نقد مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [20]

ذكر عبدالحسين أن الله تعالىٰ قد أنزل علىٰ نبيه ــ في مبدأ الدّعوة الإسلامية في مكّة ــ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 214]، ثمّ ذكر حديثاً ــ يعرف بحديث الدّار ــ يعرض النّبي  الإسلام علىٰ قومه الأقربين، بعد أن دعاهم إلىٰ دار عمّه أبي طالب ثمّ قال لهم: «إني جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني علىٰ هـٰذا الأمر علىٰ أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، فقال علي: وإني لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ يرقبني ثمّ قال: «إن هـٰذا أخي..». قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

ثمّ دلّس عبدالحسين علىٰ القرّاء فقال: «والحديث في ذٰلك في صحاح السُّنة المأثورة».

والحقيقة أنه لا يوجد بهـٰذا اللفظ في شيء من «صحاح السّنن» عند أهل السُّنة والجماعة؟ وقد أكّد هـٰذا التدليس بعد أسطر فقال: «أخرجه بهـٰذه الألفاظ كثيرٌ من حفظة الآثار النّبوية»، وذكر جماعةً، ثمّ قال بعد سردهم: «وأخرجه بهـٰذا المعنىٰ مع تقارب الألفاظ غير واحد من أثبات السُّنة وجهابذة الحديث»!!

كذا قال: «الألفاظ»!! ولم يذكر سوىٰ لفظ واحد.

وكل هـٰذا تدليسٌ مكشوفٌ؛ فلم يخرّجه أحدٌ ممّن التزم الصّحّة، بل خرّجه بعض أهل التاريخ والسّير وغيرهم من المصنّفين.

ثمّ أوغل عبدالحسين في الإيهام فنسب الحديث إلىٰ «مسند أحمد» بقوله: «وحسبك ما أخرجه أحمد بن حنبل من الجزء الأول من مسنده فراجع».

وقد رجعت إلىٰ «المسند»([1]) كما طلب؛ فوجدت لفظ الحديث فيه يختلف عن اللفظ الذي ذكره، وها هو لفظ «المسند»:

قال الإمام أحمد: حدّثنا أسود بن عامر، حدّثنا شريكٌ، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبّاد بن عبد الله الأسدي، عن علي رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت هـٰذه الآية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 214] ؛ جمع النّبي  من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي»؟ فقال رجلٌ ــ لم يسمّه شريكٌ ــ: يا رسول الله! أنت كنت بحراً([2])، من يقوم بهـٰذا؟! قال: ثمّ قال الآخر: فعرض ذٰلك علىٰ أهل بيته، فقال علي رضي الله عنه: أنا. الحديث.

ففضلاً عن كون هـٰذا الحديث ضعيفاً؛ لضعف شريك بن عبد الله النّخعي وعبّاد بن عبد الله الأسدي ــ كما سيأتي بعد قليل ــ؛ فليس فيه جملة: «يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم»، التي من أجلها أورده؛ ليستدلّ به علىٰ دعواه حسب فهمه، وساء فهماً.

بل فيه ما يفسّر هـٰذه الجملة باللفظ الصّريح، حيث قال: «يكون خليفتي في أهلي»، والروايات يفسّر بعضها بعضاً علىٰ ما تقرّر عند العلماء. وسيأتي إن عامّة متون الحديث وأسانيده التي ذكرها والتي لم يذكرها لا يثبت منها شيءٌ عن النّبي .

هذا؛ وقد خرّج حديث الدّار العلّامة الألباني([3])، حيث تناول تخريج بعض الأحاديث التي ذكرها عبدالحسين في «المراجعات»، فأجاد وأفاد، وهذا الحديث له ثلاثة طرق:

الطريق الأول: أخرجه ابن جرير الطّبري([4])،................ والبزّار([5])، وأبو نعيم([6])، والبيهقي([7])، وابن عساكر([8])، من طرق عن محمد بن إسحاق، عن عبدالغفّار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن عبدالمطّلب، عن ابن عبّاس، عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 214]، دعاني رسول الله فقال لي: «يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين»، قال: «فضقت بذٰلك ذرعاً، وعرفت أني متىٰ أناديهم بهـٰذا الأمر أرىٰ منهم ما أكره، فصمتّ عليها حتّىٰ جاءني جبريل، فقال: يا محمد! إنك إن لم تفعل ما تؤمر به سيعذّبك ربّك! فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسّاً من لبن، واجمع لي بني عبدالمطّلب حتّىٰ أبلّغهم»، فصنع لهم الطّعام.

وحضروا فأكلوا وشبعوا، وبقي الطّعام. قال: ثمّ تكلم رسول الله  فقال: «يا بني عبدالمطّلب! إني والله ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وإن ربّي أمرني أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني علىٰ هـٰذا الأمر علىٰ أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟». فأحجم القوم عنها جميعاً، وإني لأحدثهم سنّاً، فقلت: أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال:.. فذكره، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع»، هذا لفظ ابن عساكر.

وزاد الطبري:دعاني رسول الله  فقال لي: «يا علي! إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين»، وزاد أيضاً:«وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون. فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعبّاس، وأبو لهب».

ورواية البيهقي بإسقاط عبدالغفّار بن القاسم من الإسناد.

قال الألباني رحمه الله: «وكأنه من تدليس ابن إسحاق»، وهو كذلك، قال ابن إسحاق: «حدّثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني اسمه».

وقال الحافظ ابن كثير: «تفرّد بهـٰذا السّياق عبدالغفار بن القاسم أبو مريم، وهو متروكٌ كذّابٌ شيعي، اتّهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعّفه الأئمّة رحمهم الله»([9]).

الطريق الثاني: أخرجه ابن جرير الطبري([10])، من طريق شريك.

وابن عساكر([11]) من طريق محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، أخبرنا عبّاد بن يعقوب، أنبأنا عبد الله بن عبدالقدّوس، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبّاد بن عبد الله الأسدي، عن علي بن أبي طالب به، نحوه بلفظ: «أيكم يقضي ديني، ويكون خليفتي ووصيي من بعدي؟».. وفيه: فقلت: أنا يا رسول الله! قال: «أنت يا علي! أنت يا علي!».

وهذا الإسناد فيه عللٌ قادحةٌ:

الأولىٰ: عبد الله بن عبدالقدّوس، قال يحيىٰ:«ليس بشيء، رافضي خبيثٌ». وقال النّسائي: «ليس بثقة». قال ابن عدي:«عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت». وقال الدّارقطني:«ضعيف». قال الذهبي: «كوفي رافضي نزل الرّي، روىٰ عن الأعمش وغيره»([12]).

الثانية: فيه عبّادٌ بن يعقوب الرّواجني، وهو رافضي، وقد اختلف فيه الأئمة جرحاً وتعديلاً([13])وها هي أقوال أهل العلم فيه:

المعدّلون:

خرّج له البخاري حديثاً في «صحيحه» مقروناً بآخر([14])، واعتذر ابن الجوزي للبخاري بقوله: «ربما لم يعلم إنه كان متشيعا»([15]). وقال أبو حاتم الرّازي: «كوفي شيخٌ»([16]).

وقال ابن خزيمة: «حدّثنا عبّادٌ المتّهم في رأيه، الثّقة في حديثه»([17]). ولكن ذكر الحافظ ابن حجر عن الخطيب إن ابن خزيمة ترك الرواية عنه آخراً([18]). وقال الدارقطني: «شيعي صدوقٌ»([19]).

قلت: وغلّط الدارقطني ابن حبّان في تضعيفه عبّاداً.

وقال الذهبي: «من غلاة الشيعة ورؤوس البدع، لكنه صادقٌ في الحديث»([20]). وقال: «رافضي ضالٌّ لكنه صادقٌ، وهـٰذا نادرٌ»([21]). وقال الحافظ: «صدوقٌ رافضي، حديثه في البخاري مقرونٌ، بالغ ابن حبّان فقال يستحقّ التّرك»([22]).

المجرّحون:

قال الإمام أحمد: «كان داعيةً إلىٰ الرّفض»([23]).

ذكر عبدان عن أبي بكر بن أبي شيبة وهنّاد بن السّري ــ أو أحدهما ــ: «فسّقه ونسبه إلىٰ إنه يشتم السّلف»([24]).

وقال ابن عدي: «فيه غلوٌّ فيما فيه من التّشيع، وروىٰ أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت وفي مثالب غيرهم»([25]).

وقال صالح جزرة: «كان يشتم عثمان، وسمعته يقول: الله أعدل من أن يدخل طلحة والزّبير الجنّة قاتلا علياً بعد أن بايعاه»([26]).

وقال ابن حبّان: «كان رافضياً داعيةً إلىٰ الرّفض، ومع ذٰلك يروي المناكير عن أقوام مشاهير فاستحقّ التّرك، وهو الذي روىٰ عن شريك عن عاصم عن زرّ عن عبدالله، قال رسول الله :«إذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه»([27]).

وقال ابن طاهر: «من غلاة الرّوافض، ويروي المناكير عن المشاهير، فاستحقّ التّرك، وإن كان محمد بن إسماعيل يروي عنه حديثاً واحداً في الجامع، فلا يدلّ ذٰلك علىٰ صدقه، لأن البخاري يروي عنه حديثاً وافقه عليه غيره من الثّقات. وأنكر الأئمّة في عصره عليه روايته عنه. وترك الرواية عن عبّاد جماعة الحفّاظ»([28]).

والخلاصة من كلام النّقّاد فيه: أنه ضعيف فيما يرويه في نصرة رفضه وتشيعه المذموم من الغلوّ في آل البيت وشتم الصّحابة رضي الله عنهم، كما هو الأمر في هـٰذا الحديث، وتقبل روايته فيما دون ذٰلك مع المتابعة كما فعل البخاري.

العلّة الثّالثة: محمد بن القاسم المحاربي، قال الذهبي: «تكلم فيه. وقيل: كان مؤمناً بالرّجعة([29])

([30]). وقال أيضاً: «مشهورٌ، ضعّف، يقال: كان يرمىٰ بالرّجعة، كذّابٌ»([31]).

قلت: قد صحّح له الدارقطني حديثاً في «سننه»، ووافقه ابن الملقّن([32]). وقد أكثر عنه الدارقطني في تصانيفه، وهو عنده ثقةٌ كما تقدّم.

والخلاصة: أنه ضعيف فيما يرويه في نصرة تشيعه، كما هو الأمر في هـٰذا الحديث.

قال الألباني رحمه الله:«وهـٰذا إسنادٌ واه بمرّة؛ مسلسلٌ بالرّفض.. لكن لم يتفرّد به المحاربي؛ فقد ذكره ابن كثير([33]) من رواية ابن أبي حاتم، عن عيسىٰ بن ميسرة الحارثي([34])، حدّثنا عبد الله بن عبدالقدّوس به؛ إلا أنه قال:«ويكون خليفتي في أهلي». وهـٰذا اللفظ هو الأشبه بالصواب؛ فقد رواه شريكٌ، عن الأعمش، عن المنهال به، ولفظه: «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟!» أخرجه أحمد([35])، وعنه الضّياء المقدسي([36])، والبزّار([37])».

العلة الرابعة: وفيه عبّاد بن عبد الله الأسدي، وقد تكلم فيه:

قال البخاري: «فيه نظرٌ»([38])، وهـٰذا القول من أشدّ عبارات الجرح عنده كما قرّره الذهبي في «الموقظة»([39]). ثمّ ساق البخاري هذا الحديث من طريق محمد بن الفضل، قال: حدّثني شريكٌ، به.

وقال ابن المديني: «ضعيف الحديث»([40]). وقال ابن الجوزي: «ضرب الإمام أحمد علىٰ حديثه عن علي: «أنا الصّدّيق الأكبر»، وقال: «هو منكرٌ»([41]). وقال عنه ابن حزم: «مجهولٌ»([42]). وقال الحافظ: «ضعيف»([43]). وقال الذهبي: «تركوه»([44]).

واتّهمه بالكذب والوضع في فضائل علي: ابن الجوزي([45])، والشّوكاني([46]). وقد وثّقه العجلي([47])، وتبعه ابن حبّان فذكره في «ثقاته»([48])، وكلاهما متساهلٌ في التّوثيق للضّعفاء والمجاهيل كما هو معروفٌ، وقولهما لا يقدّم علىٰ قول ابن المديني والبخاري.

وقال ابن الملقّن ــ بعد أن نقل تضعيف ابن المديني والبخاري وتوثيق ابن حبّان ــ: «عبّادٌ مختلفٌ فيه»([49]).

قلت: علىٰ افتراض إنه «مختلفٌ فيه»؛ فيجب ردّ ما يرويه وينفرد به في نصرة بدعة الرّفض كما هو الشأن في هذ الحديث. وأمّا مروياته البعيدة عن الرّفض فلا بدّ أن يتابع فيها من الثّقات.

وفيه أيضاً شريكٌ بن عبد الله القاضي، وهو صدوقٌ يخطئ كما قال الحافظ ابن حجر([50]).

الطريق الثالث: أخرجه أحمد ــ ومن طريقه ابن عساكر ــ، وابن جرير الطبري([51]) ([52])، من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك.. وفيه قوله : «يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكم بخاصة وإلىٰ الناس بعامة، وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم، فأيكم يبايعني علىٰ أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟».. الحديث.

قال الألباني: «وإسناده جيدٌ؛ لولا جهالةٌ في ربيعة بن ناجذ».

ويقال: ابن ناجذ، قال الذهبي: «لا يكاد يعرف»([53]). وقد تساهل في أمره جماعةٌ ولم يلتفتوا لكونه مجهولاً، فوثّقه العجلي([54])، وذكره ابن حبان في الثقات([55])، وتابعهما الحافظ ابن حجر، فقال: «ثقةٌ»([56]).

وللحديث شاهدٌ من حديث ابن عبّاس بلفظ: وقال لبني عمّه: «أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟» قال: وعلي معه جالسٌ فأبوا. فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. قال:«أنت وليي في الدنيا والآخرة».

أخرجه أحمد([57]) ــ ومن طريقه الحاكم([58]) ــ، والنّسائي([59])، في حديث طويل فيه عشر خصائص لعلي رضي الله عنه هـٰذه إحداها، وليس فيه ذكرٌ للخلافة مطلقاً.

وقال الحاكم: «صحيح الإسناد». ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: «ورجال أحمد رجال الصحيح؛ غير أبي بلج الفزاري([60])؛ وهو ثقةٌ، وفيه لينٌ»([61]).

قال الحافظ ابن كثير ــ عقب الطّرق المتقدمة ــ: «فهـٰذه طرقٌ متعددةٌ لهـٰذا الحديث عن علي رضي الله عنه، ومعنىٰ سؤاله  لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله، يعني: إن قتل في سبيل الله؛ كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل، فلما أنزل الله تعالىٰ: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾  [المَائدة: 67]. فعند ذٰلك أمن وكان أولاً يحرس حتّىٰ نزلت هـٰذه الآية: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ ، ولم يكن أحدٌ في بني هاشم ــ إذ ذاك ــ أشدّ إيماناً وإيقاناً وتصديقاً لرسول الله  من علي([62])، ولهـٰذا بدرهم إلىٰ التزام ما طلب منهم رسول الله ، ثمّ كان بعد هـٰذا ــ والله أعلم ــ دعاؤه الناس جهرةً علىٰ الصّفا، وإنذاره لبطون قريش عموماً وخصوصاً؛ حتىٰ سمّىٰ من سمّىٰ من أعمامه وعمّاته وبناته؛ لينبّه بالأدنىٰ علىٰ الأعلىٰ؛ أي: إنما أنا نذيرٌ، والله يهدي من يشاء إلىٰ صراط مستقيم»([63]).

روىٰ الحديث ابن جرير الطّبري([64])، وقد صحّح سنده!! مع إنه ذكر أكثر علله، فقال: «القول في علل هذا الخبر: وهذا خبرٌ عندنا صحيحٌ سنده، وقد يجب أن يكون علىٰ مذهب الآخرين([65]) سقيماً غير صحيح لعلل:

إحداها: ما ذكرنا من اضطراب الرواة فيه علىٰ الأعمش؛ فيرويه شريكٌ عنه، عن المنهال، عن عبّاد، عن علي. ويرويه أبو بكر بن عياش عنه([66])، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن علي، عن النبي .

والثانية: إن الأعمش عندهم مدلّسٌ ولا يجوز عندهم من قبول خبر المدلس إلّا ما قال فيه «حدّثنا» أو «سمعت»، وما أشبه ذلك.

والثالثة: أنهم لا يرون الحجّة تثبت بنقل المنهال.

والرابعة: إن شريكاً عندهم غير معتمد علىٰ روايته.

والخامسة: إن هذا الحديث حدّث به عن المنهال غير الأعمش؛ فقال فيه «عن المنهال عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي، عن النبي .

والسادسة: إن الصحاح من الأخبار وردت في ديون رسول الله  ومواعيده بعده بأن الذي تولّىٰ قضاءها وإنجازها عنه أبو بكر الصّدّيق رحمة الله عليه».

قلت: والعجب من الإمام الطّبري لا ينقطع! إذ ذكر هذه العلل الكثيرة القاضية بضعف الحديث، ثمّ أتبعها بأوجه الاضطراب الكثيرة له التي لم أنقلها خشية الإطالة، ولم يجب إلا عن السادسة، ثمّ يصحّح سنده!! بل قد أغفل أيضاً أهمّ علل الحديث وهي: ضعف وترفّض كل من: عبد الله بن عبدالقدوس وعبّاد بن عبد الله الأسدي، وأعتقد إن هذا مما لا يخفىٰ علىٰ مثله إن شاء الله تعالىٰ.

وبعد كتابة ما تقدّم وقفت ــ بتوفيق الله ــ علىٰ نقد العلامة الألباني لمسلك الطّبري في ذكره علل الأحاديث ثمّ يصحّحها، ووصفه بأنه من المتساهلين([67]).

وللحديث طريقٌ أخرىٰ بلفظ: «فأيكم يبايعني علىٰ أن يكون أخي وصاحبي؟!». أخرجه أحمد([68]) ــ ومن طريقه ابن عساكر([69]) ــ، من طريق أبي صادق، عن ربيعة بن ناخذ، عن علي.

وبعد هـٰذه الدّراسة لأسانيد هـٰذا الحديث وطرقه: هل حديثٌ فيه مثل هـٰؤلاء الضّعفاء والمتّهمين يقال عنه «من صحاح السّنن»؟!

أمّا متن الحديث؛ فغريبٌ بل منكرٌ، وفيه مجموعةٌ كثيرةٌ من العلل:

أولاً: ما ينسب إلىٰ النّبي  من أنه قال: «فأيكم يؤازرني علىٰ أمري هـٰذا علىٰ أن يكون أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم»؛ فهـٰذا الكلام لا يمكن أن يصدر من النّبي ؛ لأن مجرّد المؤازرة والإجابة لا توجب الخلافة، وقد أجابه الكثير غير علي، فلم يقدّم علي عليهم.

ثانياً: ممّن أجاب النّبي  وآزره في أوّل الدّعوة: عبيدة بن الحارث، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة ــ وهم من أهل البيت ــ، وكان علي صغيراً في ذٰلك الوقت لم يتجاوز الثّامنة، أو تجاوزها بقليل.

ثالثاً: كيف يعقل أن يقول النّبي  هـٰذا الكلام؛ ويكون علي حينذاك له من العمر ثمان سنوات أو أكثر بقليل، ثمّ ما النّصرة التي كانت من علي للنّبي  في مكّة، وهو في تلك السّنّ الصّغيرة؟ وأشهر ما ذكر ــ من مؤازرة علي ــ هو ما كان منه في ختام الدّعوة المكّية، من نومه علىٰ فراش النّبي  عندما خرج مهاجراً إلىٰ المدينة وبقائه في مكّة حتّىٰ أدّىٰ الأمانات التي كانت عند النّبي  إلىٰ أهلها.

رابعاً: ما ذكره من قول بني عبدالمطّلب لأبي طالب: «أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»؛ هو قولٌ باطلٌ؛ لأن أبا طالب لم يسمع ولم يُطِعْ النّبي ، فكيف يقال له: أمرك أن تطيع ابنك.

خامساً: لا يعلم أن أحداً دخل الإسلام علىٰ يد علي في مكّة، ولم يذكر إنه أوذي في سبيل الله في مكّة كما أوذي بعض الصّحابة، ولا نقول هـٰذا تنقّصاً لعلي، كلا حاشاه وحاشانا أن نقول ذٰلك في مثله رضي الله عنه، فنحن ــ ولله الحمد والمنّة ــ نتقرّب إلىٰ الله جلّ في علاه بحبّ الإمام علي. وإنما ظهرت آثار علي رضي الله عنه ــ سواءٌ في الدّعوة، أو الجهاد، أو العلم، أو النّصرة وغير ذٰلك من وسائل التأييد ــ ظهرت في المدينة بعد هجرته، وبعد أن بلغ مبلغ الرّجال، فقد كان رضي الله عنه:

ــ سيفاً من سيوف الله تعالىٰ التي سلّت علىٰ المشركين.

ــ وكان عالماً من علماء الصّحابة، بل من المبرّزين منهم.

ــ وكان إماماً في الزّهد، والورع، والسُّنة، والقرآن، والشّجاعة، والإنفاق، والتّقوىٰ، والعلم. فرحمه الله ورضي عنه ورفع درجته في علّيين وفقد فعل.

سادساً: بنو عبدالمطّلب في تلك الفترة لم يبلغوا أربعين رجلاً، وهذا تفصيلٌ وبيانٌ بذرّية عبدالمطّلب علىٰ ما جاء في كتب التّراجم والسّير:

  1. عبدالله. 2. العبّاس. 3. حمزة. 4. أبوطالب.
  2. أبولهب. 6. الزّبير. 7. الحارث. 8. ضرارٌ.
  3. المقوم. 10. الغيداق. 11. قثمٌ.       12. حجلٌ.
  4. عبدالكعبة.

أدرك أربعةٌ منهم فقط بعثة النّبي ، وهم:

  1. العبّاس. 2. حمزة.
  2. أبو طالب. 4. أبولهب.

أمّا ذرّية أولاد عبدالمطّلب([70])؛ فها هي:

أما ثمانيةٌ منهم وهم: حمزة، والزّبير، وضرار، والمقوم، والغيداق، وعبدالكعبة، وقثم، وحجل؛ فلم تذكر لهم ذرّيةٌ من الذّكور، إلّا ما كان من حمزة فإنه قيل: إن له ذرّيةً من الذّكور واحدٌ أو اثنان، وليس لهما ذرّيةٌ. وكذا أيضاً قثم؛ ذكروا له ولداً واحداً ولم يعقّب.

وأمّا عبد الله ــ وهو والد النّبي  ــ فلم يعقّب غير رسول الله .

وأمّا العبّاس؛ فلم يكن ولد له حينذاك أكبر أولاده الفضل، والفضل أصغر من علي، توفّي سنة (18 هـ) وله من العمر ثنتان وعشرون سنةً. أي ولد سنة (7) من البعثة، فهو إذاً لم يدرك هـٰذا الاجتماع المذكور في الحديث.

وأمّا أبو طالب؛ فأولاده الذّكور هم: طالبٌ، وعقيلٌ، وجعفرٌ، وعلي وهو أصغرهم.

وأمّا أبو لهب ــ لعنه الله ــ؛ فأولاده هم: عتبة، وعتيبة، ومعتبٌ.

وأمّا الحارث؛ فأولاده هم: عبيدة، وأبو سفيان. وأمية، وعبدالله، وعبدشمس، وربيعة، ونوفلٌ.

فعدّة من كان يمكن أن يحضر منهم هـٰذا الاجتماع المذكور في الحديث: واحدٌ وعشرون نفساً، فأين الأربعون، و«كلهم يأكل الجذعة» ؟!

 

([1])        «المسند» (883).

([2])       قوله: «أنت كنت بحراً» كنايةٌ عن واسع كرمه وجوده. حاشية «المسند» (2/226).

([3])       «السلسلة الضّعيفة» (10/613 ــ 623).

([4])       «تفسير الطّبري» (17/661).

([5])       «كشف الأستار» (2417).

([6])       «دلائل النّبوة» (ص364).

([7])        «دلائل النّبوة» (2/179).

([8])       «تاريخ دمشق» (12/67/2 ــ 68/1).

([9])       «تفسير ابن كثير» (6/410 ــ 411).

([10])     «تهذيب الآثار» (...).

([11])      «تارخ دمشق» (42/47 ــ 48).

([12])     «ميزان الاعتدال» (4431).

([13])     «من تكلم فيه وهو موثّقٌ» للذّهبي (178).

([14])     (7534).

([15])     «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (12/40).

([16])     «الجرح والتعديل» (6/88). ولكن قوله الذي في «تهذيب المزّي» (14/175)، و«الميزان» (4149): «شيخٌ ثقةٌ».

([17])     «صحيح ابن خزيمة» (2/376).

([18])     «تهذيب التهذيب» (5/110).

([19])     «سؤالات الحاكم» (425).

([20])    «ميزان الاعتدال» (2/379).

([21])     «تاريخ الإسلام» (8/106).

([22])    «تقريب التهذيب» (3170).

([23])    «العبر في خبر من غبر» للذهبي (1/359).

([24])    «الكامل» لابن عدي (4/348).

([25])    المصدر السابق.

([26])    «تاريخ الإسلام» (18/303).

([27])    «المجروحين» (794).

([28])    «تذكرة الحفّاظ» (ص35).

([29])    «ميزان الاعتدال» (8073).

([30])    الرجعة: أي رجعة علي إلىٰ الدنيا.

([31])     «المغني في الضعفاء» (5909).

([32])    «البدر المنير» (3/554).

([33])    «تفسير ابن كثير» (6/170).

([34])    كذا في المطبوع، والصّواب: الحسين بن عيسىٰ، كما في «تفسير ابن كثير»، و«تفسير ابن أبي حاتم»، و«الجرح والتّعديل» (3/60)، وقال فيه أبو حاتم: «صدوقٌ».

([35])    «المسند» (883).

([36])    «الأحاديث المختارة» (500).

([37])    «مسند البزار» (2418).

([38])    «التاريخ الكبير» (6/32).

([39])    قال الذهبي في «الموقظة» ص20: «إذا قال [البخاري]: فيه نظر؛ بمعنىٰ أنه متهم أو ليس بثقة». وكذا قال ابن كثير قريباً من ذلك في «الباعث الحثيث» (1/13).

([40])    «ميزان الاعتدال» (4126)، «تهذيب التهذيب» (5/98).

([41])     «تهذيب التهذيب» (5/98).

([42])    المصدر السّابق.

([43])    «تقريب التهذيب» (3153)

([44])    «الكاشف» (2569).

([45])    «الموضوعات» (1/341).

([46])    «الفوائد المجموعة» (ص303).

([47])    «معرفة الثقات» (765).

([48])    (5/141).

([49])    «البدر المنير» (8/42).

([50])    «تقريب التهذيب» (2802).

([51])     «تاريخ الطبري» (2/321).

([52])    قال الألباني رحمه الله: «ونقل السّيوطي عنه أنه صحّحه»، ولم أجد فيه تصحيح الطّبري، وأيضاً لم أجد في «كنز العمال» (13/149) التّصحيح المنسوب له، ولم ينقل السّيوطي تصحيح الطّبري لا في «الجامع الكبير»، ولا في «الجامع الصّغير وزيادته»، وهما أصل «الكنز».
تنبيه: يوجد في «الكنز» (13/148 ــ 149)، طريقٌ لحديث علي: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، ويعقبه كلامٌ للسيوطي يذكر فيه أن الطّبري صحّحه في كتابه «تهذيب الآثار»، فيبدو أن الألباني انتقل نظره فنقل تصحيح الطّبري ــ لحديث «أنا مدينة العلم» ــ علىٰ حديث «الدّار» الذي تكلم عليه.
ومما يؤكّد هذا: أن السيوطي ضعّف حديث «الدّار» كما في «الكنز» (13/174 ــ 175) حيث عزاه إلىٰ أحمد وابن جرير ورمز إليه بحرف (ض) أي ضعيف.

([53])    «الميزان» (2758).

([54])    «الثقات» (1/359).

([55])    «الثقات» (4/229)

([56])    «تقريب التهذيب» (1928)

([57])    «المسند» (3061).

([58])    «المستدرك» (3/132 ــ 134).

([59])    «خصائص علي» (6 ــ 7).

([60])    انظر ترجمته في المراجعة (26).

([61])     «مجمع الزوائد» (9/120).

([62])    هذا الكلام فيه نظر، فقد كان أسلم في ذلك الوقت جعفر بن أبي طالب، وعلي كان صغيراً لم يجاوز العاشرة.

([63])    «تفسير ابن كثير» (6/170).

([64])    في «تهذيب الآثار» (ص60 ــ 63)

([65])    أي من ضعّفه من أهل الحديث.

([66])    أي الأعمش.

([67])    انظر: «السلسلة الضعيفة»، الأحاديث: (5522،5547، 5549، 6313). ولمعرفة المزيد من طرق هذا الحديث وما فيه من اضطرابٌ ينظر أيضاً: «علل الدارقطني» (3/75).

([68])    «المسند» (1371).

([69])    «تاريخ دمشق» (42/47).

([70])    انظر «أنساب الأشراف» للبلاذري (1/87)، «زاد المعاد» لابن القيم (1/101).