، وهم لم يعرفوه؛ لأنه كلّمهم بلسان أهل مصر.
رابعاً: هيبة المُلْك، دخلوا وهم ضعفاء، وهو وزير، فهيبة المُلْك لم تمكنْهم من تدقيق النظر إليه.
خامساً: كان ينتظرهم؛ لأنه يعلم أن هذه السنوات العجاف قد مرّت على البلاد كلِّها، فكان ينتظر مجيئهم، وبعكسه هم ما كانوا يتوقعونه أبداً.
سادساً: ما كان يمكن أن يخطر على بالهم أن يوسف يكون في هذا المكان صلوات الله وسلامه عليه، فأحسن الأحوال عندهم أن يكون واحداً من شعب مصر إن كانوا علموا أنه في مصر، أما إذا لم يعلموا أنه في مصر فالأمر في هذا واضح.
سابعاً: أمر الله، الله عرَّفهم له، ولم يُعَرِّفه لهم؛ لحكمة عنده سبحانه وتعالى.
المهم عرفهم وهم له منكرون، لم يعرفوه.
قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ٱئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ كيف عرف أخاهم من أبيهم؟
قال بعض أهل العلم:
أولاً: سألهم عن أحوالهم، من أنتم؟ من أي البلاد؟ متى جئتم؟ ماذا تريدون؟ هل أنتم إخوة؟ هل أنتم أبناء عم؟ هل لكم أب؟ هل لكم أخ؟ سألهم عن أحوالهم، فكان من سؤاله أن عرف أن لهم أخاً.
ثانياً: بعد أن زودهم بالطعام، قالوا: أعطنا أيضاً لأبينا وأخينا، وعندها قال لهم يوسف صلوات الله وسلامه عليه: ائتوني بأخيكم هذا حتى أراه وأعطيكم زيادة، ولذلك قال: ﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي ٱلْكَيْلَ﴾، ألا ترون أني زدتكم، ﴿وَأَنَا خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ﴾، ألا ترون الكرم، ألا ترون السماحة، ألا ترون الإنعام، ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ﴾ فاستعمل الترغيب والترهيب، رغبهم ابتداءً، ﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي ٱلْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ﴾، ثم رهبهم وقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾، سنحاول، ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ إما إنا لفاعلون أي آتون به، أو إنا لفاعلون؛ أي: نكلم أبانا ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ٱجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا ٱنْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، البضاعة هي: المال أو الحاجيات التي جاؤوا بها، جاؤوا بفضة، بذهب، جاؤوا بمتاع عبارة عن جلود، آنية، أو أي شيء، فقال: لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم زيادة على ما أعطيناهم من الميرة والطعام ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا ٱنْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وهذا صبرٌ وجَلَد، وإلا يوسف مشتاقٌ جداً للرجوع إلى أبيه وأهله، ولكن لحكمة أرادها الله ــ جل وعلا ــ.
وهنا قوله: ﴿ٱجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا ٱنْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لماذا وضع بضاعتهم في رحالهم؟
قال أهل العلم:
الأمر الأول: أنه من باب الكرم والسخاء، فما أحب أن يظهر لهم أمام الناس وضع هذه البضاعة، حتى لا يلحقهم في هذا منّة منه.
الأمر الثاني: أن يوسف عليه السلام خشي ألا تكون معهم بضاعة للسنة القادمة فلا يأتون، وهو يريدهم أن يأتوا، فجعل بضاعتهم في رحالهم.
الأمر الثالث: رأى أنه من الجفاء وسوء الخلق والعقوق أن يأخذ من أبيه وإخوته مالاً نظير الطعام.
الأمر الرابع: حتى يكون هناك اطمئنان من قِبَلِهم جهة يوسف، فيأتون في السنة القادمة بأخيهم.
الأمر الخامس: بالغ في الإحسان إليهم من باب ردِّ الإساءة بالإحسان، فهم أساؤوا إليه، فردَّ الإساءة بالإحسان كما قيل:
يزيد سفاهة وأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً
فعاملهم بنقيض معاملتهم له صلوات الله وسلامه عليه.
رجعوا إلى أبيهم، ولم يعلموا بعد أن البضاعة رُدتْ إليهم في رحالهم، ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ﴾ أي: في السنة القادمة، أُعطينا كيل هذه السنة، ولكن منع منا الكيل مستقبلاً، ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ﴾، لن يكون كيل إلا إذا كان أخونا معنا، ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، هذا الآن بنيامين أخو يوسف الشقيق وأخوهم من أبيهم، ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أنتم لا تُؤتمنون عليه، هذه الكلمات: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، هي الكلمات ذاتها التي أُطلقت زمن يوسف، ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وما كنتم حافظين ليوسف، ضيعتم الأمانة، جئتوني بقميص لم يقطع، وقلتم أكله الذئب، ﴿فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ﴾ أي: لن أرسله معكم.
عندها سكتوا، فلا يستطيعون أن يجيبوا بشيء، يعلمون أنهم مذنبون، ولذلك لزموا الصَّمتَ، رجعوا إلى رحالهم، أنزلوا بضاعتهم، وإذا البضاعة التي ذهبوا بها ليأخذوا مكانها الميرة رُدتْ إليهم، فرحوا كثيراً ثم رجعوا إلى أبيهم، ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾، تريد دلالة على صدقنا، انظر جئنا بالطعام، وهذه بضاعتنا رُدت إلينا، ما كذبناك، وهذا من إحسان الوزير إلينا، وسنرجع، ونحفظ أخانا، ونزداد مع هذا كيل بعير، وهذا كيل يسير سهل، كل القضية أن يذهب معنا أخونا.
قال: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾، تقسمون بالله ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ وآتوه موثقه لأنهم ــ فعلاً ــ صادقون، رضي يعقوب عليه السلام، وقال: ﴿ٱللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ .
لماذا رضي يعقوب، ولماذا وثق بهم؟ وهو قبل قليل قال لهم: لن أرسله معكم؟
قالوا لأمور:
الأمر الأول: إن إخوة يوسف صلح أمرهم بعد غياب يوسف هذه المدة، أكثر من عشرين سنة، ما رأى عليهم شيئاً من الفساد، بل رآهم صالحين محبين لأبيهم، أليسوا قالوا: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ وكان كما قالوا، فلما رأى صلاحهم اطمأن إليهم.
الأمر الثاني: هم لم يظهروا حسداً للأخ الصغير، وإنما كان حسدهم ليوسف صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك ما كان يعقوب يخشى على بنيامين كثيراً كما كان يخشى على يوسف عليه السلام.
الأمر الثالث: أنه إنما رضي بوحي من الله، الله أمره لحكمة عنده سبحانه وتعالى، ولأمر يدبره ــ جل وعلا ــ.
الأمر الرابع: أن يعقوب اطمأن لما وجد البضاعة رُدَّت إليهم.
الأمر الخامس: مال إلى تصديقهم.
نصيحة الأب المشفق:
ثم نصح لهم يعقوب، فقال: ﴿يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾، ذكروا أن مصر في ذلك الوقت كان لها أربعة أبواب، وأمرهم يعقوب ــ عليه الصلاة والسلام ــ ألا يدخلوا من باب واحد، وذلك أنهم كان لهم جمال ظاهر، وهم عشرة إخوة، فلذلك خاف عليهم أن يصابوا بعين، فقال: ﴿لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ﴾ والعين حق([31])، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾، وكان النبي ﷺ يعوذ الحسن والحسين من العين فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة»([32])، وقال: «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين»([33]).
دخول مصر مرة ثانية:
دخلوا على يوسف فآوى إليه أخاه، كيف آواه؟ الله أعلم، وذكرت أشياء كثيرة، ذكر أنه دعاهم إلى طعام، ثم ناداه وحده، وذكر غير ذلك، المهم أنه آواه إليه دون أن يشعروا، وقال: ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ والسقاية: الذي يكيلون به وهو صاع الملك، وفتح رحل أخيه باتفاق بينه وبين أخيه ووضعه فيه ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾، وهذا ليس من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن هذا كذب فيوسف لم يقل: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾، ولكن الذين جُعِلوا على الطعام لم ينتبهوا، أخذه يوسف دون علمهم، ووضعه في رحل أخيه، لم يعلم أحد إلا يوسف وأخوه.
قال: ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ﴾ يعني: الجماعة المسافرة معها الإبل عليها الطعام ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ [يُوسُف: 70-71] ولم يقولوا: «ماذا سرقنا»؛ لأنهم لا يرون أنهم سارقون، ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾، وأراد هنا أن يبين لهم أن هذا الصواع له قيمة عظيمة، ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾، بدليل أنَّا جئنا واعترفنا لكم أننا وجدنا متاعنا رُدَّ إلينا لما رجعنا إلى بلادنا، خشينا أن يكون الأمر وقع فيه خطأ، فجئناكم وقلنا لكم: ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ٱللَّهُ﴾ سبحان الله، قالوا: ما جزاء من وجد في رحله، هذا من الكيد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطّارق: 15-16]، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ ٱللَّهُ﴾، هذا من كيد الله ليوسف، كيف؟
أولاً: جعل يوسف السقاية في رحل أخيه دون أن يشعروا.
ثانياً: ناداهم، وبين لهم قيمة هذا الصواع، بحيث أنه بعد ذلك إذا حوسب من أخذه حساباً عسيراً لم يعترض أحد.
ثالثاً: جعلهم هم الذين يحكمون عليه، لا هو، ففي العادة الذي يحكم الحاكم لكن هنا طلب منهم أن يحكموا هم، قال: ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ أي: السارق جزاء الصواع، يعني: تأخذونه عبداً عندكم، وهذا في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام، فألزمهم بشريعة يعقوب؛ لأنه لو حاكمهم على شريعة الملك ما كان يمكن أن يأخذه؛ لأن في قانون الملك أنه من سرق يضرب ويحبس، لكن في شريعة يعقوب الذي يسرق يُسترق؛ أي: يكون عبداً، وهذا من الكيد، جعلهم هم الذين يحكمون على أخيهم بأن يكون عبداً عند يوسف عليه السلام.
رابعاً: بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه؛ لأنه لو بدأ بأخيه لوقع في قلبهم شك أن المسألة مدبرة، لكن بدأ بوعاء الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وهم يطمئنون أنهم لم يسرقوا، وهكذا حتى وصل إلى الحادي عشر، فلما فتَّش وجد الصواع، فَصُدِموا وذُهِلُوا، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ٱللَّهُ﴾ .
ثم قالوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، وهنا أرادوا أن ينزهوا أنفسهم، قالوا اعلم أيها الملك: إذا كان سرق فنحن لسنا مثله، وإنما هذا أخونا من أبينا، وإنما تأثّر بأخواله، ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، أخوه من أمه وأبيه، أما نحن فلا نسرق، يعني: لا تجعل هذا عيباً فينا، هذا عيب فيه، وفي أخيه الذي سرق من قبل ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ .
متى سرق يوسف عليه السلام؟
أولاً: أن يوسف سرق مِنْ جده لابان والد راحيل صنماً، فكسره عندما أرادوا الخروج مع أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام، فقالوا: إن يسرق فقد سرق يوسف صنم جدنا.
ثانياً: أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان عند عمته التي ربته، ولم يكن لها أولاد، وكانت تحبّ يوسف حباً شديداً، فلما كبر يوسف قليلاً أراد أبوه أن يأخذه منها، فأبت عليه، قالت: دعه عندي، قال: لا أستطيع، فأخذت نطاقها وربطته على يوسف، ثم ألبسته الملابس، فلما جاء أبوه ليأخذه، قالت: إني أفقد نطاقي، وأخشى أن يكون سرقه ولدك، فتّشْه، فنزعوا ملابس يوسف فوجدوا النطاق، قالت: من سَرَقَ اسْتُرِقَّ، فأخذتْ يوسف عندها حتى ماتت، ثم رجع إلى أبيه، فقالوا: سرق نطاق عمتنا، وهذا موجود عند أهل الكتاب.
الثالث: وهو الأظهر قالوا هذا الكلام كذباً.
وهذا يدل على أن الحسد لا يزول، فهو داء عضال.
عين الحسود عليك الدهر حارسة تبدي المساوي والإحسان تخفيه
يلقاك بالبشْر يبديه مكاشرة والقلب مضّطغنٌ فيه الذي فيه
فكان رد يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما قالوا هذا الكلام: ﴿قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾ ولكنه أسرّها في نفسه ولم يبْدها لهم، ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ .
عندها قالوا: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [يُوسُف: 78-79] تأمرونني بالظلم، لا يمكن أبداً أن أكون ظالماً، ﴿فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ خلصوا نجياً؛ أي: انفردوا وتناجوا، ولذلك قال أحد الأعراب لما سمع أحدهم يقرأ هذه الآية ﴿فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ قال: والله لا يخرج هذا الكلام إلا من (إلْ) يعني: من إله، لما فيه من البلاغة، اختصر خروجهم وانفرادهم عن الناس وتناجيهم بقوله: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ أي: ابتعدوا وتناجوا بينهم، ماذا قالوا؟ ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ ٱللَّهِ﴾، لما قال لهم أبوهم: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾، ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ ٱللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ﴾ عندكم سابقة، ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ * ٱرْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ﴾، قولوا الحق، ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ لما قلنا لك: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، ما كنا للغيب حافظين، ﴿وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيرَ ٱلَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، ماذا قالوا عن يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ لم يتغير الكلام، رجعوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا له هذا الكلام بعد فَقْدِ بنيامين، فما قال لهم؟ ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ .
وهذا يدل على أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، إذ لو كان يعلم الغيب لعلم أنهم في الأولى كاذبون وفي الثانية صادقون، لكنه لا يعلم الغيب، ولذلك كان قوله في الثانية كقوله في الأولى ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ .
الأمر الثاني: عاقبة الكذب سيئة على كل حال، ولذلك لو لم يكن من آفات الكذب إلا أنه يرد صدق الكاذب لكفى؛ لأن عنده سوابق، ومن هدي أهل الحديث أنهم لا يقبلون حديث الكذاب ولو تاب.
الضيق يزداد على يعقوب عليه السلام لفقد ولديه:
قال الله تعالى مبيناً حال يعقوب: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ تذكر يوسف؛ لأن الحالة مشابهة، أخذوا يوسف، وقالوا: أكله الذئب، والآن أخذوا أخاه، وقالوا: إن ابنك سرق، فتذكر يوسف ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ﴾ حرّك المواجع، وابيضت عيناه من الحزن، صار أعمى من شدة الحزن، ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾، حزين أشد ما يكون الحزن، فَقَدَ يوسف، والآن فقد أخاه، والمتهم في يوسف وأخيه إخوتُهُ، حزْنٌ عظيمٌ أصاب يعقوب عليه الصلاة والسلام.
وليس في هذا عدم صبر، بل هذا هو الصبر، والحزن لا ينافي الصبر، ولذلك قال له أبناؤه: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ أي: ضعيفاً، ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ﴾ لست أشكو لكم، وإنما أشكو بثي وحزني إلى من يشتكي إليه الخلق، وهو الله سبحانه وتعالى، وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يبكي رضي الله عنه.
ثم قال يعقوب عليه السلام: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ مع هذا كله أعلم من الله ما لا تعلمون، أي: من الفرج الذي سيأتي، يوسف قال لي: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ وستتحقق، ﴿فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ﴾، يوسف حيٌّ، فتحسسوا من يوسف، وأيضاً من أخيه ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ﴾، ما زال يَعِظُهُمْ، فيهم إيمان، ولكن فيهم أيضاً معاصٍ، ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ﴾ .
إخوة يوسف عليه السلام يتعرفون عليه:
لما جاءت السنة الثالثة؛ دخلوا على يوسف ﴿قَالُوا يَاأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ سيئة رديئة، ﴿فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ﴾، أعطنا كيلاً مقابل هذه البضاعة الرديئة، وأوفه لنا، فقد عودتنا الوفاء، وتصدق علينا بترك أخينا الذي استعبدته، أرجعه إلى أبيه.
فقال لهم:﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾، الآن كلمهم بلسانهم، كلمهم بدون ترجمان، ما فعلنا بيوسف؟! تتكلم إذاً العبرية، تتكلم بلغتنا، فنظروا إليه، كأنه يوسف، الآن بدأت الصورة ترجع من جديد، ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأََنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾، ناداه، وإذا هو معزز مكرم، ليس عبداً، ﴿قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ هنا سُقِطَ في أيديهم ولم يكن من بد إلا الاعتراف بالذنب: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ انتصارات ليوسف عليه الصلاة والسلام، أول شيء ابتلاءات والآن انتصارات، ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ﴾ ماذا ينفع التثريب؟ وهذا هو العفو عند المقدرة، ﴿يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ﴾ .
حادثة مشابهة:
وهذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي رضي الله عنه لما جاء إلى النبي ﷺ مسلماً تائباً إلى الله ــ جل وعلا ــ وكان قد هجا النبي ﷺ قبل إسلامه ــ، فبايعه النبي ﷺ وصدّ عنه، وصار كلما أتى ليجلس مع النبي ﷺ قام وتركه، فتضايق أبو سفيان، وهو ابن عم النبي ﷺ، فاشتكى إلى عليّ، فقال له علي: ويحك أوَ ما تدري ما فعلت، أنت ابن عم النبي ﷺ وتهجوه بالشعر، قال: وماذا أصنع؟ قال: اذهب إلى رسول الله فقل له: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ أي: كما قال إخوة يوسف ليوسف، وهذا استنباط عجيب من عليّ رضي الله عنه، فجاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ وهو جالس، فقابله، وقال: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾، فلم يكن مِنْ بُدٍ أن قال النبي ﷺ كما قال أخوه يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ﴾ .
إقرار بالذنب:
وعندها بعد أن أقروا بالذنب قال لهم يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن ذكروا له أحوالهم وما حصل لأبيهم، وأنه عمي لفقده ليوسف وأخيه، قال لهم يوسف: ﴿ٱذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وهذه من علامات النبوة، ودلائلها، ومن الآيات الباهرة التي أعطاها الله تبارك وتعالى لنبيه يوسف عليه السلام، ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ﴾ أي: اقتربت وجد يعقوب رائحة القميص الذي مسَّ جلد يوسف عليه الصلاة والسلام، ﴿قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ أي: لولا أن تتهمونني بالكبر والخرف ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ ٱلْقَدِيمِ﴾ إنك مخطئ، ومن هؤلاء الذين اتهموه؟ هم الذين جلسوا عنده؛ لأن إخوة يوسف هنا تفرقوا إلى قسمين: قسمٌ ذهب إلى يوسف، وقسمٌ بقي عند الأب.
تصديق بشرى يعقوب عليه السلام:
جاء البشير ومعه القميص، ألقاه على وجه يعقوب، ﴿فَٱرْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾ [يُوسُف: 96-98] وذكر كثير من أهل التفسير أنه أخّرهم إلى وقت السحر؛ لأن هذا الوقت وقت إجابة، حيث ينزل الرب سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل، قال: أدعو لكم في هذا الوقت.
ذُكِرَ أن عمر رضي الله عنه كان ذاهباً إلى المسجد فسمع إنساناً يقول: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لي. فنظر عمر فإذا الصوت خارج من دار ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
تصديق رؤيا يوسف عليه السلام:
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾، قربهما إليه، ﴿وَقَالَ ٱدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، سجدوا له، سجد الأب والأم ــ الشمس والقمر ــ وسجد إخوة يوسف ــ أحد عشر كوكباً ــ، وقيل: إن أم يوسف قد ماتت، وأن هذه التي سجدت مع أبيه هي خالته، أمُّ إخوته، والعلم عند الله تبارك وتعالى، ولكن ظاهر الآية أنها أمه.
حكم السجود:
والسجود ــ كما قال أهل العلم ــ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: سجود على وجه التعظيم والعبادة، وهذا لا يجوز إلا لله، ومن سجد لغير الله سجودَ تعظيمٍ وعبادةٍ فهو كافر مشرك في كل الشرائع.
القسم الثاني: سجود إكرام وتحية، وهذا كان جائزاً في الشرائع السابقة، وحُرم في شريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه، ومنه سجود الملائكة لآدم، ومنه سجود يعقوب وأم يوسف وإخوته له، ومنه سجود معاذ للنبي ﷺ لما جاء وسجد للنبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: «ما هذا يا معاذ؟» قال: يا رسول الله وجدتهم ــ يعني: أهل اليمن ــ يسجدون لملوكهم وبطارقتهم، فأنت والله أحق بالسجود منهم، وكان هذا مشروعاً عندهم فنهاه النبي ﷺ عن ذلك([34]).
وبهذا تنتهي هذه القصة العظيمة، قصة يوسف صلوات الله وسلامه عليه مع أبيه وإخوته.
([1]) أخرجه البخاري (3390) من حديث ابن عمر ؟ت.
([3]) أخرجه أبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي (3943)، وابن ماجه (1971)، وفي إسناده ضعف.
([4]) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
([5]) أخرجه البخاري (222) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة»، فذكر منهم: «ورجل باع حراً فأكل ثمنه».
([6]) انظر: «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ص213 ــ 215، وفيه أيضاً حل لهذا الإشكال.
([7]) أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334، 3251)، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه الألباني «صحيح الجامع» (7865).
([8]) أخرجه الطبري في «تفسيره» (18949، 18950، 18951).
([9]) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
([11]) أخرجه مسلم (107) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([13]) يخطئ البعض فيرى أن هذه الخطوط التي في الأيدي الآن هي من تلك النسوة، وهذا غير صحيح؛ لأن تلك النسوة من الأقباط، وهنّ خمس أو عشرون أو أربعون امرأة، وكل الناس أيديهم هكذا، فليس من ذلك التقطيع.
([15]) أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس ؟ت.
([16]) أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023)، وهو في «صحيح الجامع» (992).
([17]) أخرجه أحمد (2/237)، وأبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (176)، وابن ماجه (386)، وصححه الألباني «إرواء الغليل» (9).
([18]) قال الخطابي تعليقاً على الحديث السابق: «وفي حديث الباب دليل على أن المفتي إذا سُئل عن شيء وعَلِمَ أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته؛ استحب تعليمه إياه، ولم يكن ذلك تكلفاً بما لا يعنيه لأنه ذكر الطعام وهم سألوه عن الماء لعلمه أنهم قد يعوزهم الزاد في البحر».
([19]) الضغث: يقال: أتانا بأضغاث من أخبار: بضروب مختلطة منها.
وأضغاث الأحلام: ما كان منها ملتبساً مضطرباً يصعب تأويله. «المعجم الوجيز» ص381.
([20]) أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607).
([21]) اللطيف: هو الشيء الخفي الذي لا يكاد يراه كل أحد.
([22]) تقدم تخريج حديث الشفاعة ص55.
([23]) أخرجه مسلم (2904) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([24]) أخرجه أبو داود (1169) من حديث جابر رضي الله عنه، وأيضاً أخرجه ابن ماجه (1270)، من حديث ابن عباس ؟ت، وأيضاً أخرجه ابن ماجه (1269) من حديث كعب بن مرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (416).
([25]) انظر: «تفسير الطبري» (16/129)، روي عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وقتادة.
([26]) أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في «صحيح الجامع» (240).
([27]) انظر: «التفسير القيم» ص316، 317.
([28]) أخرجه الطبري في «تفسيره» (23/342) من حديث عمر رضي الله عنه.
([29]) أخرجه البخاري (3372)، ومسلم (151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([31]) أخرجه البخاري (5740)، ومسلم 2187) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([32]) أخرجه البخاري (3371) من حديث ابن عباس ؟ت.