إبراهيم عليه الصلاة السلام هو أبو الأنبياء الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾  ([1])، خليل الرحمٰن.

ذُكر نبي الله إبراهيم في كتاب الله تبارك وتعالى تسعاً وستين مرة، واختلف أهل العلم في اسم أبيه، فالذي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز أن اسم أبيه آزر، كما قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾، وكذلك جاء في السنة عن النبي ﷺ أنه قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ــ وعلى وجه آزر قترة وغبرة ــ، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: فاليوم لا أعصيك، عندها يقول إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، وأَيُّ خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله له: إني حرمت الجنة على الكافرين»([2]).

فالذي جاء في الكتاب والسنة أن اسم أبيه آزر، والمشهور في كتب الأنساب وفي كتب أهل الكتاب أن اسم أبيه تارح، وقيل: إن آزر عمٌّ لإبراهيم، وهو الذي ربّاه، فسماه أباً، لقول النبي ﷺ: «عمّ الرجل صنو أبيه»([3]) يعني كأبيه، فسماه أباً من باب الاحترام.

والظاهر من نصوص القرآن الكريم أن آزرَ أبٌ صريح لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فجمع بعض أهل العلم هذا بقولهم: لعل أحد الاسمين لقب والآخر اسم، فيكون اسمه آزر، ولقبه تارح، أو العكس، أو يكون له أكثر من اسم، وأياً كان لا يهم كثيراً.

نشأة إبراهيم عليه السلام:

نشأ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في العراق، في بيئة وثنية، تُقدس الأصنام، وتعبدها من دون الله تبارك وتعالى، بل قيل: إنهم كانوا صابئةً يعبدون الشمس، والقمر، والكواكب، وأياً كان؛ فعبادتهم للأصنام جاء النص عليها في كتاب الله تبارك وتعالى.

ذُكر أن أبا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان نجاراً، وكان ينجر الأصنام، وكان أحياناً يعطيها لولده إبراهيم، يأمره أن يبيعها، فيخرج بها ــ وهو صغير ــ إلى السوق، فينادي بالناس: «من يشتري ما يضر ولا ينفع»، وكان أحياناً يذهب بها إلى الماء، فيغطس رأسها في الماء ويقول: «اشربي» متهكماً صلوات الله وسلامه عليه.

ومن نظر في الكتاب والسنة يتبين له أن الله تبارك وتعالى لم يذكر لنا ولا النبي ﷺ شيئاً عن نشأة إبراهيم، لا عن بلده، ولا عن زمانه، ولا عن نشأته من الصغر، كيف نشأ؟ كيف رُبي؟ لم يُذكر شيء من هذا، وإنما أول ما ذكر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، هو أنه جاء وخاطب قومه في عبادتهم للأصنام.

المسلمون أحق الناس بإبراهيم عليه السلام:

انتسب إلى إبراهيم أربعُ طوائف: المسلمون، واليهود، والنصارى، والمشركون، كلُّ هؤلاء انتسبوا لإبراهيم، فهو إذاً عامل مشترك بين الجميع، فالكل يعظم هذا الإنسان صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك نبه الله تبارك وتعالى كثيراً في كتابه العزيز على حال إبراهيم، ومن الذي يستحق أن ينتسب إليه صلوات الله وسلامه عليه.

أما اليهود والنصارى فقد قال الله تبارك وتعالى يخاطب أهل الكتاب: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ ٱلتَّوْرَاةُ وَٱلْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان يهودياً، ولا نصرانياً، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، فكان صلوات الله وسلامه عليه متحنفاً عن الشرك أي: منحرفاً عن الشرك إلى الإيمان.

حقيقة دعوة إبراهيم عليه السلام:

والآيات التي تبين حقيقة دعوة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كثيرة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، فمنها قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلْآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، وقال جل ذكره لنبيه محمد ﷺ: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، وقال: ﴿وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾  .

فنبَّه الله تبارك وتعالى كثيراً في كتابه العزيز على هذه القضية المهمة، وهي أن إبراهيم ما كان مشركاً، ولذلك لما فتح الله تبارك وتعالى على نبيه مكة ــ شرفها الله ــ دخل الكعبة، فوجدهم رسموا إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما وهما يستقسمان بالأزلام، فقال النبي ﷺ: «والله إنِ استقسما بالأزلام أبداً»([4])، و(إنْ) هنا بمعنى (ما) النافية.

فضل إبراهيم عليه السلام:

نبه الله تبارك وتعالى وكذا نبيه ﷺ كثيراً على فضائل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فمما جاء في كتاب الله:

أولاً: الاصطفاء وتمام النعمة: فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ﴾، وأتم نعمته عليه كما يقول ليوسف عليه السلام: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾  .

ثانياً: وصفه الله بأنه نبي صديق: كما قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾  .

ثالثاً: وصفه الله بالصلاح: فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلْآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾  .

رابعاً: وصفه بأنه أواه حليم منيب: فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾  .

خامساً: سليم القلب: قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾  .

سادساً: آتاه الله رشده وهو صغير، فضلاً من الله ومنّة، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾  .

سابعاً: رفع الله درجته: فقال: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾  .

ثامناً: اتخذه الله خليلاً ﴿وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾  .

تاسعاً: أنه وفَّى ما عليه: فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّى﴾  .

وأما ما جاء عن النبي ﷺ:

فقد جاء رجل إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: يا خير البرية، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ذاك إبراهيم خليل الله»([5]).

وجاء عن النبي ﷺ أن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه([6]).

وفي حديث المعراج: لما عُرج بالنبي ﷺ لقي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور([7]).

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه:

بدأ نبي الله إبراهيم دعوته بأبيه، وتلطف معه أعظم التلطف، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾، فبدأ بأقرب الناس إليه، وهو أبوه، ولم يذكر الله تبارك وتعالى لنا شيئاً عن أمه، وإنما ذكر لنا أباه، فتلطّف في الدعوة مع أبيه كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾، ولم يقلْ له: (يا أبت إنك جاهل)، وإنما جاء بعبارة لطيفة، فقال: ﴿جَاءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾، مع أن أباه كان يعبد الأصنام وينحتها، وهذه طاعة للشيطان، وهذا يُسمى بشرك الطاعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا ٱلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾   أي: ألا تطيعوا الشيطان.

ثم قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ ٱلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾، نعم، كلُّ كافر فهو ولي للشيطان، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾   أي: يخوفكم أولياءه، وقال: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ﴾، وقال: ﴿إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ﴾، وكلمة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لأبيه هنا تضمنت ــ كما نرى ــ النصحَ، والرفقَ، واللينَ، ومحبةَ الخير، وإقامةَ الحجة على أبيه؛ لينقذه من عذاب الله تبارك وتعالى، ومن الضلال إلى الهدى، هكذا كانت دعوة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فكيف كان رد أبيه عليه؟ ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾، إبراهيم يقول: (يا أبت.. يا أبت.. يا أبت)، وأبوه يقول: ﴿﴾، ولم يقل له: (يا بُني)، قسوة يجدها الكافر في قلبه، حتى كلمة (بُنَي) لم يقلها لإبراهيم، وإنما ناداه باسمه دلالةً على القسوة التي في قلبه عليه.

ولذلك وصف الله تبارك وتعالى الكفار بأن قلوبهم قاسية: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾، ثم زادت هذه القسوة فهدد بالرجم ثم زادت، فقال: ﴿وَٱهْجُرْنِي﴾، فطلب الهجر من إبراهيم، ثم أَيُّ هجر قال: ﴿وَٱهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ أي: اهجرني هجراً طويلاً، لا أريد أن أراك، لا أريد أن أسمعك، طلبَ من إبراهيم أن يتركه وآلهته، عندها قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾، وهذا مصداق أمر الله تبارك وتعالى للمؤمنين في تعاملهم مع الجهال، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾  .

وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا ٱللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ﴾   فطبق نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر، فقال لأبيه: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾  .

ثم قال: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾   وهذا وعد من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وقد وفّى صلوات الله وسلامه عليه بهذا الوعد، فقال: ﴿وَٱغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالِّينَ﴾، فوفى إبراهيم، ولكن لما تبيَّن لنبي الله إبراهيم أن أباه عدوٌ لله تبارك وتعالى تبرَّأ منه، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، ولما استغفر إبراهيم لأبيه ــ وهو على شركه وضلاله وكفره ــ اقتدى المسلمون بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فاستغفروا لموتاهم من المشركين، واستغفر النبي ﷺ لعمه أبي طالب، وكان يصلي على بعض المنافقين إذا ماتوا صلوات الله وسلامه عليه، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ﴾  .

وقد أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين بالاقتداء بإبراهيم صلوات الله وسلام عليه، فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ﴾، ثم استثنى الله تبارك تعالى استغفار إبراهيم لأبيه، فقال: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾   هذه مستثناة، في هذه لا تقتدوا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فمنعهم الله ــ جل وعلا ــ من الاستغفار للمشركين، ﴿وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾   إذاً لا تقتدوا به في هذه، وهي استغفاره للمشركين؛ لأنه إنما كان عن موعدةٍ ثم ترك ذلك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

كذلك قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لأبيه: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ ٱلْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾، وقال: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَٱبْتَغُوا عِنْدَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، هذا حديث إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لأبيه يحذره من الشرك الذي وقع فيه.

دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه ومناظرته لهم:

المرحلة الثانية من دعوة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة قومه إلى التوحيد، فقال ــ جل وعلا ــ في ذكر المناظرة التي جَرَتْ لإبراهيم مع قومه، : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ ٱلْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأََكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾  .

إن موقف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من هذه الكواكب موقف مناظرة لا موقف نَظَر، فلم يشكَّ إبراهيم أبداً بالله ــ جل وعلا ــ، ولا فكر يوماً أن النجم يمكن أن يكون رباً، أو أن القمر يمكن أن يكون رباً أو أن الشمس يمكن أن تكون رباً أبداً، وإنما هذا على سبيل التنزل في المناظرة مع قومه، وهذا أمر شائع في المناظرات، ولذلك قال بعدها: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾، إذاً هو أراد أن يقيم عليهم الحجة، وما أراد أبداً أن هذا إلٰه من دون الله تبارك وتعالى([8]).

وكأن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قال لقومه: تعالوا فلننظر هذا النجم هل يستحق أن يكون رباً؟ هذا القمر هل يستحق أن يكون رباً؟ هذه الشمس هل تستحق أن تكون رباً؟ أفل النجم، أفل القمر، أفلت الشمس، أفل أي: غاب، ولا ينبغي لرب أن يغيب، والمناظر قد يقول شيئاً وهو لا يعتقده من باب الإلزام، ولذلك سيأتينا قول إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لقومه لما جاءوا ــ وقد كسّر أصنامهم ــ فقالوا له: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَٱسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبيَاء: 62-63]، فهذا على سبيل المناظرة لا على سبيل الاعتقاد، فهو أراد أن يلزمهم وأن يقيم عليهم الحجة صلوات الله وسلامه عليه.

وفي قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾   يحتمل أمرين:

الأول: أن يكون هذا من باب الاستفهام، فكأن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه جلس مع قومه، فلما رأى النجم قال لهم: (هذا ربي)؟ بإسقاط الهمزة، (أهذا ربي؟) أهذا تزعمون أنه ربٌ؟ فلما غاب طلع القمر، فقال: أهذا ربي؟ فلما غاب طلعت الشمس قال: أهذا ربي؟ وهو لا يقولها على سبيل التقرير، وإنما يقولها على سبيل الاستفهام، على وجه التوبيخ والتحقير لرأيهم، كما في قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ﴾   أي: إذا متَّ أنت هم يخلدون؟! أنت تموت وهم ميتون، فهذا يكون على سبيل التوبيخ في الاستفهام، لا على سبيل أنه يعتقد هذا الأمر.

والدليل على أن إبراهيم لم يشك أمور منها:

أولاً: الاعتقاد بأن النجم ربٌ، أو أن القمر ربٌ، أو أن الشمس ربٌ كفر، والأنبياء معصومون مِنْ الكفر، وقد تقدم القول في هذا، وقد أجمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون من الكفر، ومن زعم أن نبياً من الأنبياء كفر بالله تبارك وتعالى؛ فهو الكافر.

ثانياً: إبراهيم أنكر الشرك في البداية: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، ثم قال: ﴿فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾، إذاً هو في البداية أنكر عليهم أن يعبدوا غير الله تبارك وتعالى، فكيف يشك في هذه المسألة؟

ثالثاً: هذه الآية إنما كانت بعد أن أراه الله تبارك وتعالى ملكوت السماوات والأرض؛ أي: عظمة خلق الله ــ جل وعلا ــ، ثم قال: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾، فالذي أراه الله ملكوت السماوات والأرض لا يمكن أبداً أن يشك بأن النجم رب، أو أن القمر رب، أو أن الشمس رب.

رابعاً: قوله تعالى في آخر هذه الآيات: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾   دَلَّ على أنه أراد أن يقيم عليهم الحجة، لا أنه اعتقد ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

خامساً:نفى الله الشرك عن إبراهيم في كثير من الآيات، فقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾، ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾   في آيات كثيرة، وهذا يُسمى بنفي الكون؛ أي: لم يكن، ولن يكون أبداً من المشركين، فلم يكن إبراهيم يوماً من المشركين، وهذا نصٌّ من الله تبارك وتعالى إذ يستغرق جميع الزمن الذي عاش فيه إبراهيم عليه السلام.

هل وقع الكذب من إبراهيم عليه السلام:

قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾، ﴿أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِٱلْيَمِينِ﴾، وهنا في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وذلك أن قومه أرادوا أن يخرجوا إلى عيدهم ــ كما ذكر أهل السير والتاريخ ــ وطلبوا من إبراهيم أن يخرج معهم، فقال ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، نظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة، أن الأنبياء صادقون في كل ما أخبروا به عن الله عز وجل، وأن من كَذَّبَ نبياً في خبر فهو كافر بالله تبارك وتعالى، فهل كان إبراهيم سقيماً؛ أي: مريضاً؟ وهل يجوز أن ينسب إليه الكذب صلوات الله وسلامه عليه؟

قال رسول الله ﷺ كما في الحديث الصحيح: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: في قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وفي قوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، وفي قوله: عن زوجته عند الملك الظالم: إنها أختي»([9]).

هذه ثلاث كذبات تنسب إلى نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، بل قد جاء في الحديث الصحيح ــ حديث الشفاعة ــ أن الناس يذهبون إلى إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فيقولون له: أنت خليل الله، اشفع لنا عند ربك، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «إني قد كنت كذبت ثلاث كذبات»([10])، فهل يجوز أن يُنْسَب لإبراهيم الكذب أو لا؟

النبي ﷺ الذي هو من أعظم الناس تعظيماً لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قال: «نحن أولى بالشك من إبراهيم»([11])، فنزهه، وكثيراً ما كان يفتخر بنسبته إلى إبراهيم، بل إن الله كثيراً ما كان يقول له: ﴿وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، وإبراهيم نسب هذا إلى نفسه، وقال: «كذبت ثلاث كذبات» وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: «كذب في ذات الله»([12])، فكيف يُحمل هذا الكذب؟

أجاب أهل العلم بعدة أجوبة:

الجواب الأول: أن هذه الكذبات الثلاث إنما كانت قبل النبوة، ونهيه لهم عن عبادة الأصنام، وقوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ إنما كان من باب الفطرة؛ أي: إن فطرة إبراهيم دفعته لهذا، ولذلك لما كان يبعثه أبوه ليبيع الأصنام يقول: «من ذا الذي يشتري ما يضر ولا ينفع»، وكان ينكر على قومه عبادة الأصنام، كلُّ ذلك قبل النبوة، ولذا يأتينا عندما يكسر إبراهيم الأصنام يقول قومه: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾  .

إذاً هو غير معروف، هو فتى؛ أي: صغير، يقال له: إبراهيم، ولو كان قد بعث إليهم ما كانوا يقولون: ﴿فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ .

وكذا الأمر بالنسبة لقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ لأنها في قصة واحدة، وكذا في ذهابه إلى ذلك الملك، قالوا كذلك يكون قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه.

والجواب الثاني: إنما قال هذا من باب التورية، خاصةً عندما قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ إذ لا يلزم أن يكون يريد المرض الذي هو علة في الجسد، وإنما هو سقيم كما قال النبي ﷺ: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله»([13]) أي: العذاب النفسي، يتعذب لأجلهم، لأجل ما يرى ما هم عليه من الضلال، وكذلك يقول: إني سقيم مما أراه منكم من ضلال، سقيم مما أراه منكم من باطل، ومن كفر بالله، وعبادة للأصنام التي لا تضر ولا تنفع، بل تضر ولا تنفع فيكون هذا من باب التورية لا من باب الكذب.

وكذا قوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾   إنما قاله لهم من باب الاستهزاء والتحقير لهم، ولذلك قال بعدها: ﴿فَٱسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾   اسألوهم، مَنْ كسرها؟ اسألوا هذا الكبير هل هو الذي كسرها أو لا؟

وأما قوله لزوجته إنها أخته، فإن هذا على سبيل دفع أعظم المفسدتين، وذلك أنهم ذكروا أن ذلك الملك إذا عرف أن لها زوجاً قتله، وأخذها لنفسه، فلذلك دفع إبراهيم أعظم المفسدتين بأخفهما، فكذب وقال: هي أختي؛ لينجو من القتل، وتنجو هي من الاغتصاب، وهذا عين العقل، وهذا هو الواجب في الشرع أن الإنسان إذا اعترضته مفسدتان ــ ولابد من الوقوع في إحداهما ــ فإنه يقدم أخفَّ المفسدتين.

ولذلك ولو أن مظلوماً خلفه من يريد أن يقتله أو يؤذيه، ثم جاء واختبأ عند شخص، ثم سئل أين فلان؟ فقال له: والله لولا أن الكذب حرام لقلت أنه غير موجود، هو في الداخل، فهو آثم ومجرم بفعله هذا لأنه عرض للقتل بجهله، بل إن الكذب هنا واجب.

فالقصد أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إنما قال هذا من باب دفع أعظم المفسدتين([14]).

ولذلك لما دعا إبراهيم قومه إلى عبادة الله تبارك وتعالى لم يقل له قومه إنك تكذب وما اتهموه بالكذب؛ لأنهم ما فهموا أبداً أن في قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾   وأن في قوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾   أنه كذاب، بل فهموا أنه أراد إلزامهم بالحجة صلوات الله وسلامه عليه.

ثم كذلك ليس فيه أنه خاطبهم بهذا، فقال لهم: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، بل قالها في نفسه: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾   أي: مما أراه من ضلال قومي.

هدم الأصنام من سنن الأنبياء والمرسلين:

خرج قوم إبراهيم عليه السلام إلى عيدهم، وإبراهيم فيه حرقة على ما يفعله قومه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾   أي: مسرعاً متخفياً، فدخل على الآلهة، فوجدها في بهو عظيم، ومكان متسع، وقد وُضع لها الطعام، فدخل عليها، ووجد الطعام كما هو لم يتغير، فقال لهم: ألا تأكلون؟

وهذا يفعله بعض الجهال الآن يذهبون إلى المقابر ويضعون الطعام والشراب عند قبر الميت ليشاركهم في الطعام، هؤلاء يقال لهم كما قال إبراهيم لهذه الأصنام: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ﴾، فجاء إلى هذه الأصنام، فقال: ألا تأكلون؟ كلوا، وُضع الطعام لأجلكم، ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾ [الصَّافات: 91-92] قولوا: لا نريد، قولوا: لا نأكل، قولوا: لا نجوع، قولوا: نحن آلهة، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾ عبّروا عن رأيكم مالكم لا تنطقون؟ ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِٱلْيَمِينِ﴾ ؛ أي: كسّرها صلوات الله وسلامه عليه، فأقبلوا إليه يزفون فواجههم، وقال: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلْأَسْفَلِينَ﴾  .

ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ ٱلْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  . وقولهم: ﴿بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا﴾ هذه يسمونها حيدة؛ أي: حادوا عن الجواب، هو ما قال لهم: هل كان يعبدها آباؤكم أو لا؟ إنما قال لهم: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشُّعَرَاء: 72-73] المفروض أن يكون الجواب بنعم أو لا، لكن قالوا: ﴿بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾  .

وهذا إقرار واعتراف منهم أنها لا تنفع، ولا تضر، ولا تسمع، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ ٱللَّاعِبِينَ﴾   كأنهم في كلامهم محبون للحق وأنهم يتبعونه، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ ٱللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء]، إذاً هدَّدهم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيكيد هذه الأصنام، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ أي: حطمهم ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾  .

وهذا فيه إشارة إلى غيرة الكبير المتعال سبحانه وتعالى الذي لا يرضى أن يَعْبُد أحد غيره سبحانه وتعالى، فإبراهيم كسر جميع الأصنام إلا كبيرهم لعلهم إليه يرجعون، كأن يقول لهم: كما أن هذا الكبير غارَ مِنْ هذه الأصنام أن تعبد، فالله يغار أن يعبد غيره سبحانه وتعالى.

وهنا في قوله ﴿وَتَاللَّهِ﴾ هذه حلف، تقول: والله، بالله، تالله، آلله، هذه كلها أقسام، يقسم صلوات الله وسلامه عليه ﴿لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾  .

وهنا قال بعض أهل العلم: إنما قال هذا إبراهيم في نفسه يعني ما قالها لهم، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته لما قالوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾   هذه لما قالها ما سمعوها، وإنما قالها في نفسه أنتم شرٌّ مكاناً، وكذلك إبراهيم هنا قال: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾   يُحَدِّث نفسه، فإذاً إما أن يكون قالها في نفسه صلوات الله وسلامه عليه، وإما أنه أسمعهم، ولذلك سيأتينا قول الله تبارك وتعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾   أي: هدد بكسر هذه الأصنام.

فلما رجعوا ووجدوا الآلهة مكسرة محطمة جذاذاً كما أراد إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾، ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ أي: يذكرهم بالعيب والنقص، ينتقص هذه الأصنام، هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون، يتنقص هذه الأصنام ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾، وهذا الذي يريده إبراهيم، يريد أن يتكلم على أعين الناس، ولذلك لما جاء موسى لفرعون ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ﴾، يوم العيد، ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى﴾   حتى يرى الناس.

وكذا غلام الأخدود عندما أراد الملك قتله ولم يستطع، قال له غلام الأخدود إذا أردت قتلي فافعل ما آمرك، اجمع الناس ثم افعل كذا وكذا([15])، فهو يريد هذا الأمر صلوات الله وسلامه عليه، وهو أن يُحضروه على أعين الناس حتى يقيم الحجة على الجميع صلوات الله وسلامه عليه.

فلما جمعوا الناس قالوا له أمام الناس: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، وأشار إلى الصنم الكبير ﴿فَٱسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾، وإن كانت لكم عقول تعقلون ما تقولون، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلظَّالِمُونَ﴾، كلامه صحيح، ﴿أَنْتُمُ ٱلظَّالِمُونَ﴾، لماذا تركتم الآلهة بدون حراسة، وتركتم إبراهيم يكسرها، ﴿أَنْتُمُ ٱلظَّالِمُونَ﴾ تستحقون ما أصابكم، وهذا ما أراده إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، بأنهم كما اعترفوا أمامه ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾   أرادهم أن يعترفوا أمام الناس مرة ثانية أن هذه الآلهة لا تنطق، فقامت عليهم الحجة.

ومن هذا أخذ أهل العلم في قول إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشُّعَرَاء: 72-73]، وقوله: ﴿فَٱسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾   أن الله تبارك وتعالى يوصف بالسمع والكلام سبحانه وتعالى؛ لأن إبراهيم عاب على الآلهة أنها لا تسمع، فعيب على إلٰه ألا يسمع، وعاب على الآلهة أنها لا تتكلم، لا ينطقون، فعيب في الإله ألا يتكلم، ويوصف بالكلام من آيات أخرى كذلك، ولكن عيب في الإلٰه ألا يكون فيه هذا أو ذاك، قال إبراهيم: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَٱنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبيَاء: 66-68] آلهة تُصْنَع! آلهة يُقدم لها الطعام! آلهة تُحْرَس! آلهة تُنْصَر! ما فائدة هذه الآلهة؟!

ولكن الإنسان مفطور على أن يَعْبُد، إن لم يعبد الله عَبَدَ غيره رغماً عنه، ولو كان إلهاً يصنعه هو، ولو كان إلهاً يُطعمه يحرسه ينصره، لكن يريد أن يعبد، لا يستطيع ألا يعبد، وأنتم تعلمون الآن أن هناك من يعبد الفأر، وهناك من يعبد النملة، وهناك من يعبد الحجر، والشجر، والشمس، والقمر. والسعيد من وُفق إلى عبادة من يستحق أن يعبد وهو الله سبحانه وتعالى.

ولذلك ذُكِرَ عن بعضهم من كفار قريش أنه رأى إلٰهه من بعيد وإذا عنده ثعلب يبول عليه، يبول على الصنم، فأخذته غيرة على إلٰهه فصار يركض، فلما رآه الثعلب فَرّ، فوصل إلى الإلٰه وإذا البول فوق رأس إلٰهه الصنم، فنظر إليه، ثم فكر قليلاً، وقال: أربٌ يبول الثعلبان برأسه؟! ما هذا الرب؟ ربٌ يبول عليه ثعلب، والثعلب من أحقر الحيوانات عند العرب، قال: أربٌ يبول الثعلبان برأسه؟! فَقُبّح من رب. ثم نظر إلى نفسه، فقال: وقُبِّحَ عابده.

وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم:

وحينما أقرّوا بهذه الهزيمة، وأقام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عليهم الحجة؛ لجؤوا إلى القوة، وذلك أن نبي الله إبراهيم لما قال لهم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَٱسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾، ألزمهم أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يقولوا: صدقت يا إبراهيم، لا ينطقون، ولا يسمعون، ولا يدافعون عن أنفسهم.

الأمر الثاني: أن يقولوا: صدقت يا إبراهيم فعله كبيرهم هذا، وفي كلا الحالتين يخرج منها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وهم أُلزموا واعترفوا بالأولى، فقالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾، ولكنهم لما أعيتهم الحجة؛ استخدموا القوة والبطش، قالوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَٱنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾، وهذه تسمى بشريعة الغاب، شريعة الظفر والناب بالقوة، لا بالحجة، والعقل، والمنطق، ولا إقناع ﴿حَرِّقُوهُ﴾، ومثله ما قاله فرعون لموسى: ﴿لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ﴾، انتهى الإقناع، يناقشون في البداية، فإذا أُلزموا الحجة لجؤوا إلى القوة، وهكذا الأمر مع أبيه لما قال له: (يا أبت.. يا أبت..) فجاء الجواب: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾، اللجوء إلى القوة بعد أن تعييهم الحجة.

إلقاء إبراهيم في النار:

أشعلوا ناراً عظيمة، أرادوا أن يحرقوا إبراهيم عليه السلام فيها، وقد ذكروا أن المرأة كانت إذا مرضت نذرت، إن شُفيتُ لأجمعن حطباً لحرق إبراهيم، فجمعوا حطباً عظيماً لحرق إبراهيم، حتى قالوا: إنهم أشعلوا ناراً عظيمة بحيث إنهم لم يستطيعوا أن يقتربوا منها ليلقوا إبراهيم فيها من شدة حرّها، فوضعوه على آلة المنجنيق ورموه رمياً، ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾، ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ﴾، ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلْأَسْفَلِينَ﴾   ألقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار فقال: «حسبي الله ونعم الوكيل» الله أكبر، المؤمن الصادق التقي النقي المخلص الذي امتلأ قلبه يقيناً وإيماناً بالله تبارك وتعالى، يقول هذه الكلمة في هذا الوقت الحرج «حسبي الله ونعم الوكيل»، يرى الموت بعينيه، سيلقى في هذه النار العظيمة، «حسبي الله ونعم الوكيل».

قال ابن عباسرضي الله عنهما: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما أُلْقي في النار، وقالها محمد وأصحابه لما قيل لهم: ﴿إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ﴾  ([16]).

بعد أن لجأ إبراهيم عليه السلام إلى ربه سبحانه وتعالى جاء الفتح، وجاء النصر من القوي العزيز الذي ﴿أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، فكانت كما قال الله ــ جل وعلا ــ، فسبحان الله، لا إلٰه إلا هو ملاذ المؤمنين، ومنجي الصالحين، النار التي أعطاها الله خاصية الإحراق سلبها منها، عندما أُلقي فيها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أخبرهم «أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتله»([17]).

وقال صلوات الله وسلامه عليه: «اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم»([18])، وهو حيوان الأصل فيه الإفساد([19]).

واشتهر عند الناس أنه لما رُمِيَ إبراهيم في النار، وهو في الهواء جاءه جبريل، وقال: هل من حاجة تدعو الله تبارك وتعالى؟ فقال إبراهيم: «علمه بحالي يغني عن سؤالي» وهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كذب موضوع، لم يثبت، بل إنه لجأ إلى الله وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل».

هجرة إبراهيم عليه السلام:

بعد أن أيقن نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن قومه مصرون على ما هُمْ عليه من العناد والكفر بالله تبارك وتعالى، وعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، حتى بعد أن أظهر الله تبارك وتعالى أمره، وغلبت حجة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه باطلَهم، وبعد أن ظهر ضعفُ آلهتهم، وسَفَهُ عقولهم، بعد هذا كله يئس منهم نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وفكَّر في الهجرة من هذه البلاد إلى بلد آخر يعبد الله تبارك وتعالى فيه.

واختلف أهل العلم في البلد التي هاجر إليها نبي الله إبراهيم عليه السلام على قولين:

القول الأول: إنه هاجر إلى مكة المكرمة شرفها الله.

القول الثاني: إنه هاجر إلى الشام، وهو لا شك دخل الشام، ودخل مكة المكرمة.

والهجرة ذُكرت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول: في قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم أنه قال لقومه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ﴾   فاعتزلهم في العبادة، واعتزلهم كذلك في المكان.

الموضع الثاني: في قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم أنه قال: ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾  .

الموضع الثالث: في قول الله تبارك: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾، وفي قوله: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾  .

نصيحة للدعاة:

بعد كل هذه الدعوة لم يؤمن لإبراهيم عليه السلام إلا لوط، ولذلك يأتينا في قصة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال لامرأته عندما تدخل على الجبار: «قولي له إنك أختي فأنت أختي في الإسلام ولا يوجد على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك»([20])، ونبي الله إبراهيم، خليل الرحمٰن، خير الخلق بعد رسول الله ﷺ بذل ما بذل في سبيل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وناظر قومه عياناً جهاراً وأبطل حجتهم وباطلهم، وأظهر الله الحق على لسانه، وأظهر الله معجزته بأن نجاه من النار التي بذلوا ما بذلوا في سبيل جمع الحطب إليها وإشعالها، ومع هذا لم يؤمن به أحد، فما نقول نحن عندما نقصر في الدعوة إلى الله، ويكون قليل من الإخلاص، مع قليل من العلم، مع قليل من التقوى، وقليل من الجهد، ثم يحزن الواحد منا إذا دعا ولم يستجب له أحد!! ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾   ويقول لنبيه محمد ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾   والواجب علينا أن نفعل ما يأمرنا الله به، علينا أن نؤدي ما علينا، ألا نأتي يوم القيامة وقد قصرنا في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولذلك لما قال أهل السبت بعضُهم لبعض: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾   يقولون للذين أنكروا على أهل السبت فِعْلَهم، ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، فنحن نحتاج إلى أمرين اثنين:

الأمر الأول: نحتاج إلى أن نعتذر بين يدي الله تبارك وتعالى أننا قد بلغنا.

الأمر الثاني: وهو أن يهتدي الناس، وهداية الناس ليست بأيدينا، القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمٰن يقلبها كيف شاء سبحانه وتعالى([21])، بيده الهداية، نحن علينا أن ندعو إلى الله، ولا يضرك ولا يضرنا إن لم يستجب لك أحد.

فهل أنزل الله مِنْ منزلةِ إبراهيم عليه السلام لمَّا لمْ يستجبْ له أحد؟ بل إبراهيم هو إبراهيم، وهو بالمنزلة العظيمة عند الله، وهو الذي رآه النبي ﷺ مسنداً ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة، وهو خليل الرحمٰن، قبل أن يدعو قومه وبعد أن دعا قومه، وبعد أن لم يستجب له أحد، هو خليل الرحمٰن صلوات الله وسلامه عليه، وبعد أن دعا وبذل الوسع والجهد الكثير ولم يستجب له أحد جاءت المسألة الثانية ألا وهي الهجرة من هذه البلاد، وذلك أن المسلم مطالب بالهجرة من الأرض التي لا يستطيع فيها أن يعبد الله ــ جل وعلا ــ.

فهذا نبينا محمد ﷺ خرج من مكة، وهو يقول: «والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت»([22]) خرج ليدعو إلى الله تبارك وتعالى، وخرج أبو بكر يسيحُ في الأرض يعبد الله ــ جل وعلا ــ، فالمسلم أبداً لا يتعلق قلبه بأرض، ولا يتعلق قلبه بأهل، وإنما يتعلق قلبه بالدين، فأي أرض استطاع فيها أن يقيم دين الله تبارك وتعالى، فهي أرضه، وهي بلده، وهؤلاء هم عشيرته.

هاجر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، والهجرة كانت واجبة عليه، وهي واجبة على كل أحد، ولا تنقطع الهجرة ــ كما يقول النبي ﷺ ــ حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها([23]).

ولذلك قال الله تبارك وتعالى يعيب على الذين لم يهاجروا: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَٱلْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾  .

إبراهيم عليه السلام مع النمروذ:

لما هاجر إبراهيم دخل إلى بلاد بابل، وقيل: إن بلاد بابل هي التي كان فيها إبراهيم قبل الهجرة، يعني هذه الحادثة التي سنتكلم عنها الآن هي قصة إبراهيم مع الملك (النمروذ)، هل كانت قبل خروجه من بلاده أو بعد خروجه؟ المهم أن الله ذكر لنا هذا الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ﴾، والسبب الذي من أجله حاج هذا الرجل إبراهيم في ربه هو أن الله آتاه الملك وأنعم عليه، فكان هذا المال نقمة على هذا الرجل، فأحياناً المال يكون نعمة، وأحياناً يكون نقمة، فكان هذا المال وذلك المُلْك نقمة على هذا الرجل بأن صار جباراً متكبراً، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ ٱسْتَغْنَى﴾، وبدل أن يشكر هذه النعمة وأن يستعملها في طاعة الله تبارك وتعالى كان العكس، كما قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾   يعني: تجعلون شكركم تكذيباً.

قال الله ــ جل وعلا ــ ذاكراً هذه القصة القصيرة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ﴾  .

المشهور عند أهل العلم أن هذا الرجل هو مَلِك بابل، ويقال له: النمرود أو النمروذ ــ بالذال المعجمة ــ بن كنعان، وكان من ملوك الدنيا، وذُكِرَ أن الذين ملكوا الدنيا أربعة، ملكان كافران، وملكان مؤمنان، أما المؤمنان: فسليمان صلوات الله وسلامه عليه، وذو القرنين، وأما الكافران: فهذا النمرود، والثاني بختنصّر.

وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه قد جاء إلى هذا الملك يطلب الميرة؛ أي: الطعام، فناظر إبراهيم في ربه تبارك وتعالى، فقال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾   لأن ذلك الرجل كان يدعي أنه رب مع الله، إلٰه ثاني، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، وقد ذكر أهل العلم أن مقولته: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ أراد أنه يأتي برجلين فيحكم عليهما بالموت، ثم قبل التنفيذ يسامح أحدهما، وينفذ في الآخر، فيكون الذي سامحه كأنه مات فأحياه، ويكون الذي حكم عليه بالموت قد أماته، وهذا لا شك أنه تلبيسٌ وتدليسٌ وكذبٌ، الله يحيي من العدم سبحانه وتعالى، وهذا يلبس على الناس، ولمّا قال: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ تركه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إلى دليل أوضح من هذا الدليل، وذلك ليفضحه على الملأ، وليكشف عجزه عن الأول والثاني، كأنه يقول له: إذا كنت تدعي أنك تحيي وتميت، فأنت الذي تُنْشأ الخلق، وتُوجد من العدم، فأنا آتيك بأبسط منها: إئتِ بالشمس من المغرب، فلم يقل النمرود: أنا آتي بالشمس من المشرق، فليأت بها ربك من المغرب؛ وذلك أنه لو قال ذلك لظهر كذبه؛ لأنه لا يمكنه ذلك؛ لأن إبراهيم سيقول له بعدها: فإن كان الأمر كذلك؛ فأتِ بها من المغرب إذا كنت أنت الذي تأتي بها من المشرق، وأيضاً لم يطلب من إبراهيم أن يأتي بالشمس من المغرب؛ لأنه يعلم أنها سنن كونية، وأن هذه السنن لا تتغير لأجل مناظرة أمثال هذا الرجل.

قال ابن كثير رحمه الله: «وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقالٌ من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية. وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني»([24]).

وذكر أهل العلم أنه بعد هذه المناظرة القصيرة، منعَ النمرود إبراهيم من الميرة، يعني: لم يعطه الطعام، عقوبة لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأجل هذه المناظرة، حيث أظهر عجزه أمام الناس كما قال ــ جل وعلا ــ: ﴿فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ﴾   بُهِتَ؛ أي: انقطع ولم يجد جواباً، رجع إلى أهله، فلما كان في الطريق بعد هذه المناظرة، وهذا الخوف من ذلك الرجل الذي كان يمكن أن يبطش به، فمَرَّ على تراب فحمل منه بدل الطعام حتى إذا دخل البيت قالت زوجته: أين الطعام؟ قال: هذا الطعام، ثم ذهب ليرتاح، فدخل البيت، ووضع العِدْلَين الذين ملأهما تراباً ثم دخل ونام صلوات الله وسلامه عليه، فلما استيقظ وإذا زوجته سارة قد أعدت الطعام، استغرب، وقال: من أين لكم الطعام؟ قالت: هذا الذي جئت به، فعرف أن الأمر من عند الله ــ جل وعلا ــ، وأنه رزق ساقه الله سبحانه وتعالى إليه.

قصة إبراهيم مع الملك الظالم:

ووقعت لإبراهيم كذلك حوادث كثيرة، منها أنه ابتلى بملكٍ جبارٍ، قيل: هو النمروذ نفسه الذي ذكرناه، وقيل غيره.

قال رسول الله ﷺ: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، قال: من هذه التي معك؟ فقال: هي أختي.

ثم أتى نبي الله إبراهيم لسارة، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك؛ فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك» يقصد الأرض التي هو فيها، وإلا فنبي الله لوط مؤمن، ولكن ليس معهم في هذه الأرض، «فأرسل إليها وقام إبراهيم يصلي» لا يملك شيئاً، لا يملك أن يقاتل هذا الجبار، ولا يملك أن يمنعه، قام يصلي، لجأ إلى الله تبارك وتعالى، وهكذا المؤمن، إذا ضاقت به الأمور؛ فإنه يلجأ إلى مفرج الشدائد سبحانه.

«ودخلت سارة على ذلك الملك فذهب يتناولها بيده» يعني: أراد أن يمسكها بيده فأُخِذَ، صارت يده كأنها خشبة لا يستطيع أن يحركها، فقال: «ادع الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأُطلق»، ثم تناولها الثانية، «فأُخِذَ أشد من الأولى، فقال: ادع الله لي ولا أضرك، فدعت الله، فأُطلق، ثم نادى بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما جئتموني بشيطان، أخدموها هاجر» أي: أعطاها خادمة «وأخرجوها عني»، فأتت سارة معها الخادمة إلى إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وهو ما زال يصلي، فأومأ بيده، ماذا حدث؟ أشار وهو يصلي، فقالت: «رد الله كيد الكافر» ولم تقل رددته أنا، وإنما «رد الله كيد الكافر في نحره، وأخدم هاجر» قال أبو هريرة ــ راوي الحديث ــ: تلك أمكم يا بني ماء السماء([25]).

ومعنى قول أبي هريرة: «تلك أمكم يا بني ماء السماء»: يقول للعرب: هذه هاجر التي أخدمها هذا الملك لسارة هي أمكم يا بني ماء السماء، وماء السماء هو زمزم الذي أخرجه الله تبارك وتعالى لإسماعيل عليه السلام كما سيأتينا، وسُمي ماء السماء؛ لأنه إنما خرج بأمر الله تبارك وتعالى، فأنتم أبناء المرأة التي بسببها خرج هذا الماء لكم في الأرض التي تعيشون أنتم فيها.

لو قال قائل: لِمَ قال إبراهيم إنها أختي؟ ولِمَ لَمْ يقل زوجتي؟ خاصة وأن الملك إذا أراد أن يغتصب هذه المرأة لا يختلف الأمر عنده أختاً كانت أو زوجة، فإنه سيغتصبها، فهل إذا كانت أختاً سيمتنع، وإذا كانت زوجة سيغتصبها؟

ذكر أهل العلم أن الفرق كما وجدوه أيضاً في كتب أهل الكتاب هو أن ذلك الرجل كان إذا عرف أن لامرأة أعجبته زوجاً قتله واغتصبها، فأخف الضررين أن يغتصبها ولا يقتل إبراهيم عليه السلام. وقيل: يقتله غيْرة؛ لأنه يريدها له. وقيل: كذلك أنه كان من دينه، أنه لا يقرب امرأة حتى يقتل زوجها، فقول إبراهيم إذاً صلوات الله وسلامه عليه: «إنها أختي» حتى يسلم من القتل، لا أن تنجو هي من الاغتصاب أو عدمه؛ لأن هذا لم يكن سيؤثر في ذلك الأمر.

وهذا الكذب جائز؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان ــ مفسدة الكذب ومفسدة القتل ــ فلا شك أن مفسدة الكذب أهون من مفسدة القتل.

غيرة النساء:

كانت سارة عاقراً، فلما أهداها الملك هاجر أهدتها لإبراهيم، ليتسررّها؛ أي: ليجامعها، فقربها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فأنجبت له إسماعيل، فوقعت الغيرة في قلب سارة، عند ذلك خرج إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بهاجر وابنها إسماعيل مهاجراً أيضاً، أخذهما إلى مكة، وهذا يُقَرِّب أن إبراهيم إنما هاجر في بداية الأمر إلى الشام، ثم بعد ذلك هاجر بأَمَتِهِ هاجر وبولده إسماعيل إلى مكة.

ترك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أمته هاجر وولده إسماعيل في مكة، ويذكر لنا الإمام البخاري هذه القصة في صحيحه([26]):

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المِنْطَق([27]) من قِبَلِ أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها عن سارة، لشدة غيرة سارة منها، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت؛ أي: الحرام، عند دوحة([28]) فوق زمزم في أعلى المسجد، ولم تكن زمزم موجودة في ذلك المكان، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء فقط، ثم قفّى منطلقاً، تركهما وانصرف، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً تردد عليه، وهو منطلق عنها وجعل لا يلتفت إليها، عندها أدركت شيئاً معيناً، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، يأمره أن يترك ولده، أول ولد له مع أمه في هذا المكان القفر مع جراب من تمر وسقاء من ماء فيستجيب، ما صار خليلاً للرحمٰن إلا بهذا، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، الله أمرني بهذا، قالت: إذاً لا يضيعنا.

الله أكبر، يقين، صدق عند هذه المرأة عجيب، وتوكل على الله لا تكاد تجده عند الرجال، ومن كان الله معه؛ فلا شك أن الله كافيه سبحانه وتعالى، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ــ جل وعلا ــ، إن التوكل على الله فيه راحة للنفس وطمأنينة قلما يجدها الناس من غير المتوكلين على الله ــ جل وعلا ــ.

وقد أخرج الإمام الطبري رحمه الله وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث عليّ أنها ناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أو قالت أنا أم ولد إبراهيم، فقال لها: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال: وكلكما إلى كافٍ ﴿أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾  .

ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ﴾، ثم انصرف صلوات الله وسلامه عليه.

وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفدَ الماء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوَّى من العطش، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه بهذا الوضع، فوجدت الصفا أقرب جبل من الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، وكان وادياً، فكانت تجري فيه حتى تصعد الوادي([29])، ثم أتت المروة، فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، ترجع بين الصفا والمروة، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: «فذاك سعي الناس بينهما»، قال: فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صهٍ، تريد نفسها مع أنه لا يوجد من تسكته، وإنما تُسكت نفسها، تحدث نفسها([30]).

ثم قالت قد أَسْمَعْتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ــ عند الصبي الصغير ــ، فبحث بعقبه أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه ــ أي: تمنع الماء من أن ينتشر، تعمل له مثل الحوض ــ، وتقول بيدها هكذا، ــ يعني: تَزُّمُه ولذلك سمي زمزم ــ، ثم قال: وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، ــ كلما غرفت بالسقاء كلما فار الماء ــ، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم» أو قال: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً»([31]) قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة([32])، فإن هاهنا بيت الله يُبنى يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيّع أهله سبحانه وتعالى.

قال ابن عباس: وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، وإن هذا الطائر ليدور على ماء، فأرسلوا جريّاً أو جريين([33])، فإذا هم بالماء، فرجعوا وأخبروهم بأن في هذا المكان ماء، فأقبلوا إلى الماء، قال ابن عباس: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن نجلس عندك، ــ وهذه من أخلاق العرب، استأذنوها وهي امرأة ضعيفة معها ولد رضيع، وهم جماعة كثيرة، ومع هذا يستأذنونها ــ.

قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء ــ هي إلى الآن تخشى قلة الماء، وإنه بالكاد يكفيها وولدها ــ. قالوا: نعم.

قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس» يعني: جاءها الذي يؤنسها، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى.

قال ابن عباس: فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم، واستقروا في هذا المكان حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام، وتعلم العربية منهم.

وهذا يعني أن إسماعيل لم يكن يتكلم العربية قبل ذلك، ولذلك قلنا: إن العرب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: عرب عاربة بائدة، وهم قوم صالح، وقوم هود، وقوم شعيب، وجَدِيس، وطسم.

القسم الثاني: عرب عاربة باقية، ومنهم هؤلاء جُرْهُم قحطان.

القسم الثالث:وهناك عرب مستعربة وهم عدنان نسل إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه.

إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ابنه:

وفي هذه الأثناء حين كبر إسماعيل قليلاً، وتمكن حبه من قلب إبراهيم والده صلوات الله وسلامه عليه؛ أراد الله ــ جل وعلا ــ أن يمتحن إبراهيم، وذلك لتقديم محبة ربه وخُلّته التي لا تقبل المشاركة ولا المزاحمة؛ لأن الخلة أعلى أنواع المحبة، ولذلك قال النبي ﷺ: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله»([34]).

إن الله تبارك وتعالى أمره أن يذبحه كما قال الله عن إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، وهذه السن ــ تقريباً ــ هي السن التي يكون فيها الولد أحب شيء إلى والده؛ لأنه بدأ يمشي معه ويذهب ويجيء ويساعده، كما قال أهل العلم: ذهبت مشقته وجاءت منفعته.

ولنا جميعاً أن نحاول تصور هذه القضية بالنسبة لإبراهيم عليه السلام، إبراهيم الوحيد، إبراهيم المنقطع، إبراهيم المهاجر من أهله، إبراهيم الذي جاءه الولد على كبر، بعد هذا كله يأتيه الأمر من ربه أن يذبح هذا الولد.

جاء إبراهيم إلى ولده وقال: ﴿يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، هكذا جاءني الأمر من الله ــ جل وعلا ــ؛ لأن رؤيا الأنبياء حق، والشيطان لا تسلط له على الأنبياء؛ لأن الحلم من الشيطان، والرؤيا من الله، والشيطان قد عصم اللهُ الأنبياءَ منه، فكل ما يراه الأنبياء في منامهم فهو وحيٌ من الله تبارك وتعالى، فأخبر ولده بما رآه فيأتي الجواب من الابن البار التقي الحليم المستسلم لأمر الله تبارك وتعالى الراضي به: ﴿يَاأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾   كما تلطف إبراهيم مع أبيه عندما دعاه إلى الله تبارك وتعالى: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾، ﴿يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ﴾، ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ ٱلرَّحْمَنِ﴾، فجاء كذلك إسماعيل بهذه الكلمة التي ابتدأها إبراهيم لأبيه، فقال له: ﴿يَاأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ﴾   خضعا لأمر الله ــ جل وعلا ــ، وانقادا له، ووطنا نفسيهما على القبول، مع أنه أمر مزعج لا تكاد النفوس أن تصبر عليه أو أن تصبر على أقل منه، ولكن:

وإذا كانت النفوس كباراً            تَعبتْ في مرادها الأجسام

وذلك أن نفس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ونفس إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه كانتا من النفوس الكبار عند الله ــ جل وعلا ــ، ولذلك قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، ويقول الله ــ جل وعلا ــ: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾   عند ذلك جاء الفرج من الله تبارك وتعالى ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا﴾   صدقتها بقلبك، وصدقتها بعملك وهذا وقع لإبراهيم ولولده الذي أراد أن يذبحه، حصل لهما الأجر والثواب والشرف والقرب من الله تبارك وتعالى لاستسلامهما لأمر الله ــ جل وعلا ــ، عندها قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾   لأن الذبح الآن لا فائدة منه، ولا محصلة من ورائه؛ لأن مرادَ الله قد تحقق، وودَّ إبراهيم قد صفا لله ــ جل وعلا ــ، فصار بعد ذلك سفك الدم وإزهاق الروح لا فائدة منه ولا معنى له، وذلك أن الله تبارك وتعالى لا يريد تعذيب عباده، ولكنه يريد أن يبتليهم سبحانه وتعالى، وقد ابتلى إبراهيم وحقق الابتلاء مراد الله ــ جل وعلا ــ وجاء نفعه، وظهر أثره وتحققت النتيجة، إذاً لا داعي للذبح بعد ذلك ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ .

وصارت بعد ذلك سنة للمسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن نذبح في الأضحى في كل سنة كما فدى الله ولد إبراهيم من الذبح.

من الذبيح؟

اختلف الصحابة رضي الله عنهما في تحقيق الذبيح على ثلاثة أقوال، وكذلك أهل العلم اختلفوا على ثلاثة أقوال بناء على اختلاف الصحابة:

القول الأول: إن الذبيح إسحاق.

القول الثاني: إن الذبيح إسماعيل.

القول الثالث: التوقف أسلم، لا نجزم.

ولا شك أنه ليس هناك نص قطعي يحسم هذه المسألة هو إسحاق أو إسماعيل، لا من القرآن ولا من السنة.

والأمر لا يهم كثيراً سواء كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق أو لم يُعرف، المهم العبرة التي تؤخذ من هذه القصة، وهي استسلام إبراهيم لأمر الله وكذا ولده، وكيف أن الله تبارك وتعالى حمى أولياءه سبحانه وتعالى، وأنه لما تحقق مراد الله ــ جل وعلا ــ وصفا حبّ إبراهيم لربه ــ جل وعلا ــ ألغى الله الأمر بالذبح وفداه بذبح عظيم.

أدلة من قال: إن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام:

أولاً: إن الله تبارك وتعالى لما ذكر هذه الآيات عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وقال: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصَّافات: 99-102] إلى نهاية الآيات، ثم قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾   فقالوا: إذاً جاءت البشارة بإسحاق بعد ذكر هذه القصة، ولا يمكن أن يكون السياق القرآني هكذا، يذكر الله قصة ذبح إسحاق أو إرادة إبراهيم لقتل أو ذبح إسحاق ثم بعد نهاية القصة يقول: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾ هذا ينافي جمال السياق القرآني، بل جمال السياق القرآني يقول: إنه بعد أن أراد أن يذبح إسماعيل بشره الله تبارك وتعالى بإسحاق نبياً من الصالحين.

ثانياً: الذبيح اتصف بالصبر ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ﴾، وقد وصف الله إسماعيل بالصبر، فقال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ﴾  .

ثالثاً: وصفه الله بصدق الوعد: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ﴾، وصدق الوعد متحقق عندما قال لأبيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ﴾ .

رابعاً: في قوله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا﴾   يقول أهل العلم: كيف يبشره بإسحاق نبياً ثم يأمره قبل أن يصير نبياً، إذاً لن يتحقق مراد الله ــ جل وعلا ــ، أو يكون الأمر ليس على وجه الجد، وليس الأمر كذلك.

خامساً: لما جاءت البشارة بإسحاق جاء قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، فلو كان إسحاق هو المأمور بقتله فكيف يبشره بأنه يأتي من ذريته يعقوب وهو سيقتل، فلا تكون الاستجابة كما أمر الله تبارك وتعالى، ولا يكون ابتلاء من الله ــ جل وعلا ــ.

سادساً: ذكروا أن من الأدلة قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنهم وجدوا في مكة قرن الكبش معلقاً في الكعبة([35]) ومعلوم أن الذي كان في مكة إنما هو إسماعيل، وهذا دليل على أن الذبيح هو الذي كان عند الكعبة، والذي كان عند الكعبة هو إسماعيل، وليس إسحاق؛ لأن إسحاق كان في الشام صلوات الله وسلامه عليهما.

سابعاً: عند أهل السير أن النبي ﷺ كان يقول: «أنا ابن الذبيحين»([36]) ولكنه لم يثبت، والذبيح الأول هو إسماعيل؛ لأن محمداً ﷺ من نسل إسماعيل، وأما الذبيح الثاني فهو عبد الله والد النبي ﷺ كما هو معلوم من قصة عبد المطلب لما نذر أن يذبح واحداً من أولاده إنْ رزقه الله بعشرة من الولد.

ثامناً: معلوم أن سارة إنما غارت من هاجر لما ولدت، والابتلاء لإبراهيم إنما يكون بالولد الأول لا الثاني، فالولد الأول أحب من الثاني، ولذلك دائماً يشعر الأولاد الصغار بأن الأب يقدم البكر عليهم، وإنما يكون الابتلاء إذا أُمر بذبح إسماعيل وليس له غيره.

تاسعاً: إن الله إذا ذكر إسحاق في القرآن الكريم يصفه بالعلم كما قال ــ جل وعلا ــ عن الملائكة أنهم بشروا إبراهيم، فقالوا: ﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾، وكذلك في الذاريات قال: ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾، فإسحاق يوصف بأنه عليم، وإسماعيل هو الذي وُصف بأنه حليم([37])، وإبراهيم إنما بشروه مع سارة، ولذلك جاء في الآيات: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾، وكان إبراهيم يقول: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبْشِّرُونَ﴾، فالشاهد من هذا أن هذه الآيات تدل على أن الذي يوصف بالعلم هو إسحاق، وأما الذي يوصف بالحلم وهو الذي أُمر إبراهيم بذبحه إنما هو إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه.

وعن محمد بن كعب القرظي أنه ذكر لعمر بن عبد العزيز أيام كان خليفة، إن الذبيح إسماعيل بدليل قوله ــ جل وعلا ــ: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، يعني: استدل على أن الذبيح إسماعيل بأنه لما بُشِّر إبراهيم بإسحاق بُشر أيضاً بيعقوب فكيف يؤمر بذبحه؟ فقال عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، يعني: ما كلفت نفسي أن أنظر هل الذبيح إسحاق أو الذبيح إسماعيل، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، وكان يهودياً وأسلم، وحسن إسلامه، وكان يُرى أنه من علماء اليهود قبل أن يُسلم، فقال له عمر: أَيُّ بني إبراهيم أُمر بذبحه ــ يسأله السؤال بعد أن أثار عنده الموضوع محمد بن كعب القرظي ــ قال: إسماعيل يا أمير المؤمنين([38])، وإن يهوداً لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معاشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم.

وهذا الأصمعي ــ الأديب المعروف ــ يقول: سألت أبا عمرو بن العلاء ــ أحد القراء المشهورين ــ عن الذبيح، من هو؟ فقال لي: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة، ألا يكفيك هذا أن يكون دليلاً على أن الذبيح إنما هو إسماعيل دون إسحاق؟! فسكت الأصمعي.

أدلة من قال: إن الذبيح هو إسحاق عليه السلام:

أولاً: استدلوا بأن هذا هو المشهور عند أهل الكتاب.

واستدلوا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾   وبقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾، وقالوا: إن الذي بُشِّر به هو إسحاق، فيكون الذي بُشر به وفرح به هو الذي أُمر بذبحه حتى يتساوى الفرح من الحزن.

ولكن هذا لا يستقيم ــ حقيقة ــ مع ما ذكرناه من الأدلة التي أرى ــ والله أعلم ــ أنها قوية في بيان أن الذبيح إنما هو إسماعيل دون إسحاق، وأَيُّ الأمرين كان؛ فإن هذا نبي كريم، وذاك نبي كريم وكلاهما نتولاهما ونحبهما ونعتقد نبوتهما صلوات الله وسلامه عليهما، ولكن من باب تحقيق هذه المسألة علمياً.

حياة إسماعيل عليه السلام:

قال ابن عباس: «وشَبَّ الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب» «وأنفسهم» أي: صار من أحسنهم وأفضلهم. «وأعجبهم» أي: الذي وقع من بروز إسماعيل وأخلاقه ودينه وتقواه ومعرفته، فأُعجبوا به صلوات الله وسلامه عليه، ولما أدرك زوجوه امرأة منهم.

لما تزوج إسماعيل منهم جاء أولاد إسماعيل عرباً عاربة، وإسماعيل من العرب المستعربة.

وماتت أم إسماعيل بعد ذلك «فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته» أي: ولده، «فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، وهي لا تعرفه فقالت: خرج يبتغي لنا» أي: طعاماً «ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، وشَكَتْ إليه حالها، قال لها إبراهيم: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، وذهب، فرجع إسماعيل، فكأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، وصفته له، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنَّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء، قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غيّر عَتَبَةَ بابك»، وما تدري أنها جرت الأمر لنفسها «قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك، فطلقها» صلوات الله وسلامه عليه.

مسألة فقهية:

لو جاء أبٌ لولده، وقال: طلق امرأتك، فهل يجب عليه أن يطيع والده أو لا؟

ثبت أن عمر رضي الله عنه أمر ولده عبد الله أن يطلق امرأته، فجاء عبد الله إلى النبي ﷺ، فقال له: «أطع أباك»([39]) يعني طلق امرأتك.

فالآن لو جاء رجل إلى ولده، وقال: طلق امرأتك، هل يطيعه ولده كما أطاع إسماعيل إبراهيم، وعبد الله أطاع والده عمر؟ أم إنه لا يطيعه، هل يبره بهذا أو لا يبره؟

قال بعض أهل العلم: إذا كان والد هذا الرجل كإبراهيم أو عمر فليطلق، وإذا لم يكن الوالد كذلك فلا يطيع والده، فالمسألة إذاً ليست على إطلاقها، كلُّ من جاءه والده قال: طلق امرأتك؛ لأنه سمع منها كلاماً أساءه، أو طلب منها شيئاً فمنعته، أو ما شابه ذلك، فالولد لا يطيع والده في هذا إلا إذا كانت المرأة سيئة، وهنا يبَرُّ والده، وأما إذا كانت المرأة صالحة؛ فإنه لا يظلمها بطاعة والده.

وتزوج منهم أخرى، يقول ابن عباس: «فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده أيضاً، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله ــ جل وعلا ــ، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء»، استجاب الله لإبراهيم، وذلك أن أي إنسان عليه دم فإنه يكون لفقراء مكة، فمن أخطأ في النسك أو ما شابه ذلك من الأشياء التي تُلزم الدم فإنما يذبحه لفقراء مكة، فاللحم لا ينقطع عن أهل مكة إلى اليوم، والماء كذلك، فماء زمزم يذهب إلى كل بلاد الدنيا، قال النبي ﷺ: «ولم يكن لهم يومئذ حب»، مكة أرض جدباء ليست زراعية، يقول: «ولو كان لهم لدعا لهم فيه»، يعني لو قالت: طعامنا اللحم والباقلاء، اللحم والفاصوليا، اللحم والشعير، اللحم والقمح، وما شابه ذلك من الحبوب؛ لدعا لهم أيضاً، لكن لم يكن موجوداً، لذلك لم يدعُ لهم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فيه، قال النبي ﷺ: «فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه» يعني: لو كان في غير مكة والإنسان فقط يأكل لحماً ويشرب ماء يتضرر ويتعب، لكن أهل مكة لو أكلوا لحماً وماء يبارك الله تبارك وتعالى فيه.

قال النبي ﷺ عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لها: «فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا بخير. قال: أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العتبة، أمرني أن أمسكك».

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يبنيان الكعبة:

قال ابن عباس: «ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً([40]) له تحت دوحة([41]) قريبة من زمزم فلما رآه([42]) قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد» ثم قال إبراهيم:«يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة([43]) على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني([44])، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾، قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ .

هل البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام:

هناك قول بأن البيت كان موجوداً زمن آدم صلوات الله وسلامه عليه، وأن سفينة نوح طافت حول البيت، وأن الأنبياء قبل إبراهيم كانوا يحجون إلى هذا البيت، ولكن ليس في هذا كله شيء ثابت في الكتاب أو في السنة، وكلها من روايات بني إسرائيل، والنبي ﷺ قد أمرنا بأمر، فقال: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم»([45])، فنحن لا نُصَدِّق ولا نُكَذِّب، ولكن ظاهر النصوص أن إبراهيم هو أول من بنى هذا البيت، فمن هذه النصوص قول إبراهيم لولده إسماعيل: «إن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً»، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن أبا ذر سأل النبي ﷺ عن أول بيت وضع في الأرض، فقال: «هو مكة، بيت الله الحرام» قال: والثاني؟ قال: «بيت المقدس، المسجد الأقصى» قال: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة»([46])، والمعلوم باتفاق أن الذي بنى المسجد الأقصى هو يعقوب صلوات الله وسلامه عليه، حفيد إبراهيم.

إذاً أول بيت وضع وأول بيت بُني هو المسجد الحرام، والظاهر ــ والله أعلم ــ أن أول من بناه هو إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

وأما استدلال بعضهم بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ﴾، فإنه لا يدل أبداً على أن القواعد كانت موجودة، ولكن وضعها ورفعها صلوات الله وسلامه عليه.

وأما دعاء إبراهيم ﴿إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ﴾، فإن الله يكون قد أمر إبراهيم ببناء البيت من مدة، ولكن لم يأتِ وقت البنيان، ولذلك قال: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ﴾ أي: الذي سأبنيه حتى جاء الوقت الذي كبر فيه إسماعيل، فجاء إليه إبراهيم، وقال: «الآن نبني البيت»، فيكون عند بيتك المحرم الذي أمرتني أن أبنيه لك لا عند بيتك المحرم الموجود، ولذلك لما ترك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هاجر وابنها لم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت.

بناء البيت في عهد النبي ﷺ:

هذا البيت استمر مدة طويلة، ثم بعد ذلك جاءته السيول، ومع طول المدة تهدم منه شيء كثير، وفي زمن النبي رضي الله عنه اجتمع أهل مكة وقالوا: نبنيه من جديد أو نرمم البيت؟ فقال بعضهم: نهدمه ونبنيه من جديد، وقال أكثرهم: بل نرممه، وذلك أنهم خافوا إذا هدموا البيت أن يرسل الله عليهم الطير الأبابيل، كما أرسلها على أبرهة وأتباعه لما أرادوا هدم البيت.

وقال آخرون: لا، أبرهة جاء ليهدمه عدواناً، ونحن نريد أن نبنيه من جديد، إذاً النية اختلفت، شتان بين من أراد أن يهدم البيت احتقاراً له، وبين من أراد أن يهدم البيت ليعيد بناءه بناءً سليماً، فقالوا: والله لا نفعل، يخشون على أنفسهم أن يعذبهم الله تبارك وتعالى، حتى قال قائلهم: أرأيتم لو كان بيتاً لأحدكم أيرضى أن يرممه أو يهدمه ويبنيه من جديد؟ قالوا: بل يهدمه ويبنيه من جديد، قال: بيت الله أولى.

وكان القائل ــ كما ذُكِرَ ــ هو الوليد بن المغيرة والد خالد، فاقتنعوا برأيه، وقالوا: نعم نهدم، ولكن ابدأ أنت، حتى إذا وقع شيء يقع عليك، طالما أنت صاحب الفكرة، قال: نعم، فجاء ومعه الفأس واقترب من البيت وأراد أن يضرب وقال: اللهم لن تُرع، يعني: لا تخف يا رب إنما نريد الحسنى، ولا شك أن في هذه الكلمة سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى؛ وذلك أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا من جهلهم بالله تبارك وتعالى، ولذلك قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ﴾   فكلما ازداد الإنسان علماً بالله ازداد له خشية، وكلما ازداد الإنسان جهلاً بالله ازداد خطؤه وخطله، فهذا الرجل جاهل بالله تبارك وتعالى ولم يقدر الله حق قدره، ولذلك قال ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَا قَدَرُوا ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، ثم ضرب فلم يحصل له شيء، فقال: اهدموا فإني لم أُصَبْ، فقالوا: لا حتى تنام الليلة وتُصبح من الغد، ونراك سليماً صحيحاً بعد ذلك نهدم.

فلما جاء الغد وإذا بالرجل كما هو لم يصب بأذى، فقالوا: إذاً نهدم، فهدموا البيت، والقواعد موجودة التي هي الأسس، فلما أرادوا أن يبنوا من جديد، وإذا الأموال لا تكفي؛ لأنهم قرروا أن يبنوا البيت من مال حلال لا يدخل فيه مهر بغي، ولا مال ربا، ولا مال قمار، ولا مال مسروق، فهم يعرفون المال الحلال من الحرام، فبنوا البيت ولم يُكملوه، فلما لم يكملوه وضعوا ما يسمى بالحِجْر الذي يسميه العامة: «حِجْر إسماعيل»، وهو ليس لإسماعيل، إسماعيل لا يعرف الحجر عليه الصلاة والسلام([47])، فالبيت كان مستطيلاً إلى الحجر، وهم بلغت أموالهم للبناء إلى هذا المكان، فعملوا هذا القوس، الحِجْر ليبينوا أن هذا المكان من البيت ولكننا لم نستطع أن نكمله.

ومن طاف داخل هذا الحجر؛ فإن طوافه لا يصح؛ لأن المطلوب الطواف حول البيت لا داخل البيت، ومن صلى فيه يعتبر صلى داخل البيت، ولما سألت عائشة النبي ﷺ أن تصلي داخل البيت، قال: «صلي في الحجر فإنه من البيت»([48]).

وذهبت الأيام والليالي والسنون حتى فتح الله مكة لنبيه محمد ﷺ، فأراد النبي ﷺ أن يكمل هذه الزيادة، لكن إذا أراد أن يكمل هذه الزيادة سيهدم الجهة التي إلى الشام والعراق، الركن الشامي والركن العراقي الذي فيه الميزاب، لكنه خشي صلوات الله وسلامه عليه أن يتكلم الناس فيه، ماذا يقولون؟ يقولون: هذا محمد الذي يدعي أنه يعظم البيت أول ما فتح مكة هدم البيت!! لذلك آثر أن لا يهدم حتى تثبت قدم الإسلام في قلوب الناس، وحتى تكون عنده النفقة الكافية.

بناء البيت في عهد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:

ذهبت الأيام وجاءت خلافة أبي بكر، فعمر، فعثمان، فعليّ، فالحسن، فمعاوية، فيزيد حتى جاءت خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه سنة أربع وستين (64هــ)، فلما كانت خلافته قال: أريد أن أكمل البيت، وقال: أما وأنا الآن لا أخشى أحداً وعندي المال.

قال عطاء: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرأهم أو يحرّبهم([49])، فلما صدر الناس قال: أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها، فأنا أرى ذلك، أنقضها ثم أبني بناءها مرة ثانية على قواعد إبراهيم، أو أصلح ما وَهِيَ منها، ما رأيكم. قال ابن عباس: فإني قد فُرِقَ لي رأي فيها، قال: قل، قال: أرى أن تصلح ما وَهِيَ منها.

وكان للكعبة بابان: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه، فجعل كفار مكة لها باباً واحداً، وكان الباب ملتصقاً بالأرض، فرفعه كفار مكة عن الأرض، وعبد الله بن الزبير الآن يريد أن يعيدها كما كانت زمن إبراهيم، يجعل لها بابين، وينزلهما إلى الأرض.

قال ابن عباس: أرى أن تصلح ما وَهِيَ منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي ﷺ.

فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف ببيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء([50])، حتى صعد رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة؛ أي: جعل لها أعمدة، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.

ويقال: إن عبد الله بن الزبير أول من جعل الستور على الكعبة.

قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي ﷺ قال: «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه؛ لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه»، إذاً ليس كل الحجر من الكعبة وإنما خمسة أذرع فقط.

قال ابن الزبير: فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر أدخلها في الكعبة، حتى أبدى أُسّاً نظر الناس إليه([51])، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يُدْخَل منه، والآخر يُخْرَج منه.

هدم ما بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:

قُتِلَ عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين من الهجرة (73هــ) على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، ورأى الحجاج ــ لما دخل مكة ــ الكعبةَ متغيرةً مختلفةً تماماً، فأرسل الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك: أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده من طوله فأقِرَّه([52])، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فرده إلى بنائه كما كان، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه.

ثم بعد ذلك وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خبيب([53]) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها([54]). قال الحارث: بلى أنا سمعته منها أيضاً، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها قالت: قال رسول الله ﷺ: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه»، فأراها قريباً من سبعة أذرع.

قال: «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً»، ثم قال لها: «وهل تدرين لِمَ كان قومك رفعوا بابها؟» قالت: لا، قال: «تعززاً ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط».

قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ فنكت ساعة بعصاه، ثم قال: ودَدْتُ أني تركته وما تحمل([55]).

ثم تُرِكَ البيت حتى جاء زمن المهدي الخليفة العباسي، فأرسل إلى الإمام مالك بن أنس، فقال: يا أبا عبد الله نريد أن نستشيرك، قال: ماذا؟ قال: أهدم البيت وأعيده إلى قواعد إبراهيم مرة ثانية؟ فقال الإمام مالك: أرى أن تدعه، قال: لِمَ؟ قال: أخشى أن يتخذه الملوك لعبة، هذا يهدم وهذا يبني، فتذهب هيبة البيت من قلوب الناس. فتُركَ إلى يومنا هذا.

إذاً البيت الآن من حيث البنيان ناقص البنيان، والحجر خمسة أذرع منه من البيت.

وهذه الكعبة المشرفة التي بناها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قد أخبر النبي ﷺ أنه: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»([56])، وذلك بعد وفاة عيسى صلوات الله وسلامه عليه بعد أن ينزل، وقيل قبل ذلك، والعلم عند الله ــ جل وعلا ــ، ولكن المشهور أنه يكون بعد عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى سيحج كما في «صحيح مسلم»([57]) حيث لا يكون بعد ذلك حج حتى تقوم الساعة على شرار الخلق.

كذب المشركين على إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:

ولما فتح الله تبارك وتعالى مكة على نبيه محمد ﷺ، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، دخل صلوات الله وسلامه عليه الكعبة، فرأى فيها العجب، وذلك أنه رأى في الكعبة الصور، فلم يدخل حتى مُحيت، وكان مما رأى من الصور صورة نبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل بأيديهما الأزلام يستقسمان بهما، وهي الأعواد التي كانت يستقسم بها أهل الجاهلية، زعموا كذباً وزوراً أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وولده إسماعيل كانا يستقسمان بالأزلام، فلما رأى ذلك النبي ﷺ قال: «قاتلهم الله، والله إن يستقسما بالأزلام قط»([58])، و(إن) هنا نافية، يعني: لم يستقسما بالأزلام قط، وهي كمثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَاعُوا﴾   إن استطاعوا، يعني: ولن يستطيعوا، وكذلك هنا، «إن يستقسما» أي: لم يستقسما، فهي نافية، لم يستقسم إبراهيم ولا إسماعيل ولا غيرهما من الأنبياء بالأزلام قط، كيف وقد أخبر الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنْصَابُ وَٱلْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ﴾   فكيف يقع الرجس من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! وهم الذين عصمهم الله واختارهم وقال: ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾  .

مقام إبراهيم عليه السلام:

لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه مقام معروف، يقال له: (مقام إبراهيم)؛ أي: ما أقامه إبراهيم من الحج، فمقام إبراهيم عرفة، ومقام إبراهيم مزدلفة، ومقام إبراهيم الجمرات، ومقام إبراهيم الحرم، وذهب الأكثر إلى أن المقصود من مقام إبراهيم هذا الذي يصلي خلفه الناس فيه خطوة يقول الناس إنها خطوة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وهو قريب من الكعبة، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم.

قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذتَ من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت ﴿وَٱتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وقلت: يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال عمر: وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، فأنزل الله: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾  ([59]).

وأخبر قتادة رحمه الله ــ وهو من أئمة التابعين ــ عن المقام، فقال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يُأمروا بمسحه ــ وذلك أن بعض الجهلة كانوا يأتون إلى المقام ويمسحونه ــ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها([60]).

ثم قال أهل العلم ــ كابن كثير([61]) وغيره ــ نقلاً عن بعض السلف، ونُقل حتى عن أنس رضي الله عنه أن آثار قدم إبراهيم كانت واضحة، فكان أثر قدمه واضحاً، وأثر أصابعه واضحاً، وأثر عقبه واضحاً، يقول: فما زال الناس يتمسحون به حتى خفي ذلك الأثر، وكان هذا المقام مُلصقاً بالكعبة، فلما كان زمن عمر أعاد المقام حتى يرتاح المصلون من الطائفين، ويرتاح الطائفون من المصلين، هذه القدم التي نراها كما قلنا، ذكر قتادة أنه اخلولق وانمحى؛ أي: تأثر من كثرة مسح الناس له، ولذلك قال شاعرهم:

وبالحجر المسود إذ يمسحونه               إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة                     على قدميه حافياً غير ناعل

وفيه قراءتان، قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾   وجاءت القراءة الثانية بالفعل الماضي «وَاتَخَذُوا» إذاً هناك أمر «اتَخِذُوا»، وهناك خبر (اتَخَذُوا من مقام إبراهيم مصلى) وكلا القراءتين ثابتة عن النبي ﷺ.

حديث ضيف إبراهيم:

قال الله تبارك وتعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾   ضيوف غرباء دخلوا على إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، رآهم واستغربهم ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾، ولكن لم يمنعه هذا من أن يذهب إلى أهله ويأتيهم بعجل سمين، وقربه إليهم ليأكلوا، فلم يأكلوا، فتعجب منهم صلوات الله وسلامه عليه، فأخبروه بأنهم ملائكة الرحمٰن سبحانه وتعالى، وذلك أن الملائكة خُلقوا من نور، وجعل الله لهم القدرة على التشكل، تتشكل الملائكة على صورة الآدميين، كما تشكل جبريل على صورة رجل جاء يسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان([62]).

وهنا تشكلت الملائكة لإبراهيم، على صورة بشر، وتشكلت الملائكة للوط عليه الصلاة والسلام على صورة بشر، وتشكل ملك الموت لموسى على صورة بشر([63])، وهكذا تتشكل الملائكة كيف شاءت.

قال ابن القيم رحمه الله: في هذه الآية: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ﴾   يقول: في هذه الآية مدح من الله ــ جل وعلا ــ لإبراهيم من أوجه:

أولاً: وصف ضيوفه بأكرم وصف، فقال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ﴾ إذاً ضيوف إبراهيم كانوا مكرمين، إما من قول الله تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾   أي: عن الملائكة، أو وصفهم بمكرمين؛ أي: بما قام به إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من الإكرام لهم.

ثانياً: قوله: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾   ولم يذكر لهم استئذاناً، وإنما قال: ﴿دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ قال ابن القيم: مما يدل على أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مضيافاً، وكان بيته مفتوحاً للضيوف.

ثالثاً: قالوا له: ﴿سَلَامًا﴾ فقال لهم: ﴿﴾ فقولهم: ﴿سَلَامًا﴾ بالنصب جملة فعلية، كما يقول أهل العلم تدل على التجدد والحداثة، أما إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فقال: ﴿﴾، وهذه جملة اسمية والجملة الاسمية تدل على الثبوت، فقوله: ﴿سَلَامٌ﴾ أعبر من قولهم ﴿سَلَامًا﴾ فأكرمهم حتى في رد السلام صلوات الله وسلامه عليه.

رابعاً: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾   والروغان هو: الذهاب بسرعة وخُفية حتى لا يزعج ضيوفه صلوات الله وسلامه عليه.

خامساً: ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة مباشرة، ولم يقل: ثم جاء بعجل سمين، مما يدل على أن الضيافة كانت عنده جاهزة صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لكثرة دخول الضيوف عليه، وإنما هو استغرب أشكالهم صلوات الله وسلامه عليه، حيث إنهم ليسوا من أهل بلده، ولعلهم جاؤوه بصورة جميلة كما هي حال الملائكة إذا تشكلوا إنما يتشكلون بأجمل صورة.

سادساً: جاءهم بعجل سمين، وهذا من كرم الضيافة.

ذُكِرَ أن رجلاً أضاف رجلاً، قال: أدعوك إلى منزلي، قال: بثلاثة شروط، قال: ما هي؟ قال: لا تخون، ولا تجور، ولا تتكلف. قال: قبلت، ولكن اشرحها لي، قال: لا تتكلف ما ليس عندك، قال: لك هذا، قال: ولا تخون فتُخفي عني ما عندك، أكرمني. قال: لك هذا، قال: ولا تجور فتعطيني طعام أولادك، تظلمهم لأجلي، قال: لك هذا.

سابعاً: ﴿فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾، لم يقل إيتونا بعجل، لا بل أكرمهم بنفسه، ثم كذلك جاء بالعجل كاملاً، ما جاء بفخذ، أو رقبة، أو يد، أو رأس، وإنما جاء بالعجل كله، ووضعه أمامهم صلوات الله وسلامه عليه.

ثامناً: قرّبه؛ أي: بنفسه كذلك، وأيضاً قربه ولم يقربهم، لم يقل لهم: تفضلوا، وإنما جاء ووضعه أمامهم لشدة إكرامه لهم حتى لم يكلفهم بالقيام من مكانهم.

تاسعاً: لما وضعه أمامهم، قال: ألا تأكلون؟ وهذا من التلطف مع الضيف، ولم يقل لهم: كلوا يأمرهم أمراً، وإنما قال: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ﴾، يتلطف معهم صلوات الله وسلامه عليه.

عاشراً: ثم إنه خافهم، صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه لم يظهر لهم هذا الخوف من أدبه مع ضيوفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم([64]).

إبراهيم عليه السلام يختتن وهو ابن ثمانين:

قال رسول الله ﷺ: «اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة»([65])، والختان للرجل والمرأة، وهو قطع رأس الفرج بالنسبة للمرأة، وقطع رأس الذكر بالنسبة للرجل، أما المرأة فيؤخذ منه شيء يسير، وأما الرجل فتؤخذ القلفة التي تكون فوق رأس الذكر، وجمهور العلماء على أنه سنة مؤكدة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه واجب، وأما بالنسبة للنساء فهو مكرمة، إن شاءت فعلت، وإن شاءت تركت.

اختتن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وهو ابن ثمانين سنة بالقَدُّوم، والقدوم منطقة في بلاد الشام؛ أي: اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم؛ أي: في منطقة القدوم في الشام، وقُرأتْ بالقَدُوم، بتخفيف الدال، وهو الفأس، أو يشبه الفأس، يعني اختتن بهذه الآلة، وسواء اختتن بالقَدُّوم ــ أي: في بلاد القَدُّوم ــ أو اختتن بالقَدُوم: آلة النجارة المهم أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة صلوات الله وسلامه عليه.

صفة إبراهيم عليه السلام:

قال النبي ﷺ في صفته: «أتاني الليلة آتيان فأتياني على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً وإنه إبراهيم عليه السلام»([66]).

وأخبر النبي ﷺ ــ كما في البخاري ــ أنه أشبه الناس بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أنه وصف موسى، ووصف عيسى، فلما قيل له: صِفْ لنا إبراهيم، قال: «أشبهكم به صاحبكم»([67])، يعني نفسه صلوات الله وسلامه عليه.

إبراهيم عليه السلام وإحياء الموتى:

قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾  .

قوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى﴾ سؤال من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، سأل ربه ــ جل وعلا ــ مسألةً، وهي أن يريه كيف يحيي الموتى، فقال الله له: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾ أني أحيي الموتى؟ ﴿قَالَ بَلَى﴾ وهذا السؤال من الله لا على سبيل الاستفهام؛ لأن الله تبارك وتعالى ما اختار إبراهيم إلا على علم، ومدحه الله مدحاً لا يكاد يوصف في كتابه العزيز، وأمر باتباع ملته في أكثر من آية: ﴿فَٱتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، فالله تبارك وتعالى سأله ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾ ألست آمنت وانتهى الأمر؟ قال: بلى يا رب، ولكن أردت شيئاً آخر، ماذا تريد يا إبراهيم؟

قال: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، قال أهل العلم: أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ﴾، هذا إيمان قلبي، ﴿لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ﴾   أي: في قلوبكم، وتعرفون صفتها وتؤمنون بوجودها، ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ﴾  .

وكما قال موسى صلوات الله وسلامه عليه: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾   أراد أن ينظر إلى الله تبارك وتعالى.

قال النبي ﷺ: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى﴾ »([68])، وهذا دفاعٌ من النبي ﷺ عن أبيه إبراهيم أنه لم يشك، يعني: فطالما نحن لم نشك؛ إذاً هو أيضاً لم يشك صلوات الله وسلامه عليه.

والمسألة واضحة أن سؤال إبراهيم لم يكن عن شك، بدليل أنه سأل عن الكيف، ولم يسأل عن القدرة، لم يقل: رب هل تستطيع أن تحيي الموتى؟ ولكن سأل عن الكيفية، فقال: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى﴾ .

وقارن بين قول إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هذا وبين قول حواريي عيسى عليه السلام لما قالوا له: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ﴾   هذا السؤال للشك، ولذلك كان الرد من عيسى: ﴿قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ﴾ [المَائدة: 112-113]، فدعا عيسى ربه ــ جل وعلا ــ: ﴿ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ﴾   ماذا قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ تهديد، ووعيد من الله تبارك وتعالى ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ ٱلْعَالَمِينَ﴾، إذاً فرْق بين جواب الله للحواريين وبين جواب الله لإبراهيم.

استجاب الله لإبراهيم، وهدد الحواريين، فدَلَّ هذا على أن سؤال الحواريين كان مرفوضاً؛ لأنهم قالوا: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى﴾ .

قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ ٱلطَّيْرِ﴾، ما هذه الطيور؟ أنواع هذه الطيور لا تُعلم، ولا فائدة من معرفتها؛ لأنه لو كان ثَمَّ فائدة من معرفتها لذكره الله لنا سبحانه، المهم العبرة، ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ ٱلطَّيْرِ﴾ يعني: أي طير ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ ؛ أي: اجمعهن ثم قطعهن ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي ٱلْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، يعني قطعها وضع جزءً من هذا الطائر على هذا الجبل، وجزءً منه في ذاك الجبل، وكذلك الطائر الآخر، وهكذا فرّقْ هذه الأجزاء على هذه الجبال، ﴿ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ﴾ ادعُ هذه الطيور ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ يعني: يعيد الله خلق هذه الطيور مرة أخرى سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

صحف إبراهيم عليه السلام:

قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَاءَ ٱلْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ ٱلْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْأُخْرَى﴾   هذا في صحف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، كذلك جاء في صحف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى َلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾   إذاً أخبرنا الله تبارك وتعالى عن بعض ما في صحف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وليس عن كل ما في صحف إبراهيم عليه السلام وأما تفاصيلها فلا علم لنا بها، وعلمها عند الله سبحانه وتعالى.

أولاد إبراهيم عليه السلام:

ذُكر أن له أولاداً كُثر، أكثر من سبعة أولاد، وقيل: ثمانية أولاد، والله أعلم، لكن المشهور إسحاق من سارة وإسماعيل من هاجر.

الدروس والعبر المستفادة من قصة إبراهيم عليه السلام

الفائدة الأولى: أننا مأمورون باتباع إبراهيم أمراً خاصاً ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾   كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ﴾، وذلك مما هو عليه من التوحيد والأصول والعقائد والأخلاق، ولم يستثن الله ــ جل وعلا ــ شيئاً أبداً، لك في إبراهيم أسوة حسنة إلا في شيء واحد فقط: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأََسْتَغْفِرَنَّ﴾   هذه ليس لكم فيها أسوة؛ لأن هذا نُسخ ومُنِع، كان مأذوناً لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن يستغفر لأبيه، ثم منعه الله تبارك وتعالى من ذلك.

الفائدة الثانية: في قصة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من أصول المناظرة، وذلك لما ناظره الرجل الذي يدعي الألوهية.

الفائدة الثالثة: أن من نعمة الله تبارك وتعالى على عبده، أن يلهمه شكر هذه النعم، ولذلك قال إبراهيم: ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، والإنسان إذا أنعم الله عليه يتذكر هذه النعم، ويقتدي بنبي الله إبراهيم، فيحمد الله ــ جل وعلا ــ على ما ينعم عليه به.

الفائدة الرابعة: أن أفضل الوصايا ما وصى بها إبراهيم بنيه: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾  .

الفائدة الخامسة: كرم الضيافة، وهو ما وقع لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كما تقدم في قصة الملائكة.

الفائدة السادسة: مشروعية السلام، فلما دخلت الملائكة على إبراهيم قالوا سلاماً، قال سلام، فالسلام مشروع، بل مستحب أن الإنسان يبدأ أخاه بالسلام.

الفائدة السابعة: بيان إكرام الله لأوليائه، لما وُهِب لإبراهيم وسارة ولداً على الكبر، وهذا من نعمة الله ــ جل وعلا ــ كما وهبهما إسحاق ووهب إبراهيم كذلك إسماعيل من أَمَتِه هاجر.

الفائدة الثامنة: التأمل في الكون يهدي الإنسان إلى ربه ــ جل وعلا ــ، إلى وجود خالق، كما قال الأعرابي: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير، كذلك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لما ناظر قومه، وقد رأى النجم قال: ﴿هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ ٱلْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعَام: 76-78]، فالنظر في الكون يهدي الإنسان إلى ربه ــ جل وعلا ــ.

الفائدة التاسعة: مشروعية الهجرة، فإذا أوذي الإنسان في سبيل الله، ولم يستطع أن يظهر دينه؛ فعليه أن يهاجر أسوةً بنبي الله إبراهيم، بل وبأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.

الفائدة العاشرة: الثقة بنصر الله وإن طال الأمد، لابد أن تثق بنصر الله ــ جل وعلا ــ، وإبراهيم أُلقي في النار، ويقول: «حسبي الله ونعم الوكيل»، وجاء النصر من الله ــ جل وعلا ــ.

الفائدة الحادية عشرة: المسلم إذا أراد أن يناظر لابد أن يكون عنده حجة، ليس لكل أحد أن يناظر بدون حجة وبدون برهان، بل استعد بحجتك وبرهانك بالعلم وناظر من شئت بعد ذلك.

الفائدة الثانية عشرة: من يتق الله يجعل له مخرجاً كما فعل الله تبارك وتعالى بأم إسماعيل وولدها لما تركهما إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في مكة، قالت: إلى من تتركنا، فما رد عليها، ثم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، ثقة بالله ــ جل وعلا ــ، وما ضيعهم سبحانه وتعالى.

الفائدة الثالثة عشرة: رؤيا الأنبياء حق، وذلك لما رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده امتثل واستجاب ولده إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه.

الفائدة الرابعة عشرة: الابتلاء والامتحان والاختبار من الله ــ جل وعلا ــ ليس المقصود منه المشقة والإيذاء، وإنما كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ﴾   إذاً الاختبار ليس للمشقة، وليس للأذى وإنما حتى يعلم الله تبارك وتعالى الصابرين، ويعلم الصادقين سبحانه وتعالى.

الفائدة الخامسة عشرة: الأنبياء أشد الناس بلاءً، وإذا أحب الله امرءً ابتلاه سبحانه وتعالى.

 

([1])       قال ابن القيم رحمه الله: «فهذه أربعة أنواع من الثناء؛ افتتحها بأنه أُمَّة، والأُمَّة هو: القدوة الذي يؤتم به..، والفرق بين الأُمَّة والإمام من وجهين:
أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به سواء كان بقصده وشعوره أو لا؛ ومنه سُمِّي الطريق إماماً..
الثاني: أن الأُمَّة فيه زيادة معنى؛ وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل بحيث بقي فرداً وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه وتفرقها أو عدمها في غيره.
الثناء الثاني: قوله: ﴿.. قَانِتًا لِلَّهِ...﴾ ..، والقنوت يُفَسَّر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة.
الثناء الثالث: قوله: ﴿حَنِيفًا﴾ والحنيف المقبل على الله، ويلزم هذا المعنى ميله عمَّا سواه.
الثناء الرابع: قوله: ﴿ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ...﴾، والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان:
1 ــ الإقرار بالنعمة.
2 ــ وإضافتها إلى المنعِم بها.
3 ــ وصرفها في مرضاته، والعمل فيها بما يجب، فلا يكون العبد شاكراً إلا بهذه الأشياء الثلاثة.والمقصود أنه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم، والعمل بموجبه، وتعليمه ونشره. فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه». انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/523 ــ 524).

([2])      أخرجه البخاري (3350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([3])      أخرجه الإمام مسلم (1634) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([4])      أخرجه البخاري (3352) من حديث ابن عباس ؟ت.

([5])      أخرجه مسلم (2369) من حديث أنس رضي الله عنه.

([6])      أخرجه البخاري (3349)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس ؟ت.

([7])       أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (162)، واللفظ له.

([8])      لزيادة الفائدة يراجع: «تفسير ابن كثير» (3/291).

([9])      أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([10])    تقدم تخريجه ص55.

([11])     أخرجه البخاري (3372)، ومسلم (151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([12])    تقدم تخريجه قريباً، وهو في الصحيحين.

([13])    أخرجه البخاري (1288)، ومسلم (928).

([14])    قال ابن القيم رحمه الله: «إذا تأملت شرائع دينه سبحانه التي وضعها بين عباده؛ وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم
أهمُّها وأجلُّها، وإن فاتت أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناهما». «مفتاح دار السعادة» (2/362).

([15])    أخرجه مسلم (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه.

([16])    أخرجه البخاري (4563).

([17])    أخرجه أحمد في «المسند» (6/83، 109، 200، 217)، وابن ماجه (3231)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1581).

([18])    أخرجه الإمام أحمد في «المسند» من حديث عائشة ؟ب.

([19])    وتسميه العامة «البريعصي».

([20])   أخرجه البخاري (2217)، ومسلم (2371).

([21])    هذا المعنى أخرجه مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو ؟ت.

([22])   أخرجه الترمذي (3925)، وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه، وهو في «صحيح الجامع» (7089).

([23])   أخرجه أبو داود (2479) من حديث معاوية ؟ت وهو في «صحيح الجامع» (7469).

([24])   «تفسير ابن كثير» (1/686).

([25])   أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (2371).

([26])   «صحيح البخاري» (3364).

([27])   المِنْطَق: هو ما يشد به الوسط. «فتح الباري».

([28])   الدوحة: هي الشجرة.

([29])   والرجال اليوم يسعون سعياً شديداً في هذا الوادي اقتداء بسنة نبينا محمد ﷺ.

([30])   يقول أهل اللغة: هناك فرق بين صهٍ ــ بالتنوين ــ وصه ــ بالتسكين ــ: صه: اسكت ولا تتكلم، وصهٍ: اسكت لحظة أريد أنْ أسمع شيئاً.

([31])    ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولو كان أحد مكانها لفعل كما فعلت؛ لأنه يخشى أن يكون هذا الماء قليلاً، ثم إذا تركته ذاب في الأرض ولم تستفد منه.

([32])   أليست قلت إذاً لا يضيعنا، لا تخافوا الضيعة.

([33])   الجري: الرسول.

([34])   أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وهو أيضاً في الصحيح عن جندب وابن عباس وابن مسعود ؟ث.

([35])   أخرجه أبو داود (2030)، وأحمد (4/68)، (5/380).

([36])   هذا الحديث لا أصل له كما قاله الشيخ الألباني رحمه الله، وانظر الكلام عليه في: «السلسلة الضعيفة» (331، 1677).

([37])   قال ابن جماعة رحمه الله: «إنما وصفه هنا بالحلم؛ لأن المراد إسماعيل، فناسب ما ذُكر عنه من الأتقياء إلى رؤيا أبيه مع ما فيه من المرارة والمشقة على النفس، وأما في الذاريات فالمراد إسحاق؛ لأن تبشير إبراهيم بعلمه ونبوته، ففيه دلالة على بقائه إلى كبره، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل والله أعلم». في «كشف المعاني» (ص308).

([38])   مع أن أهل الكتاب مجمعون على أن الذبيح إسحاق، ولو رجعت إلى التوراة لوجدت أن الذبيح إسحاق، وهم متفقون على هذا الأمر.

([39])   أخرجه أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، وابن ماجه في (2088)، وحسنه الشيخ الألباني «السلسلة الصحيحة» (919)، «إرواء الغليل» (7/136).

([40])   أي: يجزها ويجعلها مدببة.

([41])    أي: شجرة.

([42])   أي: لما رأى إسماعيل أباه إبراهيم، وهذه هي الزيارة الثالثة لإبراهيم ﷺ. وقد زار ابنه ثلاث مرات بعد أن أتى بهما إلى مكة ﴿.. أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...﴾ [إبراهيم: 37].
الأولى: لما طلق إسماعيل زوجته الأولى.
الثانية: لما ثبت زوجته الثانية. وهذه هي الزيارة الثالثة.

([43])   يعني: كوم تراب مرتفع.

([44])   يعني: مقام إبراهيم.

([45])   تقدم تخريجه ص41.

([46])   أخرجه البخاري (3366)، ومسلم (520).

([47])   قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله: «ذكر المؤرخون، والإخباريون: أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام مدفون في «الحِجْر» من البيت العتيق، وَقَلَّ أن يخلو من هذا كتاب من كتب التاريخ العامة، وتواريخ مكة ــ زادها الله شرفاً ــ لذا أُضيف الحِجْر إليه، لكن لا يثبت في هذا كبير شيء؛ ولذا فقل: «الحِجْر»، ولا تقل: «حِجْر إسماعيل» والله أعلم». «معجم المناهي اللفظية» (ص226).

([48])   أخرجه أبو داود (2028)، والترمذي (876)، والنسائي (2911، 2912).

([49])   يعني: على أهل الشام.

([50])   أيضاً خافوا أن ينزل أمر من السماء.

([51])    أراهم أساس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

([52])   يعني: أبقه كما كان.

([53])   يعني: عبد الله بن الزبير.

([54])   يعني: قول النبي ﷺ: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية..».

([55])   أخرجه مسلم (1333).

([56])   أخرجه البخاري (1591)، ومسلم (2909) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([57])   «صحيح مسلم» (1252).

([58])   أخرجه البخاري (3352).

([59])   أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399).

([60])   «تفسير الطبري» (2/35).

([61])    «تفسير ابن كثير» (1/417).

([62])   أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأيضاً أخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

([63])   أخرجه البخاري (1339)، ومسلم (2372) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([64])   انظر الأوجه كلها في: «جلاء الأفهام» لابن القيم رحمه الله وقد قال بعدها: «فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف، إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين». (ص175).

([65])   أخرجه البخاري (3356)، ومسلم (2370) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([66])   أخرجه البخاري (3354) من حديث سمرة رضي الله عنه.

([67])   أخرجه البخاري (3394)، ومسلم (168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً مسلم (167) من حديث رضي الله عنه.

([68])   تقدم تخريجه ص124.