مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [56]

22 المحرم سنة 1330 هـ

حسبك من وجوه الاحتجاج هنا ما قلناه لك آنفاً ــ في المراجعة 24.

علىٰ أن تواتر حديث الغدير مما تقضي به النواميس التي فطر الله الطبيعة عليها شأن كل واقعة تاريخية عظيمة يقوم بها عظيم الأمة، فيوقعها بمنظر وبمسمع من الألوف المجتمعة من أمته من أماكن شتىٰ، ليحملوا نبأها عنه إلىٰ من وراءهم من الناس ولا سيما إذا كانت من بعده محل العناية من أسرته وأوليائهم في كل خلف، حتىٰ بلغوا بنشرها وإذاعتها كل مبلغ، فهل يمكن أن يكون نبؤها ــ والحال هذه ــ من أخبار الآحاد؟ كلا، بل لا بد أن ينتشر انتشار الصبح، فينظم حاشيتي البر والبحر: ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا﴾  [فاطر: 43].

إن حديث الغدير كان محل العناية من الله عز وجل، إذ أوحاه تبارك وتعالىٰ، إلىٰ نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل فيه قرآنا يرتله المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، يتلونه في خلواتهم وجلواتهم، وفي أورادهم وصلواتهم، وعلىٰ أعواد منابرهم، وعوالي منائرهم: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾  [المائدة: 67]([1]).

فلما بلغ الرسالة يومئذ بنصه علىٰ علي بالإمامة وعهده إليه بالخلافة، أنزل الله عز وجل عليه: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَامَ دِينًا﴾  [المائدة: 3]([2]) بخ بخ: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾  [المَائدة: 54]. إن من نظر إلىٰ هذه الآيات، بخع لهذه العنايات.

وإذا كانت العناية من الله عز وجل علىٰ هذا الشكل؛ فلا غرو أن يكون من عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان، فإنه لما دنا أجله، ونعيت إليه نفسه، أجمع ــ بأمر الله تعالىٰ ــ علىٰ أن ينادي بولاية علي في الحج الأكبر علىٰ رؤوس الأشهاد، ولم يكتف بنص الدار يوم الإنذار بمكة، ولا بغيره من النصوص المتوالية، وقد سمعت بعضها، فأذن في الناس قبل الموسم أنه حاج في هذا العام حجة الوداع، فوافاه الناس من كل فج عميق، وخرج من المدينة بنحو مئة ألف أو يزيدون، فلما كان يوم الموقف بعرفات نادىٰ في الناس: «علي مني، وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي».

ولما قفل بمن معه من تلك الألوف وبلغوا وادي خم، وهبط عليه الروح الأمين بآية التبليغ عن رب العالمين، حط صلى الله عليه وآله وسلم هناك رحله، حتىٰ لحقه من تأخر عنه من الناس، ورجع إليه من تقدمه منهم، فلما اجتمعوا صلىٰ بهم الفريضة، ثم خطبهم عن الله عز وجل، فصدع بالنص في ولاية علي، وقد سمعت شذرة من شذوره، وما لم تسمعه أصح وأصرح، علىٰ أن فيما سمعته كفاية، وقد حمله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كل من كان معه يومئذ من تلك الجماهير، وكانت تربو علىٰ مئة ألف نسمة من بلاد شتىٰ، فسنة الله عز وجل، التي لا تبديل لها في خلقه تقتضي تواتره مهما كانت هناك موانع تمنع من نقله، علىٰ أن لأئمة أهل البيت طرقاً تمثل الحكمة في بثه وإشاعته.

وحسبك منها ما قام به أمير المؤمنين أيام خلافته، إذ جمع الناس في الرحبة فقال: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم ما قال، إلا قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلا من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه، فقام ثلاثون صحابياً فيهم اثنا عشر بدرياً، فشهدوا أنه أخذه بيده، فقال للناس: «أتعلمون إني أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟». قالوا: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كنت مولاه، فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه..» الحديث.

وأنت تعلم أن تواطؤ الثلاثين صحابياً علىٰ الكذب مما يمنعه العقل، فحصول التواتر بمجرد شهادتهم إذن قطعي لا ريب فيه، وقد حمل هذا الحديث، عنهم كل من كان في الرحبة من تلك الجموع، فبثوه بعد تفرقهم في البلاد، فطار كل مطير.

ولا يخفىٰ أن يوم الرحبة إنما كان في خلافة أمير المؤمنين، وقد بويع سنة خمس وثلاثين، ويوم الغدير إنما كان في حجة الوداع سنة عشر، فبين اليومين ــ في أقل الصور ــ خمس وعشرون سنة، كان في خلالها طاعون عمواس، وحروب الفتوحات والغزوات علىٰ عهد الخلفاء الثلاثة، وهذه المدة ــ وهي ربع قرن ــ بمجرد طولها وبحروبها وغاراتها، وبطاعون عمواسها الجارف، قد أفنت جل من شهد يوم الغدير من شيوخ الصحابة وكهولهم، ومن فتيانهم المتسرعين ــ في الجهاد ــ إلىٰ لقاء الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حتىٰ لم يبق منهم حياً بالنسبة إلىٰ من مات إلا قليل، والأحياء منهم كانوا منتشرين في الأرض إذ لم يشهد منهم الرحبة إلا من كان مع أمير المؤمنين في العراق من الرجال دون النساء.

ومع هذا كله فقد قام ثلاثون صحابياً، فيهم اثنا عشر بدرياً فشهدوا بحديث الغدير سماعاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورب قوم أقعدهم البغض عن القيام بواجب الشهاد كأنس بن مالك وغيره([3])، فأصابتهم دعوة أمير المؤمنين عليه السلام، ولو تسنىٰ له أن يجمع كل من كان حياً يومئذ من الصحابة رجالاً ونساء، ثم يناشدهم مناشدة الرحبة، لشهد له أضعاف أضعاف الثلاثين، فما ظنك لو تسنت له المناشدة في الحجاز قبل أن يمضي علىٰ عهد الغدير ما مضىٰ من الزمن؟ فتدبر هذه الحقيقة الراهنة تجدها أقوىٰ دليل علىٰ تواتر حديث الغدير.

 

([1])        علق عبدالحسين قائلاً: «لا كلام عندنا في نزولها بولاية علي يوم غدير خم، وأخبارنا في ذلك متواترة عن أئمة العترة الطاهرة، وحسبك مما جاء في ذلك من طريق غيرهم، ما أخرجه الإمام الواحدي في تفسير الآية من سورة المائدة ص150 من كتابه ــ أسباب النزول ــ من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يوم غدير خم في علي بن أبي طالب، قلت: وهو الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم في تفسيرها من كتابه نزول القرآن ــ بسندين «أحدهما» عن أبي سعيد «والآخر» عن أبي رافع، ورواه الإمام إبراهيم بن محمد الحمويني الشافعي في كتابه ــ الفرائد ـ بطرق متعددة عن أبي هريرة.
وأخرجه الإمام أبو إسحاق الثعلبي في معنىٰ الآية من تفسيره الكبير بسندين معتبرين، ومما يشهد له أن الصلاة كانت قبل نزولها قائمة، والزكاة مفروضة، والصوم كان مشروعاً، والبيت محجوجاً، والحلال بيناً، والحرام بيناً، والشريعة متسقة، وأحكامها مستتبة، فأي شيء غير ولاية العهد يستوجب من الله هذا التأكيد، ويقتضي الحض علىٰ بلاغه بما يشبه الوعيد، وأي أمر غير الخلافة يخشىٰ النبي الفتنة بتبليغه، ويحتاج إلىٰ العصمة من أذىٰ الناس بأدائه؟

([2])       علق عبدالحسين قائلاً: «صحاحنا في نزول هذه الآية بما قلناه متواترة من طريق العترة الطاهرة، فلا ريب فيه وإن روىٰ البخاري أنها نزلت يوم عرفة وأهل البيت أدرىٰ».

([3])       علّق عبدالحسين قائلا: «حيث قال له علي  ﷺ: ما لك لا تقوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سمعته يومئذٍ منه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت سني ونسيت. فقال علي: إن كنت كاذباً فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة، فما قام حتىٰ أبيض وجهه برصاً، فكان بعد ذلك يقول: أصابتني دعوة العبد الصالح. اهــ. قلت: هذه منقبة مشهورة ذكرها الإمام ابن قتيبة الدينوري حيث ذكر أنساً في أهل العاهات من كتابه ــ المعارف ــ آخر ص194. ويشهد لها ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في آخر ص119 من الجزء الأول من مسنده، حيث قال: فقاموا إلا ثلاثة لم يقوموا، فأصابتهم دعوته» اهــ.