قصة نوح عليه السلام
25-02-2023
تكلمنا عن نبي الله آدم صلوات الله وسلامه عليه، وسنتكلم أيضاً عن آدم، ولكن عن آدم الثاني، أو آدم الأصغر، وهو نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه، وقيل له: «آدم الثاني»، أو «آدم الأصغر»، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ﴾، فكل من على وجه الأرض هم من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام مصداقاً لطلب نوح من ربه تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، وذكر كثير من أهل العلم أن الذين نجوا مع نوح من المؤمنين لم يكن لهم نسلٌ.
ونوح عليه السلام من أولي العزم من الرسل، بل هو أول رسول أُرسل إلى أهل الأرض، وذلك أن آدم صلوات الله وسلامه عليه نبيٌ، وليس برسول، وأول رسول هو نوح صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أن الناس عندما يأتون آدم يوم القيامة يريدون منه أن يشفع لهم عند ربه تبارك وتعالى بأن يعجل الحكم فيهم، فيعتذر آدم صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: «وهل أخرجكم من الجنة غيري اذهبوا إلى نوح أول رسول أرسل إلى الأرض»([1])، فنوح صلوات الله وسلامه عليه هو أول رسول أُرسل إلى الأرض. وقد جاء أن رجلاً سأل النبي ﷺ: كم كان بين آدم ونوح؟ فقال: «عشرة قرون»([2]).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام([3]).
والقرن كما ذكر أهل العلم إما أن يكون مئة سنة، أو أن المقصود من القرن هو الجيل من الناس، فكل جيل قرن، فيكون قريباً من أربعين سنة.
ونوح صلوات الله وسلامه عليه ذُكر في القرآن الكريم ثلاثاً وأربعين مرة.
إن الناس بعد آدم مكثوا قروناً طويلة، وهم أمة واحدة على التوحيد، على الفطرة ﴿فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا﴾، حتى جاءتهم الشياطين، فأدخلت عليهم الشرور المتنوعة، وذلك أن قوم نوح صلوات الله وسلامه عليه مات منهم أناس صالحون، فجاءهم الشيطان، وأمرهم أن يصوروا لأولئك الصالحين صوراً، حتى إذا رأوهم تذكروهم، وتذكروا عبادتهم، فكان ذلك سبباً في نشاطهم في العبادة، واستمروا على ذلك زمناً حتى مات أولئك القوم، فجاء مَنْ بعدهم، ثم مَنْ بعدهم، فجاءهم الشيطان، وقال لهم: إن هذه الصور بها كانوا يستشفعون، وبها ينزل عليهم المطر، وكانوا يدعونها، فادعوها، فدعوها من دون الله تبارك وتعالى، وهو مصداق قول الله تبارك وتعالى عنهم: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾، فعبدوا هذه الصور من دون الله تبارك وتعالى، وهذا هو المشهور عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وهو الذي صرح به كثير من أهل العلم: كالإمام القرطبي، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم من أهل العلم، وقد أخرج الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة وهما زوجتا النبي ﷺ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، ذكرنها للنبي ﷺ([4])، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «إن أولئك كان فيهم الرجل الصالح فمات، فبنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([5])، ومصداق هذا ما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز من قصة أهل الكهف، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ٱبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الذين غلبوا على أمرِهِمْ هُمْ شرارُ أهلِ القرية، فبنوا على أولئك الصالحين مسجداً كما فعل غيرهم.
أساليب دعوة نوح عليه السلام لقومه:
لما كفر أولئك القوم من ذرية آدم صلوات الله وسلامه عليه؛ أرسل الله إليهم نبيه نوحاً، وأمره أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده، فلم يُقَصِّر، واستخدم عدة أساليب في الدعوة إلى الله ــ جل وعلا ــ، فمن تلك الأساليب التي استخدمها:
أولاً: أسلوب الترغيب: كما في قول الله تبارك وتعالى عن نوح: ﴿فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ .
ثانياً: أسلوب الترهيب: فذكر الله عنه أنه قال لهم: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا ٱللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ .
ثالثاً: أسلوب المحاورة: ومنه ما ذكر الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجًا وَٱللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ ٱلْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ .
رابعاً: أسلوب الصبر وتحمل الأذى: وكان هذا من أساليبه صلوات الله وسلامه عليه أن صبر وتحمل ما جاء منهم من أذى، وكلنا يعلم أن نوحاً صلوات الله وسلامه عليه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ .
خامساً: أسلوب التلطف في الخطاب: فكان عليه السلام يتلطف معهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك لما جاءوه وطلبوا منه أن يطرد الضعفاء الأراذل ــ على قولهم ــ فكان قول نوح عليه السلام: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ ٱللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْرًا﴾ .
وكذلك لما اتهموه بالضلال، فما زاد أن قال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ إي والله، كيف يكون به ضلالة، واللهُ بعثه لتزول به الضلالة؟!
ولما قالوا له: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾، وهكذا استمر في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وقومه يكيلون له الأذى كَيْلاً، حتى إن هذا الأذى تمثَّلَ في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَقَالَ ٱلْمَلَأَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾، هذا أول ردٍّ ردوا به على نوح صلوات الله وسلامه عليه: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ﴾ يعني: نراك اتبعك أراذلنا، وضعفاؤنا، وما اتبعك كبراؤنا.
وقولهم: ﴿بَادِيَ ٱلرَّأْيِ﴾ أي: الذين لم يتمهلوا حتى في معرفة الحق من الباطل، بل كان رأيهم سريعاً، واتخذوا القرار دون تمهل، ودون دراسة، ثم قالوا كذلك: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾، حتى تكونوا أنتم أفضل منا، ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾، وقالوا كذلك: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وقالوا: ﴿وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾، وقالوا: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا ٱلْأَوَّلِينَ﴾،، وقالوا: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾، هذا ردُّ قوم نوح عليه صلوات الله وسلامه، تمثل في هذه الأمور الثمانية:
الأول: أنت بشر كمثلنا، أنتبع بشراً مثلنا؟!
الثاني: أتباعك أراذلنا، الذين يتخذون الرأي دون دراسة.
الثالث: ما نرى لكم علينا من فضل، أنتم كأمثالنا، ما لكم علينا من فضل حتى نتبعكم.
الرابع: نظنكم كاذبين.
الخامس: نراك في ضلال مبين.
السادس: لو شاء الله لأنزل ملائكة، لِمَ لَمْ يُنْزِل ملائكة، فنتبع الملائكة؟!
السابع: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
الثامن: بك جنون.
هكذا اتمهموا وردّوا على نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه.
وهو كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾، فهذه التُّهَم كما سيأتينا في قصص الأنبياء هي التهم نفسها الموجهة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، تزيد تهمة أو تنقص تهمة، ولكنها بشكل مجمل هي التُّهم التي توجه أو الأسباب التي يكون لأجلها امتناع الكافرين من اتباع المرسلين.
قوم نوح عليه السلام يواجهوا دعوته بالرد والأذى:
ثم واجهوه بالأذى، آذوه صلوات الله وسلامه عليه، وإلا بِمَ صار نوح صلوات الله وسلامه عليه من أولي العزم من الرسل إلا لذلك الأذى الذي أصابه من قومه صلوات الله وسلامه عليه.
اتهموه بالجنون، وهو مصداق قوله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ﴾ .
واتهموه بالضلال: ﴿قَالَ ٱلْمَلَأَ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، اتهموه بالجدل العقيم: ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ .
توعدوه بالرجم: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ﴾ .
سخروا منه: ﴿وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ .
وأساؤوا الأدب: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَٱسْتَكْبَرُوا ٱسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾، وكل هذا لم ينفع مع قوم نوح صلوات الله وسلامه عليه، وتأملوا قولهم: ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ﴾ إن كنت صادقاً أنك رسول من الله تبارك وتعالى فائتنا بآية، فلا حاجة إلى الإكثار من الجدال معنا، فقد بلَّغتنا، ونحن كذبناك، وسئمنا من كثرة الخصومة معك، وقد توعدتنا بعذاب فأتنا بالعذاب.
هكذا ردّوا على نوح صلوات الله وسلامه عليه، فقال نوح: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ نعم، أما هو صلوات الله وسلامه عليه فوظيفته البلاغ، أما العذاب فعند الله سبحانه وتعالى، وهذا مصداق قول النبي ﷺ لقومه: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ ٱلْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّالِمِينَ﴾، فالأمر ليس بيد نوح، ولا بيد محمد، ولا إبراهيم، ولا عيسى، ولا موسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل هو بيد خالقهم وربِّهم سبحانه وتعالى.
نوح عليه السلام يصبر على أذى قومه:
وبقي نوح عليه السلام ثابتاً على دينه متوكلاً على ربه تبارك وتعالى، مشفقاً على أمته، دائباً في دعوته مئات السنين وقومه لا يزدادون إلا سخرية منه وعناداً وإصراراً على ما هم عليه من الشرك حتى قالوا: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾، ومع هذا استمر في دعوته حتى قال الله له: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾، انتهى الأمر لن يؤمن أحد، أدَّيْتَ الذي عليك، ولن يتّبعك أحدٌ بعد الذين اتبعوك، عندها قال نوح: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾، حكمتَ يا رب أنه لن يؤمن أحد بعد الذين آمنوا، إذاً يا ربِّ عجِّل لهم العذاب، فدعا نوح صلوات الله عليه على قومه، ولذلك عندما يأتي الناس نوحاً يوم القيامة فيقولون: «يا نوح أنت أول رسول أرسله الله إلى الأرض، اشفع لنا عند ربك، فيقول: إني دعوت على قومي»([6]).
نوح عليه السلام والتحدي الأكبر:
كان نوح عليه السلام لما واجهه قومه بالأذى وتوعدوه بالرجم وغير ذلك تحداهم أكبر التحدي، حتى قال بعض أهل العلم: إن معجزة نوح صلوات الله وسلامه عليه تتمثل في ذلك التحدي الذي تحدى به قومه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾، هكذا تحدى نوح قومه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الكلام من نوح يدل على ثقة ويقين، ولا يكونان أبداً إلا لأمثال نوح صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا التحدي تمثل في خمس صور:
1 ــ قوله لهم: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾، لا تختلفوا عليّ، لا يقل أحد شيئاً والآخر شيئاً مع أن اختلافهم جيد بالنسبة له، ولكنه قال: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ لا تختلفوا عليّ، اتفقوا حتى تكونوا كالجسد الواحد.
2 ــ ثم قال: ُنِ، استعينوا بشركائكم من الجن والإنس والأصنام التي تدعونها من دون الله تبارك وتعالى.
3 ــ ثم قال: ﴿ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾، لا تكتموا، لا تسروا لبعضكم البعض، لا تجلسوا في الليالي، تحدثوا نهاراً جهاراً.
4 ــ ﴿ثُمَّ ٱقْضُوا إِلَيَّ﴾ أنجزوا، اتفقوا، اعدموني، ارجموني، افعلوا ما تشاؤون.
5 ــ ﴿وَلَا تُنْظِرُونِ﴾، ولا تمهلوني.
ولننظر هل يستطيعون ذلك أم لا؟ ولم يستطيعوا أبداً، ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن هذه كانت معجزة نوح صلوات الله وسلامه عليه، وهذا المقام الذي قامه نوح صلوات الله وسلامه عليه لا شك أنه تتقاصر عنه الصناديد من الرجال، عندما يقف في وجه الكفرة الفجرة الذين توعدوه وهددوه بشتى أنواع العذاب؛ يقف بينهم هذا الموقف العظيم، لا شك أنه يدل على ثقةٍ وتوكلٍ ويقينٍ بنصرِ الله تبارك وتعالى.
استمر نوح عليه السلام في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى حتى بلغ السيل الزبى، عند ذلك قال نوح صلوات الله وسلامه عليه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ و﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾، ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، وذكر الله عنه فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنْتَصِرْ﴾، ومنه قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ﴾ عندها؛ بعد أن أتم نوح صلوات الله وسلامه عليه دعوته لقومه أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ .
قال أهل العلم: سخروا منه لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أنهم قالوا: يا نوح قد كنت نبياً فصرت نجاراً، فسخروا منه.
الأمر الثاني: أنهم قالوا: يا نوح من يصنع السفينة يسير بها في البحر، وأنت في البر! ما تصنع بهذه السفينة؟
وكان نوح صلوات الله وسلامه عليه بكل ثقة ويقين، يقول لهم: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾، ولكن تسخرون عاجلاً، ونسخر آجلاً ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ٱنْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ ٱنْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ .
وتركوا نوحاً، وصنع السفينة، وذكروا أنه صنع السفينة في أربعين سنة، وذكر بعضهم أنه غرس أشجاراً ثم رعاها حتى قويت واشتدّت، ثم أخذ منها الخشب، وصنع منها السفينة، وكل هذا من روايات بني إسرائيل التي لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب.
وقد بناها سفينة عظيمة وجعلها ثلاثة طوابق، وجعل الطابق السفلي للدواب والوحوش، والطابق الأوسط للبشر الذين معه، والطابق الأعلى للطيور، قال الله تبارك وتعالى بعدما صنع نوح السفينة وأتمها: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ما آمن معه إلا قليل، جلس يدعو ألف سنة إلا خمسين عاماً، تسعمئة وخمسون سنة، وما آمن معه إلا قليل، فلا تحزن إذا كنت تدعو إلى الله تبارك وتعالى ولم يؤمن معك إلا قليل، بل لا تحزن إن لم يؤمن معك أحد، المهم احزن إن قصرتَ أنت في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أما اتباع الناس لك فالأمر ليس في يدك ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ .
رسولٌ من أولي العزم من الرسل، أعطاه الله تبارك وتعالى الخبرةَ الطويلةَ في الدعوة إليه، وهو ملهم يُوحى إليه، جلس هذه المدة الطويلة، يقين، وصدق، وإخلاص، وتقوى، ومع هذا ما آمن معه إلا قليل، فلا يحزن الإنسان إذا لم يؤمن به إلا واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، بل يفرح أنه هدى الله على يديه رجلاً واحداً، بل أخبر النبي ﷺ أن بعض الأنبياء يأتون يوم القيامة وليس معهم أحد([7])، بل سيأتينا في قصة أبي الأنبياء إبراهيم ﷺ وقول الله ــ جل وعلا ــ: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾، فذكروا أن إبراهيم عليه السلام لم يؤمن به إلا لوط، ولوط نبي.
عدد مَنْ آمن مع نوح عليه السلام:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، وهذا القليل ــ كما ذكرت كتب أهل الكتاب أنهم ــ لم يتجاوزوا الثمانين من رجال ونساء.
وقال بعضهم: ثلاث وثمانون، والله أعلم بعددهم، ولكن يكفينا قول الله: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ويكفينا أنهم حملتهم مع دوابهم وطيورهم سفينة فهم لا شك قليل، وسفينة مشحونة كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ﴾ أي: شُحنوا فيها شحناً.
نوح عليه السلام يركب سفينته وينزل العذاب على قومه:
قال تعالى: ﴿وَقَالَ ٱرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إنّ نوحاً عليه الصلاة والسلام لما ركب السفينة قال: بسم الله تسير وتجري، وبسم الله ترسو، فهذا نوح عليه السلام، دائماً يتعلق بربه تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ ٱلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا فَٱلْتَقَى ٱلْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾، فجَّرّ الله الماء من الأرض ﴿وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا﴾ صارت الأرض كلها عيوناً، ﴿فَٱلْتَقَى ٱلْمَاءُ﴾ التقى ماء السماء بماء الأرض ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ أي: قُدّر بأمر الله تبارك وتعالى، هنا الآن ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا﴾ تصْنَعُ سفينة في البر! صرتَ نجاراً بعد أن كنتَ نبياً! هذا وقت السفينة ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ الدُّسُر: المسامير، ألواح ومسامير، ﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾ أي نوحاً عليه الصلاة والسلام ومن معه ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ أي: برعايتنا، وعنايتنا، وحفظنا، ورحمتنا، حَفِظَها الله تبارك وتعالى، ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ هذا الجزاءُ يا نوح لما كفروك وعادوك وآذوك، انظر الآن كيف دمرهم الله تبارك وتعالى.
يقول الله ــ جل وعلا ــ: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ﴾ موج كالجبال، قد لا يستطيع الإنسان أن يتصور هذا الأمر، ولكن يكفينا أن نصدق قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ٱرْكَبْ مَعَنَا﴾ ينادي ابنه ﴿يَابُنَيَّ ٱرْكَبْ مَعَنَا﴾ حتى تنجو، فقال: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَاءِ﴾ يقول لابنه: ﴿يَابُنَيَّ ٱرْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ ٱلْكَافِرِينَ﴾ أولئك كافرون سيهلكهم الله، وهذه شفقة في قلب نوح على ابنه، شفَقةُ الأب على ابنه، ولذلك الله تبارك وتعالى وصى الإنسان بوالديه، فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ لكن لم يوصِ الأب أبداً، ولم يوصِ الأم بالولد؛ لأن هذه الشفقة مغروسة في قلوبهم، في قلوب الآباء والأمهات، ﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ ٱلْكَافِرِينَ﴾، ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ﴾ يظن أن الأمر تنفع معه الحيلة، بل هو كما في حال المؤمنين يوم القيامة عندما يمشون على الصراط، أتظنون أن الذي يمشي على الحبل في الدنيا هو الذي سيمشي على الصراط!! بل التثبيت من الله تبارك وتعالى، كذلك الأمر هنا، أتظن أنه كلما صعد الإنسان إلى أعلى نجا؟! لا، وإنما من أراد الله لهم النجاة ينجون، ولذلك لما قال: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَاءِ﴾ جاء الرد من أبيه: ﴿قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ لا جبل، ولا غير جبل، ﴿قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ وهم الذين ركبوا في السفينة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ﴾ الأمر إذاً لحظات، اركب.. سآوي.. لا عاصم.. حال بينهما الموج.. ذلك أن السماء قد انفتحت كالقرب، والأرض تفجرت كالعيون، والتقى ماء السماء مع ماء الأرض حتى علا أعلى شاهق في الأرض، ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ﴾، وأنجى الله نوحاً ومن معه.
وذكر أهل العلم أن أولاد نوح أربعة: حام، وسام، ويافث، ويام.
حام من نسله القبط، والبربر، والسودان، وهم السود بشكل عام.
وأما العرب، والفرس، والروم؛ فهم من نسل سام.
وأما الترك، والصقالبة، ويأجوج ومأجوج من نسل يافث، والذي غرق هو يام، ويسميه أهل الكتاب كنعان.
ونجى الله تبارك وتعالى نوحاً والذين آمنوا معه، الذين يربطهم معه نسب الدين، وأما نسب الولادة؛ فإن الله أهلك ابنه كنعان أو يام.
بعد أن أغرق الله جميع الكافرين قال: ﴿وَقِيلَ يَاأَرْضُ ٱبْلَعِي مَاءَكِ﴾ أدَّيتِ ما عليكِ، فهي جندٌ من جنود الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ . ﴿وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ السماء، المقصود به المطر، توقف المطر، الأرض ابتلعت ما عليها، ﴿وَغِيضَ ٱلْمَاءُ﴾ غِيضَ: يعني نَقَصَ، ﴿وَقُضِيَ ٱلْأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ﴾، هنا توقفت السفينة على البر مرة أخرى، والجودي على المشهور: جبل في الموصل. وقيل: الجودي هو اسم جنس يطلق على أي جبل، فيقال: جودي كذا، وجودي كذا، وجودي كذا.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ﴾ .
هكذا لحظات وانتهى كل شيء كأنه حلم، موج، وعذاب، ولا أحد إلا نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه في السفينة والأرض يباب([8])، كل من عليها هلك، كل من على وجه الأرض، ولذلك قيل لنوح: إنه آدم الثاني أو آدم الأصغر.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ أَنْصَارًا﴾ .
وذُكرت هنا قصة إسرائيلية، وقد ذكرنا أنه لا بأس أن نروي القصص الإسرائيلية:
ذُكر أن امرأة من قوم نوح لما بدأت السماء تمطر والأرض تنبع صعدتْ بولدٍ لها رضيع إلى أحد الجبال خوفاً من الماء، فجاءها الماء، فصعدت، فجاءها الماء، فصعدت، فجاءها الماء، حتى وصلتْ إلى قمة الجبل، فجاءها الماء، فرفعت ولدها، فغطاها الماء، حتى وصل إلى عنقها، فرفعت ولدها إلى فوق، فغطاهما الماء كما غطى غيرهما، وقد قيل: لو رحم الله أحداً من قوم نوح لرحم أم الصبي، ولكنه أهلك الجميع سبحانه وتعالى، ولا يعني هذا أن الصبي في النار، وإنما إذا جاء العذاب عمَّ الجميع، ثم يبعث كل على نيته([9]).
يقول الله تبارك وتعالى بعد أن انتهى الأمر: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ﴾ لأن الله قال: ﴿قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾، فقال نوح: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ﴾ يعني: إنك أخبرتني أنك تُنْجِيني وأهلي وأنت أحكم الحاكمين، ما الذي حصل؟ لِمَ لَمْ ينجُ؟ ولكن هذا من أدب نوح مع ربه تبارك وتعالى أن تكلم بهذه الطريقة، فقال الله له: ﴿يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾ إنه عمل غير صالح، ما معنى إنه عمل غير صالح؟ قال بعض أهل العلم من أهل التفسير لها معنيان:
الأول: إنه عَمَلٌ غيرُ صالح؛ أي: هذا العمل منك يا نوح غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم، يعني: دعاؤك هذا عملٌ غير صالح، ولذلك جاء بعده التأنيب في قوله: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ﴾ .
الثاني: إنه عَمَلٌ غيرُ صالح أي: ركوب الكافر معك، أنت لا يركب معك إلا المؤمن، وهذا كافر كيف يركب معك؟ إنه عمل غير صالح منا إذا أركبنا الكافر معك.
وهناك قراءة أخرى: «إنه عَمِلَ غير صالح» يعني: إن ابنك عَمِلَ عَمَلاً غير صالح، فلا ينجو معك، وهي قراءة سبعية صحيحة.
من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه:
وهنا في غرق ولد نوح وغرق امرأته كذلك ــ كما سيأتي ــ يتبين أن الأسباب كلَّها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان متصلاً بالله وحده على أيدي رسله، وذلك أن الاتصال بين الناس مع الأنبياء فوق اتصال البنوة، والأبوة، والزوجية، بل هذا هو أشد اتصال بين الناس، أشد الناس الذين تتصل بهم في هذه الدنيا وتشفق عليهم؛ إما أن يكون اتصال أبوة «أب أو أم»، أو اتصال بنوة: «ابن أو بنت»، أو اتصال زواج، ولكن هذا الاتصال إن لم يكن معه اتصال عقدي؛ فإنه لا ينفع، ولذلك لم يغنِ نوحٌ عن ابنه وزوجته، ولم يغنِ إبراهيم عن أبيه، ولوط كذلك عن زوجته، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .
خيانة دين لا خيانة فراش:
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ٱمْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ﴾ هنا: الخيانة لا شكَّ أنها خيانة الدين، وليست خيانة الفراش بأي حال من الأحوال، وذلك لأسباب كثيرة منها:
أولاً: أنه لو كان من امرأة نوح وامرأة لوط زنا؛ لكان قومهما عيراهما بهذا، كما كان يُعَيَّر نوح قالوا: ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ﴾، وغير ذلك من الاتهامات التي اتهموا فيها نوحاً، ولو كانت امرأته كذلك لقالوا: فراشك غير طاهر، فلما لم يُتهم بهذا عُلِمَ أن الخيانة لم تكن خيانة الفراش.
ثانياً: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾، وقال: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ وذلك أن بعضهم قال: إن ابن نوح هذا الذي لم ينجُ كان ابن زنا، وهذا كذب، بل الله سماه ابناً له، فقال: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ٱبْنَهُ﴾، فنسبه إليه، وقال عن لوط: ﴿آلَ لُوطٍ﴾ فنسبهم إلى لوط صلوات الله وسلامه عليه.
ثالثاً: قال الله تبارك وتعالى: ﴿ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾، ونوح طيب فله الطيبات، ولكنها خبيثة في الدين، في العقيدة، فأما الخباثة في العرض فالله نزَّه أنبياءه عن ذلك.
رابعاً: لو كانت الخيانة بالزنا لما قال الله: ﴿وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ﴾ ؛ لأن الزنا لا يخرج الإنسان من الملة، وإنما الذي أخرجها من الملة خيانةُ الدين، فلما خانت نوحاً عليه الصلاة والسلام في دينه؛ حكم الله عليها بدخولها النار.
خامساً: قال الله تبارك وتعالى: ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، فلا يمكن أبداً أن الله يختار نساءً لأنبيائه أمثال هؤلاء، ولذلك نصَّ أهل العلم: أن من اتهم امرأة نبي بالزنا؛ فهو كافر خارج من ملة الإسلام.
أمة محمد ﷺ تشهد لنوح عليه السلام:
وبعد هذه الدعوة الطويلة من نوح عليه الصلاة والسلام ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلَّغْت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي» تصوروا تسعمئة وخمسون سنة، وبعد هذا كلِّه تأتي أمة نوح يوم القيامة تقول: «ما جاءنا من نبي»، ما بلغنا، فيقول الله لنوح: «من يشهد لك؟» أنت تقول: بلغت، وهم ينكرون، من يشهد لك يا نوح فيقول: «محمد ﷺ وأمته» يقول النبي ﷺ: «فنشهد أنه قد بلغ»، وهو قوله جل ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ والوسط العدل»([10]).
فتشهد هذه الأمة، تشهد بماذا؟ تشهد بأن الله صادق، تشهد بأن النبي صادق، تشهد بأن ما جاء في كتاب الله حق، فتشهد أن نوحاً قد بلغ.
ومنه قصة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لما شهد أن النبي ﷺ لما ابتاع من الأعرابي الفرس، قال الأعرابي: هلم شهيداً، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي ﷺ على خزيمة، فقال: «بم تشهد؟»، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين([11]).
تنبيهــان:
الأول: لا يُعرف بالتحديد القطعي مكان الأحداث التي وقعت لنوح مع قومه، فكلُّ من قال بالتحديد فهو رجم بالغيب.
الثاني: وكذلك لا يُعرف الزمان الذي كان فيه نوح عليه الصلاة والسلام، ولكننا نعلم علم اليقين أن هذه القصة قد وقعت، والتحديد ليس له أثر في العبرة المطلوبة من القصة، فيكفي أن نعلم أنها وقعت على الأرض قبل أن نولد، وأننا مكلفون بما كُلِّفُوا به من عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وموعودون كما وُعِدوا، فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.
الدروس والعبر المستفادة من قصة نوح عليه السلام
أولاً: عقاب قوم نوح فيه دليل على أن الجزاء قد يكون أحياناً في الدنيا، وقد يكون في الآخرة.
ثانياً: إنّ جميع الرسل من نوح إلى محمد عليهم السلام متفقون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، كلهم يدعون إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له.
ثالثاً: من آداب الدعوة ما قام به نوح أنه دعاهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وصبر على هذا صبراً عظيماً.
رابعاً: ينبغي ذكر الله دائماً والاستعانة به ﴿وَقَالَ ٱرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ .
وقفة:
يُروى أن نوحاً بعد هذا العمر الطويل المديد سُئل، فقيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: رأيتها كبيتٍ له بابان، دخلتُ من أحدهما وخرجت من الآخر.
مصير الآلهة التي كانت تعبد زمن نوح عليه السلام:
قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ هذه الآلهة بعد هلاك قوم نوح، ومضي السنين، جاء عمرو بن لُحَي الخزاعي إلى مكة، وكانت خزاعة تحكم مكة قبل قريش، فأتى بها عمرو بن لُحَي الخزاعي الذي أخبر عنه النبي ﷺ أنه أول من جلب الأصنام إلى مكة.
فأما «ود»: فكان لبني عذرة في دومة الجندل وهدمه خالد بن الوليد، وعمرو بن عبد ودّ العامري، نسبة لهذا الصنم «عبدُ ودٍّ» أي: عبد الصنم ودّ.
و«سواع»: كان لِمُضَر، وعبدته هذيل.
و«يغوث»: لمذحج، قبيلة من قبائل العرب.
و«يعوق»: لهمدان، قبيلة في اليمن.
و«نسر»: لحِمْيَر، وكانوا في سبأ يتوارثون عبادة الأصنام كابراً عن كابر، أو قولوا: صاغراً عن صاغر.
([2]) أخرجه ابن حبان (6190)، والطبراني في «الكبير» (7545)، وفي «الأوسط» (403)
من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2668، 3289): «وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون».
([3]) أخرجه الحاكم (3654)، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
([4]) وذلك أن أم سلمة وأم حبيبة كانتا قد هاجرتا إلى الحبشة قبل زواج النبي ﷺ بهما، ورأتا كنيسة يقال لها: (ماريا)، رأينها في الحبشة، وكانت فيها تصاوير.
([5]) أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528) من حديث عائشة ؟ب.
([7]) أخرجه البخاري (5705)، ومسلم (220) من حديث ابن عباس ؟ت.
([8]) اليباب: الخراب، «المعجم الوجيز».
([9]) وذلك لما أخرجه البخاري (2118)، ومسلم (2884) بهذا المعنى.
([11]) أخرجه أبو داود (3607)، والنسائي (4647)، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (1286).