قصة صالح عليه السلام
25-02-2023
نبي الله صالح ثاني نبي عربي، وهو أيضاً من نسل سام بن نوح، وجاء ذكر نبي الله صالح في القرآن الكريم تسع مرات، وذُكرت قبيلته (ثمود) أربعاً وعشرين مرة، وقبيلة ثمود، من العرب العاربة البائدة التي لم يبق لها نسل.
وثمود نسبة إلى الثَمْد، وهو الماء القليل، وكانت هذه القبيلة تسكن الحِجْر، وهم أصحاب الحِجْر، وهذا الحِجْر ما بين الحجاز وتبوك، وهو تقريباً يبعد الآن عن المدينة المنورة ثمانين وثلاثمئة كيلو متر، جاؤوا بعد عاد كما قال الله تبارك وتعالى على لسان صالح: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ﴾ .
واختلف أهل العلم في مكانهم فيما يعرف الآن بمدائن صالح:
فالمشهور أن مدائن صالح الموجودة الآن هي مدائن نبي الله صالح صلوات الله وسلامه عليه، وقال علم الدين البرزالي تلميذ الإمام المزي، وقرين شيخ الإسلام ابن تيمية: ومدائن صالح المعروفة قرب العلا على طريق الحاج ليست هي مدائن نبي الله صالح، وإنما هذه تنسب إلى صالح، وهو أحد بني العباس من أولاد العباس بن عبد المطلب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد ذكر البرزالي أنه وجد في هذه البلاد أنصبة ــ يعني أماكن قبور ــ عليها تواريخ جديدة، من ثلاثمئة سنة، يعني: من عهد البرزالي وهو في القرن الثامن الهجري.
وثمود هي التي يقال لها: عاد الثانية، فقوم هود هم عاد الأولى، عاد إرم، وثمود يقال لها: عاد الثانية، كانوا أصحاب ماشية، وأصحاب حرث وزرع، ولكنهم بطروا نعمة الله تبارك وتعالى وكفروها كما قال الله ــ جل وعلا ــ في وصف المشركين: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ أي: تجعلون شكركم تكذيباً فبدل أن يشكر العبد ربه تبارك وتعالى على ما أنعم عليه من النعمة والخير في هذه الحياة الدنيا، فإنه جعل شكره تكذيباً، تكذيباً لمن أرسل إليهم رسولاً منهم، من أنفسهم، رجلاً يعرفونه، يعرفون خُلُقَه ويعرفون دينه ويعرفون أمانته ألا وهو: نبي الله صالح.
صالح عليه السلام يدعو قومه إلى الله عز وجل:
جاءهم نبي الله صالح فدعاهم إلى الله ــ جل وعلا ــ وذكَّرهم بنعم الله العظيمة التي أنعم بها عليهم، وأتاهم بآية عظيمة، ألا وهي: آية الناقة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى، فكانت هذه الناقة تَرِدُ الماء يوماً، ويرد أهل القبيلة الماء يوماً آخر، وفي اليوم الذي لا ترد فيه القبيلة كانوا يردون إلى الناقة فيشربون من لبنها ذلك اليوم فيكفيهم جميعاً، واستمر هذا الحال مدة طويلة إلى أن جاء اليوم الذي سئموا مما هم عليه، فعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم.
أعظم الخصومة:
قال الله تبارك وتعالى في قصة صالح مع قومه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾، إن أعظم خصام يكون في هذه الدنيا هو الخصام بين الكفر والإيمان، لا توجد أبداً خصومة أعظم من هذه الخصومة ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾، فريقٌ آمن بنبي الله صالح واتبعه، وفريق كفر بنبي الله صالح وخالفه، قال الله تبارك وتعالى في ذكر هؤلاء وأولئك: ﴿قَالَ ٱلْمَلَأَُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾، هكذا قال الكبراء المستكبرون للذين استضعفوا للذين آمنوا منهم، فليس كل الذين استضعفوا آمنوا، ولكن مَنْ آمن منهم، قال لهم الكبراء: ﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أتّبعتموه على بينة، أتّبعتموه على يقين؟ أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ ولم يقولوا: «نعم»، ولو قالوا: «نعم» لكانت إجابتهم صحيحة، ولكنهم أرادوا أن يؤكدوا اتباعهم لصالح، فهم ليسوا مصدقين أنه مرسل فقط، بل متبعون له فيما جاء به ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ قالوا: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِٱلَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ .
من أتباع الأنبياء عليهم السلام؟
وهكذا مضت سنة الله تبارك وتعالى، أن الضعفاء هم أتباع الأنبياء، المستضعفون الفقراء المساكين الذين لا حول ولا طول ولا قوة لهم، وذلك أنهم معتادون على تقبل الأمر والنهي، ثم هم مرؤوسون، فإذا كانوا مرؤوسين لظالم من البشر؛ فأولى بهم أن يكونوا مرؤوسين للصالحين من البشر، وهم أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، وعكسهم تماماً الكبراء، الذين ما تعودوا أبداً أن تُصْدَر إليهم الأوامر والنواهي، بل تعودوا أن يُصْدِروا هم الأوامر والنواهي، ما تعودوا أبداً أن يكونوا تابعين، بل تعودوا دائماً أن يكونوا متبوعين، فلذلك تثقل رسالة الأنبياء على الملأ، كبار القوم، ويتقبلها الضعفاء.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ﴾، وهذا سبيل جميع المرسلين، كل المرسلين إنما جاؤوا بهذه الحقيقة ألا وهي: ﴿ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ﴾، وما جاء المرسلون لنيل دنيا، وما جاؤوا لينافسوا الناس في أرزاقهم، وإنما جاؤوا لتحقيق هذه الحقيقة العظيمة ألا وهي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، جاؤوا ليذكروا الناس بهذه الحقيقة، أنكم أيها الخلق إنما خلقكم الله تبارك وتعالى لتعبدوه ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، فصالح إذاً من هؤلاء الأنبياء الذين جاؤوا لتحقيق هذه الكلمة، ووالله ما نافس نوح قومه على رئاسة البلد، ولا على الحكم، ولا نافسهم هود، ولا صالح ولا كما سيأتينا نبي الله إبراهيم نافس النمروذ على الحكم، ولا نافس موسى فرعون على الحكم، ولا يوسف نازعهم على الحكم، ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإنما جاؤوا لتحقيق هذه الحقيقة العظيمة ألا وهي: ﴿أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ﴾ هذه هي الحقيقة التي بها أُرسل جميع الأنبياء، وهكذا أيضاً تكون النتيجة دائماً، هناك من يتبع الأنبياء، وهناك من يتجبّر ويعاند ويجادل الأنبياء على ما جاؤوا به من الحق.
بداية دعوة صالح عليه السلام:
بدأ معهم صالح صلوات الله وسلامه عليه، فقال لقومه: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ لستم أنتم الذين لكم الفضل في مجيئكم إلى هذه الحياة الدنيا، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي أنشأكم فيها، فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ يُعْبَد غيرُه، ماذا فعلتْ لكم هذه الأصنام حتى تُعْبَد، أنتم صنعتموها؟! أنتم أوجدتموها، أنتم أنشأتموها، فكيف تعبدون من أنشأتم، ولا تعبدون من أنشأكم، ﴿وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ واستعمركم هنا تحتمل معنيين:
المعنى الأول: أي: عَمّركم، بلغتم سنين عدداً في هذه الأرض.
المعنى الثاني: أي: جعلكم مُعَمِّرين لهذه الأرض، تبنونها، ولذلك جاء في الآية الآخرى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا﴾، وهذا أظهر؛ أي: جعلكم مُعَمِّرين لهذه الأرض بما تبنون فيها، فكان الرد من قومه: ﴿قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾، قبل أن تقول مقولتك هذه قد كنت فيناً مرجواً، وهذا اعتراف منهم، كأنهم يقولون لصالح: أنت حيث تعلم من قبيلتنا، نعرف ولادتك، ونعرف خُلقك، ونعرف أمانتك، ونعرف صدقك من كذبك، نعرفك تماماً حقَّ المعرفة، بل كنت فينا مرجواً أن تتصدّر فينا، وأن تكون صاحب كلمتنا، وكنا نرجو فيك العقلَ، ولكنك خيَّبْتَ ظننا، تدعونا إلى عبادة الله! نترك ما كان عليه آباؤنا! ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ .
عبرة في قصة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وفي قصة إسلام خالد بن الوليد عبرة، معلوم أن خالد بن الوليد تأخّر إسلامه إلى آخر السنة السادسة من الهجرة، فقال له بعضهم بعد أن أسلم ودخل في دين الله تبارك وتعالى: يا خالد أنت من نعرفك بعقلك وسَمْتِك، ما الذي أخَّرَ إسلامك؟ لماذا تأخّر إسلامك؟ سبقك الناس بعشرين سنة إلى الإسلام، المهاجرون الأوائل: أبو بكر، عمر، عثمان، علي، طلحة، الزبير، عبد الرحمٰن بن عوف، أبو عبيدة، سعيد بن زيد، بلال، صهيب، عبد الله بن مسعود، هؤلاء أسلموا قبل خالد بعشرين سنة، عشرون سنة على الكفر لم تدخل في الإسلام! ما الذي أخّرَ إسلامك يا خالد؟
فقال: قد كان يسوسنا رجال، وكنا نرى أن عقولهم تَزِنُ الجبال([1])، فكنا تبعاً، فلمَّا ماتوا ورجع الناس إلينا؛ فكَّرنا في الأمر، فعرفنا الحق فاتبعناه.
إذاً في السابق ما كان يفكر، ما كان يسمح لنفسه أبداً أن يُفَكِّر؛ اتباعاً للآباء، اتباعاً للأجداد، اتباعاً للكبراء، فلما رجع الأمر إليه، وصار من كبار قريش؛ فكَّر، فلما فكَّر عرف الحق واتبعه.
طبيعة الكافر أنه يلغي عقله:
وهذه هي طبيعة الكفار، يلغون عقولهم، لا يفكرون في الحجج التي يأتي بها رسل الله ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ بحجة تقليدهم للآباء، يقول الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾، طبيعة واحدة، رواية واحدة لا تتغير ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ قصة واحدة متكررة، تزيد هذه بشيء أو تنقص بشيء من مثيلاتها فقط، وهي متكررة على مَرِّ الدهور والعصور.
ثم ذكَّرهم نبي الله صالح فقال: ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا﴾، وذلك أنهم كانوا يبنون القصور الكبيرة في سهول الأرض، وينحتون الجبال، فيجعلون فيها بيوتاً، هذه كانت أعمالهم في هذه الدنيا، ولكنّهم ــ مع هذا ــ كانوا وثنيين يعبدون الأصنام.
أسلوب صالح عليه السلام في دعوة قومه:
أولاً: التذكير بعاقبة المجرمين: كما قال: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ﴾ تذكروا ما صنع الله بعاد، قد علمتم عاقبة عاد وثمود عاد الثانية.
ثانياً: الوعظ والتخويف: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، فذكرهم بنعمة الله عليهم ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وهنا ربط النعمة بالمنعم، من الذي أنشأكم؟ الله، وإنشاؤكم نعمة، نعمة من منعم، ألا يُشْكَر هذا المنعم.
ثالثاً: الرفق واللين واللطف: فقال: ﴿يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ يقدم لهم عرضاً واضحاً، أنا يا قوم رسول من الله تبارك وتعالى مرسل إليكم ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ .
قوم صالح يقابلونه بالاستهزاء والرفض:
وقابلت ثمود صالحاً بأمور:
أولاً: السخرية والاستهزاء والاتهام: ﴿قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾، نحن في شك من كلامك ودعوتك، وفي ريبة من أمرك، قد كنت فينا مرجواً قبل هذا، أما الآن فلست كذلك، بل اتهموه بأنه مسحور فقالوا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ﴾ أُصبت في عقلك كما قالوا لهود، وكما قالوا لنوح، وكما سيقولون للأنبياء من بعدهم ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ أُيوصي كل قوم قوماً، هي كذلك ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾، ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾، شيء متكرر.
ثانياً: رفض الدعوة: رفضوا دعوته لحجج واهية، ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ تقليد أعمى، لا يجوز للإنسان أن يحتج بمثل هذه الحجة الواهية، هل لأن آباءكم كانوا كذلك فأنتم تبقون على ما كانوا؟
ولذلك لما جاء الموتُ أبا طالب وهو على فراش الموت والنبي ﷺ يذكره يقول: «يا عم قل لا إلٰه إلا الله، كلمة أشفع لك بها عند الله»، وفي رواية «أحاج لك بها عند الله»، فكان عنده عبد الله بن أبي سلمة ــ أخو أم المؤمنين أم سلمة ــ، وعنده أبو جهل عمرو بن هشام، فكانا يقولان له: يا أبا طالب أتترك دين الأشياخ؟ أتترك ملة عبد المطلب؟([2]).
يصعب على النفوس، وهذا التقليد الأعمى هو الذي أضرَّ بالكثيرين، ولذلك تأتي الآيات كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ وهكذا تأتي الآيات: أبصر.. تذكر.. فكّر.. اعقل..
ولكنه التقليد الأعمى الذي يعمي الناس عن اتباع الحق.
ثالثاً: المكر والكيد: كما قال الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾، وهذا المكر منهم في قتلهم الناقة ــ كما سيأتي ــ وفي إرادتهم لقتل نبي الله صالح صلوات الله وسلامه عليه.
وكم يخطئ الجبارون والمعاندون وينخدعون بما يملكون من قوة ومكر وخداع، وما علموا أن الله أعظم مكراً ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ﴾ الذي يعلم السر وأخفى، الذي لا تنام عينه سبحانه وتعالى، ولا يغفل ــ جل وعلا ــ، الذي يراهم ولا يرونه، هم يمكرون والله يمكر سبحانه وتعالى([3]) ولا يكون إلا ما يريده الله ــ جل وعلا ــ، عند ذلك قال لهم نبي الله صالح: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ أي: أكون خاسراً إذا أطعتكم.
والقول الثاني: وهو أصح ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ أي: ما تزيدونني بكلامكم هذا إلا يقيناً أنكم خاسرون، فالخسارة عائدة إليهم لا إلى صالح صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أظهر؛ لأن في قوله: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ [هُود: 63] إذا قلنا إن صالحاً يقول: ما تزيدونني أنا إلا خساراً، فكأنا أثبتنا لصالح بعض الخسارة وهم يزيدونه خسارة، ولكن إذا قلنا إن التخسير عائد إليهم فهم في خسار وإلى خسار، فهذا أظهر.
قوم صالح عليه السلام يطلبون آية:
بعد أن دعاهم إلى الله تبارك وتعالى، وملّوا دعوته قالوا: ﴿ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾، فطلبوا من صالح صلوات الله وسلامه عليه أن يأتيهم بآية، فأتاهم بآية، وهي الناقة، وذكر كثير من المفسرين نقلاً عن بني إسرائيل قصة هذه الناقة، فقالوا: جاء قوم صالح إليه، فقالوا له: إذا أردت أن نتبعك؛ أرأيت هذه الصخرة العظيمة؟ قال: نعم، قالوا: أخرج لنا منها ناقة، ونحن نتبعك، ولكن اسمع: نريدها ناقة عُشَراء، يعني الآن ولدت معها فصيلها، فقال لهم صالح عليه السلام: أرأيتم إن فعلتُ أتؤمنون؟ قالوا: نعم، فقام صالح وصلى ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، ودعا الله ــ جل وعلا ــ فانفجرت الصخرة عن ناقة عُشَراء، فآمن بعض قوم صالح، وكفر الأكثرون.
وهذا شبيه تماماً بقصة قريش مع النبي ﷺ لما قالوا له: إن كنت صادقاً؛ فشق لنا القمر نصفين، فقال لهم النبي ﷺ: «أرأيتم إن فعلتُ، وانشق القمر نصفين، أتؤمنون؟» قالوا: نعم، وما لنا ألا نؤمن؟ فدعا الله تبارك وتعالى، فشق الله القمر نصفين([4]) حتى رأوا جبل أبي قبيس بينهما، بين نصفي القمر، فقالوا: جئت بسحر عظيم، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: ﴿ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنْشَقَّ ٱلْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ ([5]) أي: قوي شديد، شق القمر نصفين، وما علموا أنها الرسالة، وأنها الآيات، وليس السحر كما زعموا، وكذبوا لعمر الله تبارك وتعالى.
ولذلك قال الله ــ جل وعلا ــ عنهم: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ هذا هو المشهور في كتب كثير من أهل العلم أن الناقة خرجت من الصخرة، وأما المشهور في كتاب الله وفي سنة النبي ﷺ أنها جاءتهم ناقة، ولم يُذكر أنها خرجت من صخرة، ولم يُذكر أنها كانت عُشَراء، وإنما ذُكر أنها ناقة ﴿لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 155-156].
إذاً هي ناقة، الله أعلم بها، خرجت من صخرة أو لم تخرج من صخرة، وإنما هي ناقة، وكانت آية، وهذه الناقة عظيمة بحيث إن الناس كلهم يشربون في يوم، والناقة تشرب في يوم ﴿لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ﴾ كلٌّ له شِرْب، هذا هو المعلوم عن الناقة في كتاب الله وسنة النبي رضي الله عنه، وأما غير ذلك فكله الله أعلم به.
المعلوم أن هذه الناقة نسبها الله لنفسه، فقال: ﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾، والله قد ينسب الشيء إلى نفسه، مثل: روح الله، ناقة الله، بيت الله.. فكلما نسب الله شيئاً إلى نفسه فهذا لتعظيمه وتشريفه، إما لأن هذه الناقة لا مالك لها من البشر، فتُنسب إلى مالكها الأصلي، وهو الله سبحانه وتعالى، وإما لأنها خرجت من الصخرة كما قيل، ليس لها أب معلوم ولا أم فنسبت إلى الله لأنها لم تتطور بالخلق كما يتطور غيرها، وإنما خُلقت من غير ذكر ولا أنثى، ولذلك يلغزون، فيقولون، ثلاثة لم يكونوا من ذكر ولا أنثى، ما هذه الثلاثة؟ فيقال: ناقة صالح، وعصا موسى، وسفينة نوح، يعني لم يكن لها مثيل من قبل، فالله أعلم بهذا.
الشاهد من هذا: أن هذه الناقة لها شأن عظيم، هذا الذي نريد أن نصل إليه، فقال: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ﴾ لا تأكل من زروعكم التي زرعتموها أنتم، ولكن تأكل من أرض الله، مما أنبته الله سبحانه وتعالى، ثم قال: ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾ لا تمسوا هذه الناقة بسوء، في أكلها، في شربها، في الإضرار بها، بقتلها، بعقرها، بأي سوء، و«سوء» نكرة، فتشمل أي سوء، ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ﴾، إذا مسستم هذه الناقة بسوء، ثم قال: ﴿فَٱذْكُرُوا آلَاءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ .
قال الله تبارك وتعالى عن أولئك القوم: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ ٱلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾، ثم عقروا الناقة كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَعَقَرُوا ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ .
كيف قُتلت هذه الناقة؟
ذكر أهل العلم أنه قتلتها امرأة يقال لها: صدوق بنت المحيّا، وهذه المرأة جاءت لرجل يقال له: مِصْرَع بن مُهِرِّج، فعرضت نفسها عليه، وكانت امرأة جميلة، فقالت: أتزوجك ومهري ناقة صالح.
وذُكرت قصة أخرى، وهي لامرأة اسمها عنيزة، وهي عجوز، ولها أربع بنات، فجاءت لرجل يقال له: قَدَّار بن سالف، فقالت له: أزوجك أيَّ بناتي شئت إن قتلت ناقة صالح، ويقال الاثنان معاً، يعني مِصْرَع بن مُهَرّج وقَدَّار بن سالف، اجتمعا هذان ودعيا قومهما، فاستجاب لهما سبعة آخرون كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ .
فلما صدرت الناقة([6]) ــ بعد أن وردت الماء، وشربت في يومها ــ رماها مِصْرَع بسهم، فوقع السهم في ساقها، فخرجت النساء يُهَيِّجْنَ القبيلة، وكَشَفْنَ عن وجوههّن، وَحَسَرْنَ عن شعورهن، وصِرْنَ يصِحْنَ بالناس: اقتلوا الناقة.. اقتلوا الناقة.. فقام إليها قَدَّار بن سالف هذا، فشدّ عليها بالسيف، فخرّت ساقطة، ثم طعنها في لُبتها، فلما رأى الفصيل قتل أمه فرّ، وصعد على الجبل، ثم رغا ثلاث رغيات، وقيل: إنه قُتِلَ مع أمه، والقرآن والسنة لم يأتي فيهما ذكر لهذا الفصيل، وإنما ذُكرت الناقة وحدها، فالله أعلم.
عاقر الناقة:
عاقر الناقة أخبر عنه النبي ﷺ، فقال: «انتدب لها رجل ذو عِزَّة ومَنَعَة في قومه كأبي زمعة»([7])، ولم يذكر النبي اسمه، ولكن ذكر صفته، قال: «انتدب لها رجل ذو عزة»، يعني: أنه قليل مثله، «ومنعة» يعني صاحب شهامة وقوة، ثم قال: «ومنعة في قومه» أي: له مكانة وقدر في قومه.
وقد جاء من حديث عمار بن ياسر عن النبي ﷺ أنه قال لعلي رضي الله عنه: «ألا أحدثك بأشقى الناس؟» فقال علي: بلى يا رسول الله، قال: «رجلان، أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والثاني الذي يضربك يا علي» أخرجه ابن أبي حاتم، وفيه ضعف([8]).
قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ ٱنْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾، والذي عقرها واحد، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، فنسب العقر إلى الجميع، وقال في الأعراف: ﴿فَعَقَرُوا ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ فنسب العقر إلى الجميع، ولم ينسبه إلى قَدَّار بن سالف أو مِصْرَع بن مُهَرّج، وإنما نسبه إلى جميع ثمود، وذلك لرضا الجميع بقتل الناقة، ولذلك جاء عن قتادة رحمه الله قال: إنّ عاقر الناقة قال: لا أقتلها حتى ترضوا جميعاً، فجعلوا يذهبون ويسألون الناس حتى كانوا يدخلون على المرأة في خدرها، فيقولون: أترضين أن تقتل الناقة؟ فتقول: نعم، حتى سألوا الصِبْية: أترضى أن تُعْقَر الناقة؟ فقالوا: نعم([9])، فلذلك نسب الله تبارك وتعالى عقر الناقة إلى جميع ثمود، وفي قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَعَقَرُوا ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ أشنع الكفر والعناد والجبروت والجهل والعياذ بالله، وذلك أنهم جمعوا في كلامهم هذا كفراً بليغاً من أوجه كثيرة:
أولاً: خالفوا أمر الله وأمر رسوله؛ لأنه قال: ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾، فهم لم يكتفوا بمسها بسوء حتى عقروها.
ثانياً: استهزؤوا برسولهم: وذلك عندما قالوا: ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ فهذا تكذيب له واستهزاء به صلوات الله وسلامه عليه.
ثالثاً: استعجلوا وقوع العذاب: فقالوا: ﴿ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ .
حال الكفار في كل زمان ومكان:
وهــذا حال الكفار في كل زمان ومكان، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَاتُ﴾ أي: هذا حالهم كمثال من كان قبلهم، ويقول الله تبارك وتعالى عن الكفار أنهم قالوا: ﴿ٱللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وهذا جهل عظيم، والمفروض أن يقولوا يا صالح إن كنت من المرسلين؛ فاسأل الله لنا أن يهدينا، أن يرحمنا، أن يتوب علينا، بل قالوا: ﴿ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ .
محاولة قتل نبي الله صالح:
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ وهذه جريمة ثانية أعظم من الجريمة الأولى، فالجريمة الأولى: قتل الناقة، والجريمة الثانية التي لم يتمكنوا منها: قتل صالح صلوات الله وسلامه عليه
قال الله تعالى على لسان أولئك القوم: ﴿تَقَاسَمُوا بِٱللَّهِ﴾ أي: حلف بعضهم لبعض، ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي: ندخل عليهم ليلاً، نقتلهم هو وأهله ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ إذاً كان له أولياء، كانت له قبيلة، وهذا يدل على أنهم كانوا يخافون منهم ويحسبون لهم ألف حساب، ولذلك قصدوه ليلاً ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ وقولهم: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ عجيب، قال بعض أهل العلم: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، أنهم ما شاهدوهم؛ لأنهم جاؤوهم ليلاً، وقتلوهم ليلاً، في ظلمة.
أو يكون من باب الاستهزاء والسخرية ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي: فيما نقول، هذا مكرهم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ هم مكروا والله مكر سبحانه وتعالى، ﴿فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ هذه هي النتيجة: أن الله دمرهم سبحانه وتعالى.
وقالوا: نقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه إلى الجنة، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته، قتلوا الناقة، وقرروا أن يقتلوا نبي الله، الآن التدخل من الله تبارك وتعالى، فمنع الله عنهم المطر تخويفاً وإنذاراً، فقال المستكبرون: إن صالحاً سبب منع المطر، وهو شؤم علينا، هو ومن معه من المؤمنين، ﴿قَالُوا ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾، ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ ٱللَّهِ﴾ الشؤم منكم، ومثل قولهم الذي جاء إلى القرية ودعاهم إلى الله تبارك وتعالى، وجاء معه مرسلون آخرون، فدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، قالوا: ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾، ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ .
والتطير عند العرب هو أن الواحد منهم إذا قصد شيئاً: سفراً، زواجاً، تجارة، أي شيء، يأخذ طيراً، ثم يرسله، فإذا اتجه الطير جهة اليمين قالوا: خيراً فيتجهون إلى مقصدهم، وإذا اتجه الطير جهة اليسار؛ قالوا: شراً فيمتنعون عن هذا العمل، وهذا من أجهل الجهل، فالطير بهيمة لا تفهم، ولا تدري ما يريدون من الأعمال، فهو يطير حيث يشاء يميناً أو شمالاً.
ويذكر عن طاووس بن كيسان ــ إمام من أئمة التابعين ــ أنه سافر مع رجل، وفي الطريق مرَّ غراب، فنعق، فقال الرجل: خير، فالتفت إليه طاووس فقال: أي خير في الأمر، غراب نعق أي خير في هذا وأي شر؟ والله لا أسافر معك أبداً.
قوم صالح عليه السلام ينتظرون العذاب ويستعجلون به:
طلب قوم صالح من صالح أن يستعجل لهم العذاب، فواعدهم صالح ثلاثة أيام، وبعدها يأتيكم العذاب، وعدٌ غير مكذوب، بدأ العذاب يوم الخميس، وذلك أنهم أصبحوا فإذا وجوههم مصفرة، كلٌ يرى الثاني وجهه مصفراً، فلما كان يوم الجمعة فإذا وجوههم محمرة، ولما كان يوم السبت؛ فإذا وجوههم مسودة، فجلسوا في أماكنهم ينتظرون العذاب، لما جاء يوم الأحد بمجرد أن أشرقت الشمس فإذا العذاب قد عمهم جميعاً([10]).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وعدهم صالح صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وحقت الحقائق ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ لا أرواح فيهم، ولا حراك بها»([11]).
وقد ذكر الله عذابهم في أكثر من آية، فقال ــ جل وعلا ــ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ﴾، وقال في سورة هود: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا ٱلصَّيْحَةُ﴾ وقال في سورة الشعراء: ﴿فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ﴾، وقال في سورة النمل: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ وقال في سورة فصلت: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ﴾ وقال في سورة القمر: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ﴾ الزرع اليابس المتفتت.
قال ــ جل وعلا ــ بعد أن أهلكهم وأبادهم: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ أي: صاروا بسبب هلاكهم وخراب ديارهم كأنهم لم يقيموا بها ولم يسكنوها أبداً، وفي هذا تحذير شديد لمن يغتر بهذه الدنيا وزخارفها، والله إنه لمشهد مؤثر ما بين الحياة والموت إلا لمحة واحدة أو غمضة عين ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾، كأن لم يكن ما سبق من حياة ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا﴾، زروع وأنهار وخير، كأن لم يغنوا فيها.
قال الله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ أي: نبي الله صالح، وقال: ﴿يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ ٱلنَّاصِحِينَ﴾ .
وهنا كلمهم بعد هلاكهم، مَرَّ عليهم وهم جثث هامدة، متناثرة، جاثمين، وهذا حق كما خاطب النبي ﷺ أهل قليب بدر جلس عند رأس البئر بعد أن أُلقي كفار مكة «هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً؟» فالتفت إليه عمر، وقال: يا رسول الله! إنهم أموات، قال: «والله يا عمر ما أنت بأسمع لي منهم»([12])، يُسْمِعهم الله، خزيٌ في الحياة الدنيا، وعذاب نفسي قبل العذاب البدني ثم يأتي العذاب الأخروي.
موقفنا من أماكن المعذبين:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ﷺ مرَّ بقرى ثمود، فاستسقى الناس من الآبار، وعجنوا، فأمرهم النبي ﷺ فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين للإبل، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذبوا، وقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم لا تدخلوا عليهم»([13]).
وبعض الجهلة يذهب إلى تلك الأماكن ويصور ويفرح ويضحك، والنبي ﷺ نهى عن ذلك، وقال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين؛ فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم»([14]).
وعن عامر بن سعد قال: لما كان النبي ﷺ في غزوة تبوك سارع الناس إلى أهل الحِجْر يدخلون عليهم، فقال رسول الله ﷺ: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم؟» فقال رجل: نعجب، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك: رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا، وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً»([15]).
الدروس والعبر في قصة صالح عليه السلام
أولاً: دعوة الأنبياء واحدة: ومن كَذَّب واحداً فقد كذب الجميع كما قال الله ــ جل وعلا ــ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ .
ثانياً: العاقبة دائماً تكون لرسل الله عليهم السلام: بعد أن يصل الطغيان إلى منتهاه، فإن الله يمهل ولا يهمل سبحانه وتعالى.
ثالثاً: من أكبر موانع قبول الحق اتباع الآباء.
رابعاً: وإن الآيات مهما كانت واضحة فإن المجرمين قد لا يهتدون بها كما رأوا الناقة ثم لم يؤمنوا بها.
([1]) يعني: أبا جهل، وأبا لهب، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم من صناديد مكة وكبرائها.
([2]) أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (24).
([3]) ومكر الله عز وجل في هذه الحال ليس نقصاً، بل كمالاً في حقه؛ لأنها من باب الرد، لا من باب الابتداء، ومثله ما جاء عن نوح عليه السلام فقال لقومه: ﴿.. إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: 38]، فنوح لم يبتدئ السخرية، وإنما ردها.
ولزيادة الفائدة راجع: «تفسير الطبري» (1/305)، «القواعد المثلى»، وغيرها.
([4]) انظر الروايات الواردة في ذلك في: «الصحيح المسند من دلائل النبوة» للشيخ مقبل الوادعي رحمه الله.
([5]) أخرجه أحمد في «المسند» (12227)، والترمذي في «الجامع» (3208).
([7]) أخرجه البخاري (3377)، ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه.
([8]) وأخرجه أيضاً أحمد (4/263)، والنسائي «السنن الكبرى» (8538)، والحاكم (4679).
([9]) «تفسير الطبري» (12/537).
([10]) «تفسير الطبري» (12/527، 535، 536، 537)، (15/376).
([11]) «تفسير ابن كثير» (3/442).
([12]) أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2873، 2875).
([13]) أخرجه أحمد (5948)، ومسلم (2981).
([14]) أخرجه البخاري (3381)، ومسلم (2980) من حديث ابن عمر ؟ت.
([15]) أخرجه أحمد (4/231)، والطبراني في «المعجم الكبير» (851)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (37012) من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وقال في «مجمع الزوائد» (10325): «فيه عبد الرحمٰن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط»، وضعفه الأرناؤوط.