ذكرنا أول رسول للعالمين وهو نوح عليه السلام، والآن نذكر أول رسول عربي، والرسل من العرب أربعة كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي ﷺ عن الأنبياء والمرسلين، وذكر حديثاً طويلاً، وفيه أن النبي ﷺ قال له: «أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر»([1]).

نسبه وقبيلته عليه السلام:

يرجع نسب هود عليه السلام ــ كما اتفق أهل الأنساب ــ إلى سام بن نوح، وإن اختلفوا في عدد الآباء أو أسمائهم الذين هم بين هود وسام بن نوح.

ذُكر نبي الله هود في القرآن سبع مرات، وذُكرت قبيلته وهي عاد سبعاً وعشرين مرة، وهو من هذه القبيلة التي كانت تسكن الأحقاف، فهو أخو عاد الذي أنذرهم بالأحقاف، والأحقاف جبال من الرمل في اليمن يقال: إنها بين عمان وحضرموت في بلد هناك يقال لها: الشِّحر، وهي الآن في اليمن وهي بلد زراعية.

وعاد قوم هود من العرب، والعرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام كما قيل: عرب عاربة بائدة، وعرب عاربة باقية، وعرب مستعربة.

وهود من عاد، وعاد من العرب العاربة البائدة، ومثلهم قوم صالح، وهم ثمود، وطسم وجُدَيس، هؤلاء كلهم من العرب العاربة البائدة التي لم يبقَ منها أحد، وكانوا يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخمة، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ﴾   وعاد إرم هم: عاد الأولى قوم هود، وعاد الثانية قيل: هم ثمود قوم صالح عليه السلام، وقيل: هم من سبأ من قحطان، فالعلم عند الله تبارك وتعالى.

قوم هود أول من عبد الأصنام بعد نوح عليهما السلام:

وهم أول من عبد الأصنام مِنْ ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، بعد ما جاء الطوفان وعَمَّ الأرض كما قال نوح عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، فقد عَمَّ الطوفان الأرض كلَّها، ولم يبق إلا ذرية نوح كما ذكرنا في قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ﴾، وهكذا تناسلت هذه الذرية حتى وصلت إلى قوم عاد.

وهم من نسل سام بن نوح، فأول من عبد الأصنام من ذرية نوح قبيلة عاد، وكانت أصنامهم ثلاثة: صَدَى، وصمود، وهَرَى أو هَبَاء.

هل بين نوح وهود أنبياء؟

قوم هود عليه السلام ذكروا بعد نوح مباشرة، كما في قول الله تبارك وتعالى عن هود أنه قال لقومه: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾، ولذلك المشهور أنه ليس بين نوح وهود نبي، وقيل: بينهم أنبياء، ولكن الشاهد من هذا أن عاداً علموا بما حدث لقوم نوح، ولذلك ذكَّرهم نبي الله هود بنعمة الله عليهم إذ جعلهم من بعد قوم نوح صلوات الله وسلامه عليه، وعندما نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى يذكر قصة هود مع قومه بعد قصة نوح كما في سورة الشعراء([2])، وسورة المؤمنون([3])، وسورة الأعراف([4])، مما يدل على أنه ليس بين قوم عاد وقوم نوح نبي.

الصفات الخَلْقية لقوم هود عليه السلام:

أعطاهم الله تبارك وتعالى بسطة في الخلق كما قال لهم هود: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً﴾، فكانت أجسامهم عظيمة، وهناك روايات فيها مبالغات كثيرة جداً عن أجسامهم، منها أن أحدهم كان إذا وضع رجله على الأرض خرقها، وغير ذلك من الروايات الممجوجة التي لا يمكن أن تقبل، ولكن لا شك أن أجسامهم كانت عظيمة ويكفينا قول النبي ﷺ: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن»([5])، فآدم هو أعظم مخلوق خلقه الله تبارك وتعالى من الإنس، ثم الخلق بعد ذلك يَقْصُر إلى يومنا هذا، وهم لهم خِلْقَةٌ عظيمةٌ كما بين الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً﴾، وقال الله عنهم: ﴿ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلَادِ﴾، وقال: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُوا فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾  .

إرسال هود عليه السلام إلى قومه وموقفهم من ذلك:

أرسل الله تبارك وتعالى نبيه هود صلوات الله وسلامه عليه، وهو كسائر الأنبياء دعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، فكان موقفهم كموقف قوم نوح من نوح، وسيكون موقف الأقوام من بعدهم كموقفهم من أنبيائهم، فكان موقف قوم هود من هود عليه السلام أن وجهوا الاتهامات إليه، وهي:

أولاً: أنهم اتهموه بالسفه، فقالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾  .

ثانياً: اتهموه بالكذب، فقالوا: ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ﴾، وقالوا كذلك: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ ٱفْتَرَى عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا﴾  .

ثالثاً: اتهموه بالجنون صلوات الله وسلامه عليه، فقالوا: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾   أي: في عقلك.

وهذه الاتهامات التي اتهموا بها هوداً([6]) صلوات الله وسلامه عليه هي الاتهامات نفسها التي اتهم بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾   أي: أتواصت هذه الأمم على هذه الاتهامات التي توجه إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾، فليس بجديد إذاً على هود أن يتهم بهذا، فقد اتهم بهذا نوح من قبله صلوات الله وسلامه عليه، وليس بجديد على من يأتي بعد هود على أن يُتهم بهذه الاتهامات، وفي قولهم: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾   يريدون بهذا الكلام: بث الرعب في قلب هود صلوات الله وسلامه عليه من آلهتهم كما قال ــ جل وعلا ــ: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾   أي: يخوفكم أولياءَه ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾  .

ولقد خُوِّف إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فكان رده عليهم: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ علَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾   هذا التخويف الذي خوفوا به هوداً صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾، وكان الرد من هود عجيباً، وذلك أنه قال لهم: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هُود: 54-56] فقوله: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ موقف مِلْؤه التحدي، مِلْؤه الإيمان، مِلْؤه الثقة التامة والتوكل العظيم على الله تبارك وتعالى، هم يقولون: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾   فيرد عليهم ويقول: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ﴾، ثم أشهدكم أنتم، ﴿وَٱشْهَدُوا﴾ أني بريء من هذه الآلهة، فلتفعل ما شاءت، ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾   أنتم وآلهتكم ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ وسبب هذا التحدي: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ﴾ الذي هو أعظم من آلهتكم جميعاً، بل هو: ﴿رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾، هو خالقكم ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ كل ما يدب على وجه هذه الأرض، على وجه البسيطة ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ الناصية مُقَدَّم الشعر، والأخذ بالناصية يعني: يقودها قوداً رغماً عنها، ولكن بدون ظلم بدون حيف ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لا يظلم سبحانه وتعالى.

هذا الموقف من هود عليه الصلاة والسلام ليس بجديد على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد مَرَّ بنا موقف نوح عليه السلام إذ قال لقومه: ﴿فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾، وهذا هود يعيد الكرة، فيكرر ما فعله أخوه في الدين، بل أبوه نوح عليه السلام.

وانظر إلى النبي محمد ﷺ حين فَرَّ الناس عنه في غزوة حنين، والمشركون مقبلون عليه، فيقبل وحده على المشركين ويصيح بهم قائلاً: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»([7]) صلوات الله وسلامه عليه، ثقةٌ تامةٌ، ويقينٌ جازمٌ، وتوكلٌ عظيمٌ على الله تبارك وتعالى لا يكون إلا من أمثال هؤلاء الرجال، ولذلك اختارهم الله على علم ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾  .

ثم قال لهم هود صلوات الله وسلامه عليه: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾   يعني: إن توليتم ﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾   أدَّيت الذي عليّ ﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، فهو أدّى ما عليه مِنَ البلاغ من أمر الله له أن يدعوهم، ثم قال: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾   فالأمر على الله يسير ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾، فالله لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([8])، ﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، وهذا مصداقه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لمَّا قال له النبي ﷺ: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»([9]).

أليس هذا هو واقع قوم نوح مع نوح عليه السلام؟

أليس هذا هو واقع قوم هود مع هود عليه السلام؟

أليس هذا واقع قوم إبراهيم مع إبراهيم عليه السلام؟

أليس هذا واقع قوم محمد مع محمد ﷺ؟

ولكنَّ الناس متفاوتون في الإيمان، في اليقين، في التوكل، في الثقة بالله تبارك وتعالى، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾   وهود كذلك: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾، كما قال نبينا ﷺ: «لو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء»، الأمة اجتمعت على ضرّ نوح فلم يضروه، اجتمعوا على ضرّ هود فلم يضروه، إذاً أنت لو اجتمعوا على أن يضروك فلن يضروك، ليس لأنك مثل نوح أو مثل هود، بل لأن الله أخبر بهذا، طالما أن الله لم يكتب هذا الشيء فلن تُصاب إلا بما كُتِبَ فقط ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا﴾  .

رابعاً: تمَسَّكوا بما كان عليه الآباء والأجداد: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾  .

خامساً: أنكروا البعث فقالوا: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾   هكذا قالوا، أنكروا البعث، وهذا كقول من يقول: إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، قيامة! حساب! جنة! نار! لا، حياة ثم موت، وينتهي الأمر كله.

سادساً: العناد، استخدموا العناد مع هود عليه الصلاة والسلام، قالوا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ ٱلْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ ٱلْأَوَّلِينَ﴾ [الشُّعَرَاء: 136-137]، وفي هذه الآية قراءتان سبعيتان صحيحتان:

الأولى: ﴿خُلُقُ ٱلْأَوَّلِينَ﴾، وهي قراءة عامّة القراء.

الثانية: «خَلْقُ الأولين» بفتح الخاء، وسكون اللام، وهي قراءة أبي جعفر، وأبي عمرو بن العلاء.

وكل قراءة لها معنى، فعلى القراءة الأولى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ ٱلْأَوَّلِينَ﴾ أي: هذه عادة الأولين يموتون وينتهي الأمر.

وأما على القراءة الثانية: «إن هذا إلا خَلْق الأولين» فيحتمل أمرين اثنين:

الأول: يقصدون أنّ خلقهم كخلق الأولين، نموت كما ماتوا، نحيا كما حيوا، لا نُبعث كما لم يبعثوا إلى الآن أين الأولون؟ أَبُعِثُوا؟ لم يُبعثوا، إذاً نحن نموت، ولن نبعث كذلك، ماتوا ونموت، عاشوا ونعيش، لم يُبعثوا، لن نبعث، نحن كالأولين.

الثاني: أي: من الاختلاق، وهذا الكلام الذي تقُولُه يا هود هو اختلاق الأولين؛ أي: كذب الأولين؛ أي: إنك تكذب يا هود فيما تقول إن هناك يوماً آخر.

سابعاً: واجهوه بالكذب والبهتان فقالوا: ﴿يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾   ما جئتنا ببينة، أنكروا أن يكون أتاهم ببينة، وهذا كذب منهم وافتراء، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿تِلْكَ ٱلْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ﴾، والله أصدق قيلا سبحانه وتعالى، الله أخبرنا أن الرسل جاؤوا بالبينات، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ﴾  .

وقال رسول الله ﷺ: «ما من الأنبياء من نبي إلا أُعطي من الآيات ما على مثله آمن البشر»([10]) يعني: الآيات والبينات.

فائدة: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، وهذه الآيات لم تُذكر لنا؛ لأن القرآن ليس كتاب تاريخ حتى يذكر لنا كل شيء بالتفصيل، ولكنه كتاب هداية، وكتاب دعوة، وهو منهج يذكر الله لنا ما ننتفع به في حياتنا الدنيا، وفي أخرانا عند الله تبارك وتعالى.

الأساليب الدعوية التي استخدمها هود عليه السلام مع قومه:

أولاً: أسلوب الرفق واللين: فنجد أن قومه اتهموه بالسَّفَهِ فقالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾، فماذا كان رده عليهم؟

قال: ﴿يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، فاستخدم معهم اللين. وقوله: ﴿يَاقَوْمِ﴾ فيها تلطف وتَوَدّد.

ثانياً: أسلوب النصح والتوجيه: فقال لهم: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾  .

ثالثاً: التذكير بنعمة الله عليهم: فقال لهم عليه السلام: ﴿وَٱذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً﴾   وقال كذلك: ﴿وَٱتَّقُوا ٱلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾   فذكرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم.

رابعاً: الترغيب بالخير عن طريق الاستغفار والتوبة: فقال: ﴿وَيَاقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾  .

خامساً: أسلوب الترهيب: فقال لهم لما آذوه، وبلغ الأذى مداه: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾   أنتم سميتموها، آباؤكم سموها آلهة لكن في حقيقة الأمر ليست آلهة، أنتم قلتم: إنّ (صَدَى) إله، (صَمُود) إله، (هَبَاء) إله، فهل هي آلهة حقيقة؟ ليست آلهة، ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم، لا تنفع نفسها، لا تدفع الضرَّ عن نفسها فضلاً عن أن تنفع أو تضر غيرها.

سادساً: أسلوب التحدي: فقال: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ [هُود: 54-55].

إذاً قصة هود صلوات الله وسلامه عليه مع قومه هي كقصص من سبقه والذين يأتون بعده، وهي قصة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والدعوة إلى توحيده ــ جل وعلا ــ، ينادي بها عبْدٌ من عباد الله تبارك وتعالى في ظلمات كثيفة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾   وهذه هي أُخُوَّة الطين، وأما قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾   فهي أُخُوَّة الدين، وهذه الأُخُوَّة التي يذكرها الله تبارك وتعالى عن نوح مع قومه، وعن هود مع قومه، وعن صالح مع قومه، وهكذا سائر الأنبياء، فهي أُخُوَّة الطين؛ أي: النسب، أما أُخُوَّة الدين فهي لا تكون إلا بين المؤمنين، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا له: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾   ثم قال لهم هود: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾   أي: تبنون في كل مكانٍ مرتفعٍ بناءً عظيماً كالقصور ونحوها عبثاً، يبنون القصور ولا يسكنونها، يبنون القصور العظيمة ويسكنون في الخيام، ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ﴾   أي: مكان ﴿آيَةً﴾ من الجمال، أيةً من القوة؛ أيةً من المتانة، لكن عبثاً، تعبثون ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾  .

قوم هود عليه السلام يستعجلون العذاب:

عند ذلك كان رد قومه عليه بعد هذه المدة، وبعد هذه الدعوة ــ التي لم يذكر الله لنا مدتها ــ بلغ عنادهم أقصاه، فقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾، ولما وصل هود إلى هذه المرحلة مع قومه ﴿قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾، فكانت الإجابة من الله الذي لا يضيع عبده سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾   قليل فقط، وكل آتٍ فهو قريب، انقطع عنهم المطر مدة طويلة، فقيل: إنه انقطع ثلاث سنوات لم تأتهم قطرة ماء، ثم رأوا عارضاً مستقبل أوديتهم، سحاباً، قالوا: ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾   قال الله تبارك وتعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾  .

وذكر الله تبارك وتعالى عذابهم في أكثر من موضع فقال ــ جل وعلا ــ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾  .

وذكر في آية أخرى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾  . وقال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾  .

وفي قوله تعالى: ﴿فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾، شبههم بأعجاز النخل التي لا رؤوس لها، فنحن نرى بعض النخل الذي يُقْطع ويبقى بدون رأس، عمود فقط، هكذا صاروا والعياذ بالله، رُفعوا إلى السماء بهذه الريح القوية، ثم ضُربوا بالأرض، فصاروا أجساداً بلا رؤوس.

وقد ذكر ابن إسحاق قصةَ عذابهم نقلاً عن رواية بني إسرائيل، يقول ابن إسحاق: فلما أبَوا إلا الكفر بالله عز وجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جَهَدهم ذلك، وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان طلبوا من الله الفرج، يلجؤون إلى الله، وإنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته، هم في اليمن، ومن عادتهم أنه إذا انقطع عنهم المطر أو أرادوا شيئاً من الله تبارك وتعالى، يذهبون إلى مكة، يطلبون الله هناك.

قال: وبه [أي: الحرم] قوم يقال لهم: العماليق، وهم من سلالة سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك: معاوية بن بكر، وكانت أم معاوية هذا من قوم عاد، واسمها: جلهذة بنت الخيبرى، فبعثت عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً ليستقوا لهم عند الحرم فذهبوا، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة [يعني: قريباً من مكة] فنزلوا عند معاوية، فأقاموا عنده شهراً كاملاً، يشربون الخمر ويسمعون الغناء، فلما طال مقامهم عنده تضايق معاوية؛ لأنه يعرف أنهم خرجوا للاستسقاء، ولا يستطيع أن يكلمهم خشية أن يغضبوا عليه، فأرسل جاريتين تغنيان بهذه الأبيات، عند هؤلاء القوم:

ألا يا قيل ويحك قم فهيّم            لعل اللَّه يمنحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً                      قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو                   به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير              لقد أمست نساؤهم أياما

وإن الوحش يأتيهم جهاراً                      ولا يخشى لعاديّ سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم                     نهاركم وليلكم تماما

فَقُبِّح وفدكم من وفد قوم                     ولا لُقّوا التحية والسلاما

فتنبهوا هنا، أنهم قُصِدُوا بهذا الكلام، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قِيل بن عنز، فأنشأ الله ثلاث سحابات: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم نادى منادٍ من السماء: اختر لنفسك ولقومك، أيها تريد لقومك، قال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماءً، فناداه الصوت الذي في السماء:

اخترتَ رماداً وردداً.. لا تبقي من عاد أحداً.. لا والداً تترك ولا ولداً.. إلا جعلته همداً.. إلا بني اللوذية([11]) الهمدا.

فساق الله السحابة السوداء التي اختارها قِيلُ بْنُ عنز لقومه، فلما جاءت رأوها من بعيد، فاستبشروا، وقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾، قال الله تبارك وتعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾   أي: كل شيء أُمرت بتدميره، فكان أول من أبصر هذه السحابة امرأة منهم، فصُعقت، فقيل لها ماذا رأيت قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها.

سخّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً دائمةً متتابعةً، فلم تدع من عاد أحداً أبداً ﴿تَنْزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾، فلم يبقَ من عاد أحد إلا هود ومن آمن معه؛ لأنه اعتزل في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود، وأهلكت قوم عاد، ولذلك يقال لهم: عرب بائدة؛ أي: هلكوا جميعاً.

وافد عاد:

وفي الحديث الصحيح عن الحارث بن حسان البكري قال: خرجتُ أشكو العلاء بن الحضرمي([12]) إلى رسول الله ﷺ، فرأيت بالرَّبَذَةِ([13]) امرأة عجوز من بني تميم، فقالت له: إلى أين؟ قال: أنا ذاهب إلى المدينة، قالت: خذني معك أخشى أن أسافر وحدي، فأخذها معه، فدخل على النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ: «هل كان بينكم وبين تميم شيء؟» [يعني قتال بين بكر وتميم] قال: فقلت: نعم، وكانت لنا الدَبَرة([14])، ومررتُ بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وهي معي فأذن لها، فدخلت العجوز، فقال البكري للنبي ﷺ: يا رسول الله، أرأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً، فاجعل الدهناء، فإنها كانت لنا، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، فإلى أين تضطر مُضَرَك؟ [والرسول من مُضَر وتميم من مُضَر، وهذا البكري من ربيعة]، قال: فالتفتُّ إليها، فقلتُ: والله ما مثلي ومثل هذه العجوز إلا كما قال الأول: مِعزى حملتْ حتفها، حملتُ هذه المرأة، ولا أشعر أنها كانت لي خصماً، أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد، فقال له النبي ﷺ: «وما وافد عاد؟»، وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه، فقال الرجل: يا رسول الله إن عاداً قحطوا، فبعثوا وفداً لهم يقال له: قِيل، فمرّ بمعاوية بن بكر، وذكر القصة التي ذكرناها قريباً([15]).

إذاً أرسل الله عليهم هذه الريح العظيمة، وهي ريح عقيم لا خير فيها، لا تحمل المطر، ولا تُلقح الشجر، ولكنها تحمل الموت والدمار ــ والعياذ بالله ــ كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ريح تدمر كل شيء، ووصفها بأنها الريح العقيم أي: التي لا نفع فيها كالمرأة العقيم التي لا ولد فيها، كذلك هذه ريح عقيم، لا خير فيها، ولكن كلها ــ والعياذ بالله ــ شر وأذى.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، فما نجا من عذاب الله إلا هود ومن آمن معه من قومه.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به».

وإذا تخيلت السماء، [يعني: تغير لون السماء]، خرج ودخل، وأقبل وأدبر، [يعني: من الخوف صلوات الله وسلامه عليه]، فإذا مطرت سُرّي عنه، فعرفْت ذلك في وجهه، قالت عائشة فسَألْتُه: لماذا تفعل هذا؟ فقال: «لعله كما قال قوم عاد: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾  »([16]).

فأهلك الله عاداً، دمرها عن بكرة أبيها، إلا ما وقع من النجاة لهود ومن آمن معه، وهذا مرثد بن سعد بن عفير من قوم عاد الذين خرجوا يستسقون لعاد، وكان قد آمن بهود لما بلغه ما فعل الله بعاد قال هذه الأبيات:

عصت عاد رسولهم فأمسوا                 عطاشاً ما تبلهم السماء

وسُيِّر وفدهم شهراً ليسقوا                   فأردفهم مع العطش العماء

بكفرهم بربهم جهاراً                    على آثار عادهم العفاء

ألا نزع الإلهُ حُلُومَ عاد                  فإن قلوبهم قفر هواء

من الخبر المبين فلم يعوه                        وما تغني النصيحة والشقاء

فنفسي وابنتاي وأم ولدي                      لنفس نبينا هود فداء

أتانا والقلوب مصمدات            على ظُلْم وقد ذهب الضياء

لنا صنم يقال له صمود              يقابله صداء والهباء

فأبصره الذين له أنابوا                وأدرك من يكذبه الشقاء

فإني سوف ألحق آل هود             وإخوته إذا جن المساء

وخرج إلى هود صلوات الله وسلامه عليه.

الدروس والعبر من قصة هود عليه السلام

أولاً: أن عاقبة الغرور وخِيمةٌ، وقد قيل: كم قصم الغرور من ظهور، ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾  .

ثانياً: أن الصبر في الدعوة واللين مع المدعوين أمر مطلوب، ﴿يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعرَاف: 67-68]، وهكذا يجب على الإنسان إذا دعا إلى الله تبارك وتعالى.

ثالثاً: أن الريح جند من جنود الله تبارك وتعالى، عَذَّبَ بها أقواماً كما في قوم هود صلوات الله وسلامه عليه، وسخرها لآخرين كما سخرها لسليمان، ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾، فهي جند من جنود الله تبارك وتعالى يسخرها الله تبارك وتعالى لمن أطاعه، ويعذب بها مَنْ عصاه.

رابعاً: بيان أهمية التوكل على الله تبارك وتعالى، وذلك أن المتوكل على الله يكون جريئاً لا يهاب أحداً كما فعل هود مع قومه ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾  .

خامساً: اتخاذ المباني الفخمة للخيلاء أمر مذموم ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾   أما إذا كانت هذه المباني الضخمة للحاجة فجائز، كما تتخذ مثلاً الحصون أو السدود أو أن الإنسان يتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى ويسكن، هذا لا بأس به أبداً، وإنما البأس كل البأس فيمن يتخذ هذه للخيلاء والفخر على الناس جميعاً.

وأخيراً.. لا يوجد لذكر عاد شيء في الكتب القديمة، أعني التوراة والإنجيل، وهذا لعله من حسد بني إسرائيل للعرب؛ لأن عاداً من العرب، يريدون أن يقولوا إن جميع الأنبياء من بني إسرائيل.

وهلاكهم كان استئصالاً كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾، فلم يبقَ منهم أحد، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمنا برحمته.

 

([1])       أخرجه ابن حبان (361) وضعف إسناده جداً الأرناؤوط.

([2])      وذلك في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء].

([3])      وذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون].

([4])      وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف].

([5])      أخرجه البخاري (3326)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([6])      يجوز فيه الصرف والمنع، فيقال: هود وهوداً.

([7])       أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

([8])      أخرجه مسلم (2577).

([9])      أخرجه أحمد (1/293، 307)، والترمذي (2516)، وصححه الألباني. انظر: «صحيح الجامع» (7957).

([10])    أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([11])     بنو اللوذية هم الذين آمنوا بهود عليه السلام.

([12])    وهو والي البحرين.

([13])    الرَّبَذَة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز. «معجم البلدان» (2/309).

([14])    يعني: نحن انتصرنا.

([15])    أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (3/382). والطبراني في «المعجم الكبير» (3325)، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (8/442)، والعلامة الألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (3/372).

([16])    أخرجه الإمام مسلم «صحيحه» (899).